محمود عزمي: رجل العالم في مصر

شارك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

محمود عزمي: رجل العالم في مصر

  • أسبوعي
  • نص
  • كتابة

في الزمالك شارع باسم محمود عزمي؛لكن من هو؟ ولماذا لا نعرف صاحب فكرة إنشاء أول جماعة منظمة مصرية لحقوق الإنسان؟!

اكتشفت الحكاية بالصدفة.
كتاب من حصيلة الأرشيف الاسبوعية؛ يحمل عنوان «خبايا سياسية» واسم الدكتور محمود عزمي على اليمين بخلفية صفراء؛ وهي نفس خلفية الجزء الأسفل؛ الذي ترك بالكامل لعنوان السلسلة: «كتب للجميع» التي تروج لشعار «كتب قيمة بقروش زهيدة » وصاحب الامتياز: «شركة التوزيع المصرية» وطبعت بمطابع جريدة المصري، وعلى رأس هيئتها اسم مهم في عالم صناعة الصحف هو السيد أبو النجا، مدرس التجارة الذي اقترحه الثري الشهير أحمد عبود باشا على صديقه أحمد أبو الفتح مؤسس صحيفة «المصري» (1937) ليدير الصحيفة

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

كتاب خبايا سياسية - الدكتور محمود عزمي

التي واكبت التمصير الاقتصادي وصعدت معه وأصبحت الأهم عبر سياسات السيد أبو النجا الذي أدار فيما بعد كل مؤسسات الصحافة المصرية تقريبا من أخبار اليوم و حتى الأهرام ودار المعارف (وجمع بينهما أيام السادات).
في «كتب للجميع» صدرت أعمال هامة لمشاهير الكتابة والأدب والصحافة والسياسة في الخمسينات من طه حسين «جنة الحيوان» وحتى «ألف ليلة الجديدة» لعبد الرحمن الخميسي مرورا بأسماء مثل فكري أباظة ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وسعد مكاوي وإحسان عبد القدوس.
هي نوعية كتب شعبية بأسماء

وعناوين جذابة للقارئ الواسع، وهذا يعني أن أفكار تلك الكتب كانت محل اهتمام «القراء الجدد» وقتها، الذين تبلورت ثقافتهم مع فيض ثورة 1919 وصراعات الأفكار من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وتفاعل الكتاب مع أفكار تشكل عالم ما بعد الحربين المدمرتين.
وهذا تقريبا محور كتاب «خبايا سياسية» فهي انطباعات وحكايات من كواليس السياسة والصحافة. لشخص عاش عن قرب أحداثاً مهمة بينها قصة أول جماعة منظمة لحقوق الإنسان في مصر.
هي قصة مدفونة في تاريخ علاقتنا بحقوق الإنسان.. بشكل أدق هي جزء من «الزمن المهمل»؛ المليء بانقطاعات

وفجوات تجعل كل رواياتنا عن تاريخنا الحديث ممسوخة؛ لا تواصل فيها؛ ولا خطوة تبني على خطوة.. في هذا الزمن المهمل يبدو محمود عزمي نموذجًا مهمًا وشارحًا للفكرة؛ اسمه مكتوب على شارع مهم في الزمالك، لكن لا أحد يعرف من هو، ولا سر اختياره ليكون اسمه على شارع في قلب أهم أحياء العاصمة!
والمعرفة التي أقصدها تتجاوز المعلومات الباردة/الجامدة التي قد تجدها مصادفة في مكان ما من القواميس ودوائر المعارف وبلغة منفرة تعكس -على عكس المقصود منها- فقدان المعرفة.
وقد تجد هذا النوع من المعارف

قصة مدفونة في تاريخ علاقتنا بحقوق الإنسان.. بشكل أدق هي جزء من «الزمن المُهمَل» المليء بانقطاعات

الجاهلة بأصحابها في تحول الاسم إلى مجال آخر من المعارف، يتجرد فيه من حكايته تمامًا، ويبقى مجرد اسم شارع يعرف من خلال المحلات الموجودة فيه، أو علامة مميزة تشرح الطريق للتائه.

سر محمود عزمي
اخترت هذه الصورة الطريفة لتقديم شخصية محمود عزمي. يهبط من سلم الطائرة؛ على رأسه قبعة وفي يده الحزام الذي يحد به من حركة كلبه الأنيق. هذه ألطف صورة للدكتور محمود عزمي عثرت عليها في أرشيفات أكثر من صحيفة، بقية الصور يبدو فيها «رجل في مهمة» مع مسئول أو في لجنة أو يستعد في خطبة، وبينها أخر صورة

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،
 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

محمود عزمي – بعيدا عن البرتوكول في الصورة الأولي، لكنه دائما في مهمة - آخر صوره يلقي كلمة مصر في الأمم المتحدة – 1954

التقطت له وهو على منصة الأمم المتحدة (3 نوفمبر 1954) يلقى كلمة مصر (كان رئيساً لوفدها) يدافع بها عن الرواية المصرية في واقعة توقيف السفينة الإسرائيلية «بات جليم» التي أرادت بها تل أبيب تحدي رسم الحدود المائية لمصر واختراقها. فردت السلطات المصرية بتوقيف السفينة واعتقال طاقمها البحري.
الدكتور محمود عزمي فارق الحياة أثناء إلقاء الكلمة …ونكست أعلام الأمم المتحدة حدادًا على وفاته. وهي نهاية دراماتيكية لشخص فريد؛ قام بتربية نفسه خارج الحضانات التقليدية للثقافات السائدة.. (المنتصرة والمتمردة عليها) …عاش جسراً للتواصل بين مصر

والمفاهيم الجديدة للإنسان فيما بين وبعد الحربين (بمفهوم أننا جزء من عالم واسع…ولسنا أسرى استدرار الماضي أو التلفيق بين التراث والحداثة…أو التوفيق بين الماضي والحاضر...إلى آخر الثنائيات المدمرة والمعطلة في التاريخ الحديث.
محمود عزمي ولد 1889 في قرية «شيبة قش» وهي قرية قديمة تابعة لمركز منيا القمح؛ محافظة الشرقية. والعجيب أن ويكبيديا تذكر القرية محتفية بأعلامها: صائد الدبابات محمد عبد العاطي، وزكريا عزمي رئيس ديوان حسني مبارك، والذي ينتمي غالباً إلى نفس عائلة محمود عزمي الذي يغيب ذكره عن أعلام القرية.

وربما يكون اختياره ضمن المبعوثين إلى باريس للدراسة (1908 إلى 1912) وعمره لا يتجاوز 10 سنوات؛ أول طريق المعرفة، كان في البعثة مع الشيخ مصطفى عبد الرازق وآخرين تعرفوا من خلال دراسات الفلسفة والحقوق والاقتصاد على المعارف من وجهة نظر حديثة.
هذا التعرف جعله حرًا في الحركة بين التيارات السياسية فانتقل من مصر الفتاة (أيام البعثة) إلى الحزب الوطني /مصطفى كامل (بعد العودة حيث كتب صحافة لأول مرة في جريدة العلم) …وكان على مسافة من "انفراد سعد زغلول بالزعامة"…لكنه ليس بعيداً عن أهداف الاستقلال ونمو الدولة والمجتمع

كانت حركة محمود عزمي أوسع من إنتاجه في الكتابة والأفكار..

(عبر الرأسمالية الوطنية والمساواة في الحقوق السياسية بين جميع الطبقات والاجتماعية بين الرجال والنساء). حركة محمود عزمي كانت أوسع من إنتاجه في الكتابة والأفكار …. لكن اختياراته دائما منحازة لترسيخ أفكار جديدة. فيساهم سنة 1918 في تأسيس «الحزب الديمقراطي» (لم تكن الديمقراطية معهودة في تسمية الأحزاب…) وكان اسمه الأول المفترض «الحزب الاشتراكي» كما ورد في قصة من قصص كتاب «خبايا سياسية».
كما أنه ضمن مساهمين في تطوير دراسة الصحافة عندما عمل في معهد التحرير والترجمة، وأسس صحف متعددة من «الاستقلال» وحتى

«وادي النيل» و«اليوم» و «الشباب» وكانت مغادرته للصحف الكبرى إلى صحف من إصداره متزامناً مع رفضه التعبير عن خط سياسي محدد …وطلبه الدائم باستقلال الصحف عن تلك الخطوط…ولم يظل طويلا حين اختير مديرا للرقابة على الصحف أثناء حكومة على ماهر (1939) وظل قبلها وبعدها مدافعاً عن حرية الصحافة (اختير رئيسا للجنة حرية الأنباء في الأمم المتحدة…وشارك في كتابة ميثاق شرف الصحفيين الدولي…وشارك في عضوية المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة).
هذا الشغف بالحرية والدستور والقوانين باعتبارها علامات التحديث

والتمدين …كانت وراء تفرده ووحدته وتميزه في نفس الوقت…حتى أنه كان من قلة المعترضين على مادة ربط التشريع بما تسمه الكيانات المنتظرة للخلافة «الشريعة الإسلامية» …والتي بدأت في دستور 1923 حينما أراد الملك فؤاد مغازلة حلم وراثته للخلافة العثمانية وحتى دستور 1970 حين أراد السادات منافسة جماعات الضغط من أجل الخلافة…بوضع مادة تثبت تدين الدولة.
وفي لجنة الخمسين التي كتبت دستور 1954 كان محمود عزمي مدافعاً عن حقوق مساواة المرأة…ضمن دفاعه عن الحريات والحقوق في لجنة ضمت طه حسين وعبد الرحمن بدوي

في لجنة الخمسين التي كتبت دستور 1954 كان محمود عزمي مدافعًا عن حقوق مساواة المرأة..

ومحمد السيد ياسين (صاحب مصنع الزجاج الشهير) وعبد الله لملوم الذي ستجد له دور في قصتنا. هذه الخلفية أكدت دهشتي من غيابه …حتى في مجالات الاقتصاد (كان استاذا في كليات ومعاهد مصرية وعراقية) وعمله في مصلحة الضرائب …وفي المجال الدبلوماسي من محرر إلى رئيس وفد في الجامعة العربية والأمم المتحدة. رغم كل هذا الدور الكبير في مجالات ترتبط بالاتجاهات الإنسانية الجديدة على العالم، إلا أنني لم أجد في جولتي الأولى إلا إشارات قليلة ونادرة إلى اسم محمود عزمي ولا الجماعة التي أسسها في 1930…. تكرر الأمر في جولات تالية حتى عثرت بعد كتابة المسودة.

الأولي لهذه القصة على كتاب للأستاذ هاني نسيره من إصدارات مركز القاهرة لحقوق الإنسان عن إسهامات محمود عزمي…وفيه إشارات ذكية إلى مسيرته من بينها تلك الإشارة: «…أن المصادفة وعدم التنظيم والتعقيد هما سبب هـذا التقلب في الميول.. ولكن لا يمكن للباحث أن ينكر أنه كان له أثر في حياته وكتاباته، ففـي حياته اتسع مجال التأمل والتوحد في ذهن عزمي لتنوع مدخلات خياله واتساعها خارج قالـب التوقع والنظام الخطي– مما جعله متنوعا ً في لغته وقضاياه.. تبدو في بعض الأحيـان لغـة اليومي والمعيشي في انسيابيتها وفكاهيتها ونظام حكيها أو أحاديثه حول اختيار الزوجـات وخاصة

الأجنبية وما عهد فيه من شفافية ووضوح، هذا في الحين نفـسه الـذي يبـدو فيـه القانوني الفقيه والمتابع للشئون الدولية المـدقق فـي أحـوال العـالم أو المفكـر صـاحب الأطروحات التحديثية المتميزة…» هذا التنوع ربما يكون ضد صاحبه…وهذه الرغبة في الاستقلال والتفرد أيضاً…وغالباً هو كان يلعب في منطقة وحده بلا جمهور ينحاز له. ولا مواد يمكن بيعها للرجل الصغير الذي يبحث عن آلهة أو أبطال. هنا لابد من هامش صغير قبل الانتقال للقصة …

التاريخ يشبه المدينة من هذه الزاوية، شوارع وطرق ومسارات تتواصل فيها سلالات وأجيال

الرجل الصغير في متاهته
التاريخ يشبه المدينة. تتراكم فيه طبقات من أثر العابرين والمقيمين. وتخطط فيه شوارع وطرق ومسارات تتواصل فيها سلالات وأجيال تبني أو تتصارع حول أفكار ومفاهيم وفضاءات ومشاريع وبنايات، وهذه علامة ثراء أية مجموعة إنسانية تتراكم خبراتها وحكمتها عبر التفاعل مع إيقاع التفاعل مع السائد والسعي إلى المستقبل؛ حول الحماية والطموح.. التكريس والتغيير.. هذه القصة الثرية تُختصر غالبًا في الروايات الرسمية، حين يكتبها المنتصر، ويزيِّن بها جحيمه السياسي، أو حين ينبش المغامرون لاكتشاف الروايات المدفونة.
يحدث هذا عادة.. وتختفي الخطوط

الواصلة في تاريخنا الحديث، بما أنه تاريخ صراع بين ثقافتين، ومدينتين، لصالح «روايات توفيقية» ماسخة، ينتصر فيها دائمًا الجانب الوسطي، الذي يجعل كل شيء قابلاً للمرور من عقل «الرجل الصغير» ذلك التعبير المناسب تمامًا ونحتاج إلى استعارته من صاحبه؛ فيلهلم رايش؛ وهو طبيب نفسي نمساوي عاش بين 1897 وحتى 1957، وهو من الجيل الثاني بعد فرويد لكنه يصنف حسب أكثر من مصدر بأنه «راديكالي» (أي يسير إلى حواف الأفكار ولا يقف في المنتصف).. وله كتب مثل «تحليل الشخصية» و«علم النفس الجماعي للفاشية» و«الثورة الجنسية»، غالبًا كانت راديكاليتها سبب وضع

اسمه على الجدران في ثورات شباب أوروبا المشهورة في 1968، والتعبير الذي جعلنا نعود إلى فيلهلم رايش ورد في كتاب «خطاب إلى الرجل الصغير»، يوجِّه فيه رسالة إلى الكائن الذي تشكله أفكار وروايات هي نفسها التي تصنع من أجله بعد ذلك. هذا «الرجل الصغير» هو نتاج وزبون تاريخ الخطوط المقطوعة، والفجوات التي يدفن فيها زمن كامل مهمل. والمدهش في القصة التي صادفتنا في هذا المدفن أنها تخص إنشاء «أول جماعة مصرية منظمة لحقوق الإنسان»، ومصدر الدهشة أن حقوق الإنسان ثقافة غريبة عن الثقافة القابلة للاستبداد التي عشنا فيها طويلاً، ولسنا وحدنا؛ فالبشرية

هذا «الرجل الصغير» هو نتاج تاريخ الخطوط المقطوعة، والفجوات التي يدفن فيها زمن كامل مهمل..

عاشت عصور ظلام كاملة، لم يكن فيها للإنسان حقوق، قبل بزوغ مفاهيم جديدة.. كيف ينسى أصحاب هذه المفاهيم الجديدة البذرة الأولى. لم تذكر هذه القصة إلا على استحياء عابر في بعض الكتابات، في ظل ما يشبه الإجماع على أن تاريخ حقوق الإنسان في مصر بدأ في الثمانينات.. وبالطبع بدأ العداء العنيف من السلطة تجاه «حركة» حقوق الإنسان من الفترة نفسها، هذا على الرغم من أن القصة المدفونة تقول إن السلطة بدأت العداء، ومن أعلى نقطة؛ بالتهديد بسحب الجنسية المصرية من الأعضاء الثمانية لأول جماعة مصرية لحقوق الإنسان.. حدث ذلك كله في 1930 سنة بداية حكم

إسماعيل صدقي الذي أعتبره الأب الروحي للديكتاتورية المصرية (بجناحيها المدني والعسكري).

كتالوج الديكتاتور الوطني

في تلك السنة تولى إسماعيل صدقي رئاسة الحكومة؛ وقرر إلغاء دستور 1923؛ كما أجرى تعديلاً على قانون الجنسية المصرية (ليكون أداة تصفية المعارضين السياسيين).
وهي سنة فارقة كشفت عن مشروع «الديكتاتور المصري» الذي جسَّده إسماعيل صدقي في نسخته المدنية، كانت هذه واحدة من سنوات يسمها «رجال الحكم» باسم الفوضى.. وتعني انفلات قبضة الحكم مع ارتفاع درجة

التعبير الشعبي عن رغبة التغيير. وفي تسمية «التغيير».. «الفوضى»، يتكرر قمع كل محاولات مشاركة «الشعب/الناس/السكان»، أو أيًّا ما كانت التسمية؛ في بناء نظام الحكم. إسماعيل صدقي ينتمي كليًّا إلى من يعتبرون السياسة هي الحكم.. وأن «مصر ليست أوروبا».. ليكون لها دستور يحقق الديموقراطية ويعتمد على الانتخاب.. وأن طبقة السياسيين هي التي تفهم أكثر وتعرف أكثر وقادرة على تحقيق الإنجازات. في مقابل اتهامه بالديكتاتورية دافع إسماعيل صدقي في مذكراته مستخدمًا ثلاثة مفاهيم خطيرة (في فرضها واستمرارها حتى الآن)..
أولاً: أنا «المُنقذ المعجزة»؛ وعندما عرض

إسماعيل صدقي ينتمي كليًّا إلى من يعتبرون السياسة هي الحكم.. وأن «مصر ليست أوروبا».

عليه الملك أحمد فؤاد تشكيل الحكومة (1930) في أعقاب فوضى إلغاء الدستور والحياة النيابية.. طلب من الوسيط أن «يُبلغ جلالته أنه إذا تم ذلك، فستكون سياستي أن أمحو الماضي بما له وما عليه، وأن أنظم الحياة النيابية والدستورية تنظيمًا جديدًا يتفق ورأيي في الدستور، واستقرار الحكم والقضاء على الفوضى، والسعي الجدي للإصلاح القومي»..
ثانيًا: «أنا الذي حررتكم من الاحتلال»؛ وأنا الذي دافعت عن سلطة المصريين بدلاً من سلطة الإنجليز.. إحلال وتبديل وليس إعادة بناء، وليس سعيًا إلى أن تتحرر سلطة الملك من تركيا وإنجلترا، وسلطة المصريين على السودان، وكل

تركيبات تثبت «جسم السلطة» الذي هو في النهاية ماكينة البيروقراطية الهادرة حتى الآن، باعتباره الدولة التي تحتاج إلى رأس يعرف أكثر من الآخرين ويفرض سلطانه وهيبته (الهيبة ستقرأها كثيرًا في مذكراته.. وستسمعها كثيرًا حين تريد السلطوية استعادة قبضتها..).
ثالثًا: «سأطارد لعنة الحزبية..»؛ يتخيل إسماعيل صدقي الحزبية صداع يعطل مسار الإنجازات، وسعي إلى «الكراسي»، بينما يقدم نفسه هو «عابر سبيل» في سبيل الأمة.. والحزبية هنا معطلة لأنها تثير الفوضى والصراع، وهو ابن الاستقرار الذي يعني بقاء السلطة في أهلها.. (أو طبقتها.. أو سلالتها)، والعجيب أنه

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

سعد زغلول..كانت جاذبيته الشخصية..وشعبيته تقلق كل دكتاتور

ينتقد دستور 1923 باعتباره يكرس حكم الأوتوقراطية أي حكم الفرد.. وغالبًا يقصد سعد زغلول الذي كان بجاذبيته الشعبية يؤرق كل سلطة.. ويريد الجالس للسلطة المبعوث من العناية الإلهية لها أن يحكم دون إزعاج (أوتوقراطية طبيعية.. في مواجهة أوتوقراطية بالجاذبية الشعبية). إسماعيل صدقي ألغى دستور 1923 لأنه «استوحي الدستور البلجيكي وتجارب أوروبية أخرى».. لم تنظر إلى أن المصريين غير قابلين للديمقراطية؛ (وهي مقولة خالدة لكل ديكتاتور مصري أصيل، تتوارثها أجيال من السلطويين.. وسمعناها من عمر سليمان مدير مخابرات مبارك..)،

ولم يدرك صدقي كيف سينمو وعي المصريين والحريات ممنوعة والمجال العام مغلق والسياسة تقلق استقرار البلاد ومزاج «المتربع على الكرسي» ومن هنا بدأت قصة جماعة حقوق الإنسان والجنسية؛ من عند لحظة تولي إسماعيل صدقي الحكم.. ويبدأ محمود عزمي مقاله في كتاب «خبايا سياسية» الصادر تقريبًا سنة 1950 (السنة التي أصدر فيها إسماعيل صدقي مذكراته).
المقال مكتوب في زمن آخر، عندما كانت بريطانيا تكتب «بريتانيا».. وإيطاليا «إيتاليا».. وعندما كانت الشيوعية هي العدو الأول الذي يتصدر قائمة أعداء الدول المسيطرة على العالم من بريطانيا وفرنسا وأتباعها في المستعمرات ومن بينها مصر..

إسماعيل صدقي- مهندس الدكتاتورية في مصر الحديثة وواضع كتالوجها

إسماعيل صدقي- مهندس الدكتاتورية في مصر الحديثة وواضع كتالوجها

المقال بعنوان:
«حكومة صدقي باشا في سنة 1930»
ويكتب محمود عزمي في مطلعه:
«لما وُلي إسماعيل صدقي باشا الحكم سنه 1930، وقلقت البلاد من جراء ظروف توليه الحكم على دستورها وحريتها العامة وحريات أفرادها الخاصة. هبَّ المصريون صاخبين محتجين داخل مصر وخارجها هَبَّة طبيعية محتوية هي هبة الدفاع عن النفس والإحساس بالخطر الداهم. كنت في ذلك الحين بمدينة (لوزان) - بل بإحدى ضواحيها- أتبع فيها علاجًا لمرض السكر الذي كنت أحسست بشدة وطأته وأنا قبل ذلك بأسابيع في مدينه

لندن، حيث كنت لمناسبة ما كان يجري فيها من مفاوضات بين (الوفد المصري) وحكومة العمل (البريتانية).
وفي (لوزان) كما في (جينيف) وسائر عواصم العالم في غرب أوروبا طلبة مصريون يغضبون بطبيعة الحال لما سجل ببلادهم من أذى وخطر، فاجتمع طلبة (لوزان) المصريون، أو المصريون المستزيدون من العلم هناك إذ كثرتهم قد جاوزت حدود التحصيل العادي بإتمامها الدراسية العالية في مصر، وتباحثوا فيما يجب أن يؤدوه لبلادهم في تلك المحنة، واجتمعت بهم بعض الأحايين وقرروا أن يبعثوا ببرقيات إلى مصر يحتجون على صدقي باشا في

بعضها، ويناصرون (الوفد) في بعضها الآخر، ويدعون الأمة قاطبة إلى أن تقف الموقف الجيد بها وبدرجة إدراكها معنى الدستور وتقديرها نعم الحياة النيابية. ثم رأوا أن يقوموا بنصيبهم من الدعاية في مثل تلك الظروف، فراحوا ينشرون مقالات وأحاديث في الصحف السويسرية ينتهزون فرص الاجتماعية التي تحضرها ذوو النفوذ في العالم الدولي فيتقدمون خلالها بما يستطيعون أن يتقدموا به شرح للموقف المصري وما يكتنفه من تبعات».

الحزبية هنا معطلة لأنها تثير الفوضى والصراع، وهو ابن الاستقرار الذي يعني بقاء السلطة في أهلها..

في هذه المرحلة كان جزء لا يستهان به من الصراع السياسي بين "الحركة الوطنية" وسلطة الاحتلال يجري خارج حدود مصر.. بداية من المفاوضات (بين المصريين والإنجليز) ومرورًا بالدعاية لما عرف لوقت طويل «القضية» أو «المسألة المصرية».. الخارج لم يكن فقط «الاستعمار»؛ بل أيضًا القوى الجديدة التي صعدت قبل وبعد الحربين، وتريد مرحلة جديدة دون سياسات استعمارية.. وهي ما مثلها مبادئ ويلسون (وهي مبادئ وضعها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في ١٤ نقطة تكون أساساً للسلام بعد الحرب العالمية الأولى)، وفيها إقرار بأن «من حق كل أمة مهما كانت صغيرة اختيار مصيرها،

وتقرير الحكم الذي ترضاه بمحض إرادتها وحريتها».
الخارج كان امتداد للداخل…في صراعاته ويمثل إلى جانب إدارة الصراع مع المحتل، رغبة في التواصل مع عالم جديد يتشكل فيما بعد المرحلة الاستعمارية/الكولونيالية.
وهكذا عندما أصبحت الإقامة في ظل حكم إسماعيل صدقي خطرًا.. قرر «الأحرار» كما يُطلق عليهم محمود عزمي المغادرة.. وفي فقرة عنوانها في باريس يكتب:
«ولما أتممت علاجي (بلوزان) قصدت إلى باريس، وقد اعتزمت الإقامة فيها إقامة، لأني أدركت أن حياة الأحرار بمصر في عهد صدقي باشا لن تكون،

، بحيث تمكنهم من توجيه مواهبهم التوجيه الذي يحسبونه الوحيد في مثل تلك الظروف التي تولى الحكم فيها صدقي باشا، ولأني أعرف من ناحية أخرى أن الإقامة في أوروبا تمكن من العمل لمصر عن طريق الدعاية لدى عامة المشتغلين بالمسائل الشرقية، ولدي خاصة المتصلين بها كذلك على الخصوص من كثرة المصريين الذين يطلبون العلم في باريس من رجال البعثات الحكومية التي يحول ارتباطهم بها دون حرية نشاطهم لأجل الأمور العامة فان في العاصمة الفرنسية دائمًا -وفى ذلك الحين بالفعل- نواة طيبة من (الأحرار) تعمل البيئة الفرنسية في تكوينهم عملاً يحسون معه ضرورة

في هذه المرحلة كان جزء لا يستهان به من الصراع السياسي بين «الحركة الوطنية» وسلطة الاحتلال يجري خارج حدود مصر

التقدم للمصلحة العامة وضرورة البذل فيها».

ومن هنا نشأت فكرة وبذرة جماعة حقوق الإنسان كما نفهم من تتابع الأحداث كما يكتبها محمود عزمي:
1
ورأت تلك النواة من المصريين تنظيمًا لجهودها وتدعيمها لدعايتها واحتياطًا لما عسى أن يوجه إليها من (مضايقات إدارية) أن تؤلف من نفسها (شعبة جماعة حقوق الإنسان)، وهي جماعة سياسية قوية لها في باريس إلى جانب مركز اتحادها الفرنسي العام، مركز لاتحادها الدولي العام أيضًا تتعبه كل ما ينشأ من شعب غير فرنسية.

وقامت بعض الصعوبات المبدئية في سبيل إنشاء الشعبة المصرية، رجع أهمها إلى اعتبار (نظامي) يقضي بأن يكون مركز العمل الرئيسي في مدينة من مدن الدولة التي تتعبها جنسية المؤلفين لها، لكن الاستعانة (بالسوابق) ذللت تلك الصعوبات الجوهرية بعد سبق للإيتاليين غير (الفاشيين) الذين ابتعدوا عن بلادهم بحلول عهد (موسوليني) فيها أن أسسوا ( شعبة إيتالية) لجماعة حقوق الإنسان بباريس، صدر من لجنة اتحاد الجماعة الدولية بعد الرجوع إلى الجماعة لفرنسية ذاتها قرار بإعفائها من شرط الوجود بالبلاد الإيتالية، لأن أفرادها إنما هم في ظروف تجعل هذا الوجود

بالنسبة لهم مستحيلاً.
على هذه الوتيرة عومل طلب إنشاء الشعبية المصرية وصرح لها بالقيام فوضعت لائحتها ضمنتها أغراضها، وأشارت فيها إلى أنها مقيمة بباريس بصفة موقوتة إلى أن تزول ظروف الحكم الدكتاتوري فيها.
2
وأخذت (الشعبة المصرية) تنشط وتقوم بدعايتها عن طريق المقالات في الصحف والتحدث إلى رجال الدولة والبرلمان عن طريق عقد الاجتماعية وإلقاء الخطب فيها.
وكان من الاجتماعات التي عقدتها (الشعبية المصرية) بباريس اجتماع جعلت مناسبته ذكرى مرور خمسين

نشطت «الشعبة المصرية» بالمقالات في الصحف والتحدث إلى رجال الدولة والبرلمان..

عامًا على حظوة مصر بنظامها النيابي الصحيح، قبل أن تحتل إنجلترا وادي النيل، فتعطلت، وتستبدل به نظام (الجمعية العمومية ومجلس شورى القوانين). وحضر الاجتماع عديدون من أصحاب الرأي من الفرنسيين، ورأسه أحد أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي خطب فيه من خطب المصريين غير واحد من أعضاء مجلس النواب الفرنسي أيضًا.
3
وظهر لنا بارحة الاجتماع وأمسيته فضل جماعة حقوق الإنسان وحكمة تأليف المصريين شعبيتها المصرية بباريس، وذلك أنه اتصل بنا أن المفوضية المصرية هناك سعت لدى

إدارة البوليس - ولديه مباشرة دون وساطة وزارة الخارجية الفرنسية - كي يمنع الاجتماع الذي أعدت معداته فاحتطنا لنتائج المسعى المصري الرسمي، إذا أحطنا به علم الاتحاد الدولي والاتحاد الفرنسي، فتدخل الأخير تدخل التنبيه إلى أن شعبتنا المصرية مؤلفة وفق قوانين الجماعة ولوائحها، وأن قانونها مسجل وفق أحكام القانون الفرنسي منشور في جديدة فرنسا الرسمية، وأن كل حد من نشاطها إنما تعتبر اعتداء على الجماعة العامة ذاتها.
ووقع الأمر إلى من هم فوق إدارة البوليس في العاصمة الفرنسية من رجال الدولة فأشاروا باتهام (حضرة صاحب المعالي محمود فخري باشا

وزير مصر المفوض بباريس) أن حكومة الجمهورية لا تستسيغ تدخله المباشر لدى البوليس، وأنها لا تستطيع الحد من حريات الأفراد والجماعات ما دامت أعمالهم في حدود القوانين الفرنسية.

وماذا تفعل الحكومات الديكتاتورية سوى الاستبداد بالقانون.. وترويج مفاهيم مطاطية مثل «نظام مصر الاجتماعي»؛ وماذا يعني هل هو الحفاظ على الجهل/التخلف/الخضوع للجالس على العرش وفي القصر وفي المكتب العالي؟ هل هو النظام نفسه الذي ينتج عنه تربية لا تصلح للديموقراطية؟ هل هي الخصوصية

ماذا تفعل الحكومات الديكتاتورية سوى الاستبداد بالقانون، وترويج مفاهيم مطاطية؟

التي ترتكب باسمها جرائم القمع وانتهاك الحريات الخاصة والعامة؟ انظر ماذا فعل إسماعيل صدقي ليرسي نظامه (الملهم لكل من ورث الحكم بعده).

اسقاط الجنسية
ولنتابع بقية الحكاية كما جاءت في خبايا محمود عزمي الذي يحكي تحت عنوان القانونان الاستثنائيان:
1
وكان صدقي باشا قد أصدر دستوره (دستور سنة 1930) وكان البرلمان قد انعقد، وكان هو قد استصدر قبل انعقاد برلمانه بيومين أو ثلاثة أيام مرسومين بقانونين، عدل بأحدهما أحكام قانون المطبوعات، ومواد قانون

العقوبات المتصلة بالصحافة، وعدل بثانيهما قانون الجنسية؛ إذ أضاف إلى حالات إسقاط الجنسية الواردة فيه حالة جديدة خاصة (المصريين المقيمين في الخارج) والذين يتصلون أي نوع من أنواع الاتصال بهيئة أو مكتب أو جماعة تتصل هي الأخرى أي نوع من أنواع الاتصال بحكومة نظامها لاجتماعي مخالف لنظام مصر الاجتماعي، وفهم أمام صدود هذا المرسوم الثاني أن (الشيوعية) هي التي سيقضي مجرد الاتهام بها اتهامًا إداريًّا بإسقاط الجنسية عمن يراد إسقاط الجنسية عنهم من المصريين المقيمين في الخارج كما فهم أن استصدار (المرسوم بقانون) الخاص بهذا التعديل في قانون

الجنسية قبل أن ينعقد البرلمان بيومين اثنين معناه قيام الحكم الجديد من يوم إخراجه وعدم إعطاء الفرصة لمناقشته في البرلمان أو تعديله.
هكذا اكتملت حزمة أدوات السلطة؛ بتهم الخيانة والعمالة للخارج، لكل من يتصل بعناصر دولية، بينما الحكومة تتفاوض مع نفس الخارج لكن عبر أجندتها الخاصة، في احتكار يتباهى بنفسه.. بالإضافة إلى قوانين تجريم وسحق، يقف المختلفون مع الحاكم عرايا من الحقوق والشراكة في إدارة المجتمع (وهو شرط السياسة التي لا تعني الحكم.. وانما المشاركة الواسعة في إدارة الشأن العام)..
وكما يحدث حتى الآن يبدأ التهديد

كما يحدث حتى الآن يبدأ التهديد بالشائعات.. وربما يتوقف عندها..

بالشائعات.. وربما يتوقف عندها.. لكن الإشاعة خشبة في ترس الحركة المقلقة للديكتاتور.. بالطبع سيظهر وكلاء الديكتاتور كمحركين للحملة بدلاً عنه.. وهنا لا بد أن نتذكر اسم عبد الله لملوم كأحد هؤلاء الوكلاء المنسيين، والذين تتغير الأسماء في سلالتهم لكنهم الشخص نفسه.
2
وراحت الإشاعات من القاهرة إلى باريس أو غير باريس من المدن التي يقيم فيها المصريون (غير المرغوب فيهم) من صدقي باشا ونظامه، وراحت تجري بأسماء معينة بين هؤلاء وهؤلاء، تقول إنهم المقصودون بالذات بذلك التشريع الاستثنائي المستعجل، وأنه

سوف تصدر المراسيم بإسقاط الجنسية عنهم بين حين وحين.
والحق أن الذين كانت تجري الإشاعات بأسمائهم كانوا يقابلونها بابتسامه الاستخفاف السخرية بالاستعداد للبذل التضحية في سبيل آرائهم، وفي سبيل مخاصمة نظام صدقي باشا والحمل عليه بكل ما يستطيعون.
3
ووصلت إلينا الجرائد المصرية يومها، وفيها سؤال برلماني تقدم به أحد أعضاء حزب الاتحاد أو الحزب الشعبي -هو عبد الله لملوم على أيه حاله- يسائل فيه الحكومة متى تعتزم تطبيق أحكام قانون الجنسية الجديدة؛ فتسقط الجنسية المصرية عن أولئك المصريين

المقيمين بباريس والمتصلين بجامعة تدين بالمبادئ الشيوعية وتتصل بحكومة موسكو وهي (جماعة حقوق الإنسان). قرأنا ذلك السؤال البرلماني الفذ، ودعونا مجلس شعبتنا إلى الاجتماع، وتبادلنا الرأي فيما يصح اتخاذه لمناسبته من إجراء، وهممنا بنشر السؤال في الصحف الفرنسية وفي الصحف الإنجليزية، ومجرد نشره يدل على قدر جهل (النائب المحترم) المتقدم به، كما يدل على سوء نية الدافعين لتوجيهه. والفرنسيون والإنجليز يعلمون أن جماعة حقوق الإنسان تضم بين أعضائها رجالات فرنسا وإنجلترا السياسيين، وتضم بخاصة في صفوفها الأولى من كانوا يتولون في ذلك

صدر مرسوم بحرمان ثمانية من المقيمين بالخارج لاتصالهم بأنظمة شيوعية..

الوقت الحكم في فرنسا وإنجلترا، ومنهم (أريو) و(بول ونكور) و(باتو) و(ماكدونالد) و(هندرسون) و(جون سيموني) الفرنسيون والإنجليز يعلمون كذلك أن المؤتمر السنوي الذي كان قد عقدته جماعة حقوق الإنسان في ذلك الوقت أيضًا كان قد أصدر قرارًا يعلن فيه عداءه لكل نظام (دكتاتوري) يميني أو شمالي فاشي أو بلشفي. وهذا القرار هو نفسه الذي اتخذه حزب العمال الإنجليزي في أحد مؤتمراته التالية لذلك المؤتمر الفرنسي الدولي لكنا أثرنا إهمال تلك الجهالة في انتظار نتيجة المؤامرة المدبرة.
وكان السؤال هو آخر سؤال وجه في دورة ذلك الحين البرلمانية، وانقضت

الدورة دون أن يرد عليه أحد من الوزراء، واعتبرنا نحن المؤامرة، مؤامرة تهديدية يقصد بيها إسكاتنا أو الحد من نشاطنا.
4
وظهر يوم من أيام أغسطس على ما أذكر جلست إلى (كافيدي لابي) أقرأ جريدة (التميس) بعد وصولها إلى باريس بالطائرة، وقع نظري فيها على برقية من مراسلها القاهرة يقول فيها: إن مرسومًا صدر بحرمان ثمانية من المقيمين بالخارج لاتصالهم بأنظمة شيوعية.. وكان سؤال عبد الله لملوم لا يزال عالقًا في الذهن، وإن كانت دورة برلمانهم قد انتهت دون أن يرد عليه وزير وكان عدد أعضاء مجلس إدارة

الشعبية المصرية لجامعة حقوق الإنسان بباريس ثمانية كمان ورد في برقية (التيمس) فخامرني بعض شك أول الأمر، ثم قررت أن أتصرف على اعتبار أن أولئك الثمانية التي تعنيهم البرقية هم نحن أعضاء مجلس إدارة الشعبة بالذات.
5
وجال بخاطري تدليل أن فرنسا لا ترضى عن الشيوعية، وهي بطبيعة الحال لا ترضى عن الأجانب الذين يتصلون بالشيوعية ويقيمون في بلادها، وليس لديها قطعيًّا أي دليل أو شبه دليل أو قرينة أو شبه قرينة على أني متصل بالشيوعية بأي نوع من أنواع الاتصال.
وأستطيع أن أدُلك بغاية السهولة على

كانت السلطات الفرنسية تعتبر عدم وجود هذه التذكرة سببًا كافيًا لإخراج من تصل إليه يدها لمناسبة من المناسبات

انتقاد تلك الصلة انتفاءً، بل إني مسجل عند الشيوعيين في عداد (الرجعيين)، لأني (مثقف من ناحية، والمثقفون في عمومهم خصوم لذلك (النظام الأحمر)، وللآن لي مقالات ضد (الشيوعية) بالذات من ناحية أخرى. لكني أعذر فرنسا إذا هي لم تعر تدليلاتي أذنًا ما دامت حكومتي أنا -ومفروض أنها تعرفني خيرًا مما تعرفني أية حكومة أخرى- تتهمني بتلك التهمة وتذهب إلى حد اسقاط الجنسية من أجلها عني، وإذن فلا يبعد أن تذاع الأسماء التي اشتملها ذلك المرسوم الذي أشارت إليه برقية (التيمس) أن تتقدم السلطات الفرنسية وتطلب إلينا مغادرة البلاد.
ولما كان واجبًا على كل أجنبي مقيم

في فرنسا أكثر من شهرين أن يحصل على (تذكرة شخصية) تبيح له الإقامة، وكانت السلطات الفرنسية تعتبر عدم وجود هذه التذكرة سببًا كافيًا لإخراج من تصل إليه يدها لمناسبة من المناسبات، وكنت أنا قد قدمت طلب الحصول على (تذكرة الإقامة)، لكن لم أقصد إلى المحافظة لاستلامها فعلاً، فقد كان أول همي بعد أن قررت مواجهة الأمر كأنه واقع بالفعل أن أسعى على عجل لاستيفاء هذا الإجراء وفي تمام الساعة الثانية بعد الظهر كنت بالمحافظة وكانت في جيبي تلك التذكرة.

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

من الرسوم المصاحبة للمقال في كتاب خبايا سياسية

6
وفي انتظار الساعة الثانية بعد الظهر -وهو موعد استئناف العمل في الدواوين بفرنسا حيث يقف عمل الصباح عند الظهر تمام- سعيت لمقابلة بعض الزملاء القاطنين بالحي اللاتيني بالقرب من المحافظة، وقصصت النبأ على من قابلت، ونصحت بالاستعداد وبالاتصال ببقية الزملاء، قصد الاستعداد أيضًا، وتقابلنا عصرًا وتحدثنا في الأمر جديًّا، وتلمسنا طريقًا نستطيع أن نعرف بها أسماء أولئك الثمانية على التحقيق، وأردنا أن نرسل برقية لإحدى الصحف في القاهرة، أو نطلب إلى مراسل إحداها في باريس أن يتصل بجريدته ويحصل على تلك الأسماء

لكننا ترددنا في تنفيذ هذا الرأي لقله ملابساته.
7
وحضر اجتماعنا صديق كان يمر بباريس مرورًا، لا يشتغل بالسياسة ولا بالصحافة، فلا يلفت اسمه الأنظار وعلم من أمريكا ما كنا نتباحث فيه، فعرض علينا أن يبعث هو ببرقيه لأحد أصدقائه في القاهرة يسأله الخبر، فشكرنا له وساطته، ورحنا ننتظر الرد في الصباح.
8
وفي انتظار الرد عرضت في المساء لمسألة الحدود التي اختارها حين تطلب إلى السلطات الفرنسية مغادرة بلادها ففكرت في سويسرا، ثم في بلجيكا ثم في

إسبانيا، وكان الملك ألفونس قد غادرها وأعلن فيها نظامها الحاضر – واستقر رأيي عليها وذكرت أن لا بأس من تمضية وقت في الأندلس، أستعيد فيه ذكريات الماضي العربي المجيد.
ثم لاح في الأفق خاطر دفع تلك الخواطر جميعًا وتساءلت لماذا لا أختار إنجلترا ولماذا لا تكون لي فيها حملة على نظام صدقي باشا الذي يسأل عنه الإنجليز كما يسأل صدقي باشا، ولماذا أظهر في مقالات أكتبها بشاعة ذلك التواطؤ (الإنجليزي الصدقي)، الذي يكون من أثره أن يقال لمن يجري في عروقه دم مصري قديم عتيق (أنك أصبحت بمجرد جرة قلم غير مصري)، ولما وقفت في المطاف عند هذا الحل

تخيل أنى حرمت من جنسيتي المصرية فأية جنسية جديدة اختار؟ وهل الجنسية قميص يمكن استبداله؟

الأخير رضيت به وهدأ روعي، ورحت أنتظر الرد على برقية الصديق إلى الصباح، ونمت نومًا عميقًا بعد أن اتصلت تليفونيًّا بزوجتي التي كانت تصطاف بالقرب من (بيارتز) وأخبرتها الخبر، وتفاهمت وإياها على ما كنت قد وصلت إليه من اختيار لحدود حين الرحيل.
9
على أن سؤالاً كان يتردد على طوال ذلك النهار وتلك الأمسية، هب أنى حرمت من جنسيتي المصرية فأية جنسية جديدة اختار؟ وصعبت على الإجابة عن هذا السؤال؛ لا لدقة الاختيار بل لعدم استطاعتي اعتبار الجنسية (قميصًا) يُنتزع ليحل محله غيره،

والجنسية في نظري كالدين، لا أسيغ استبداله بالخروج منه والدخول في غيره، وأسفت إذ لم تصل البشرية بعد في اعتبار الجنسية إلى ما وصلت اليه اعتبارات شتى أخرى؛ فتكون عندنا (لا جنسية) تعتنقها على الأخرى، أو يكون عندنا (جنسية عالية) يعتنقها كل إنسان.
10
وفي الصباح دق التليفون، وإذا بذلك الصديق الذي تفضل بالاستفهام من القاهرة تلغرافيًّا يقول بصوت متهدج (هذه هي الأسماء)؛ الدكتور التوني. أبو بكر راتب. خليفة بويلى. توفيق صليب. محمود عزمي. ومضى يذكر أسماء الثمانية الأعضاء في لجنة الشعبة

المصرية لجماعة حقوق الإنسان، وأنا أتلقى منه في هدوء الخبر الذي كنت وطنت نفسي على صحته منذ البارحة، ثم يضحك الصديق ضحكة مسلية، ويكذب الخبر ويقول بل إنها (شارلوت) رزنتال.. و.. و..). ومن لا أدرى الآن من ممن أسقطت عنهم حق الجنسية المصرية بمقتضى المرسوم الأول الصادر وفاقًا لحكم تلك المادة التي أضافها صدقي باشا إلى قانون الجنسية قبل اجتماع برلمانه بيومين اثنين، وبادرت من فوري أُبلغ الإخوان مداعبًا بمثل مداعبة الصديق، وإلى هنا انتهى الحديث في ذاته ولو أنه ظلت له بعد ذلك ذيول.

وفاةٌ مفاجئةٌ لمحمود عزمي أثناءَ كلمته في الأممِ المتحدةِ، نهايةٌ رمزيةٌ لحياةٍ كرّسها لقضاياُ الحريةِ والحقوقِ.

الخوف من أفكار جديدة
القصة طبعًا ولدت منها قصص أخرى.. لكنها تكشف ماذا خلق الخوف من الفكرة أفكارًا جديدة مثل حقوق الإنسان. وعلى الرغم من ذروة نجاح هذه الأفكار بتوقيع الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في 1948، فإن العداء في بعض الدول الفخورة بديكتاتوريتها ما يزال مستمرًا، على الرغم من أن الذروة الآن في مرحلة الهبوط، وتنال حركة حقوق الإنسان مراجعات تتطور فيها الفكرة إلى آفاق لا تجعلها مجرد كريمات مرطبة للنظام المتحكم في العالم.. وفي الإطار الموازي كان الخوف من انتصار الثورة البلشفية سنة 1917، حين توحدت كل القوى الاستعمارية

محمود عزمي ومن خلفه الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي شارك في صياغته سنة ١٩٤٨

محمود عزمي ومن خلفه الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي شارك في صياغته سنة ١٩٤٨

والوطنية ضد "وباء الشيوعية".. وهكذا أسمى البوليس السياسي وحدة المكافحة الخاصة بمجموعات الاشتراكيين والشيوعيين.. الذين صنفوا على أنهم فوضويون؛ الاسم الشائع وقتها قبل تسميات أخرى حسب كل عصر وهذا يكشف مبدأ وراثة الأنظمة لكتالوج 1930 الذي وضعه إسماعيل صدقي…ويحارب فيه الحريات باسم الوطنية والحقوق باسم الدولة ويحافظ على وضع الرعايا ليحرمنا من المواطنة الكاملة.
هذه قصة عن روايتنا الناقصة مع الحرية، تتبعثر في السوق العشوائي على صفحات وقوائم ومقتنيات هواة وتجار وصيادي الركام الكبير لتراث المغامرين

من الكتاب والمفكرين والفنانين وعابري السبيل؛ تحمل بصمات وعلامات تركها أصحابها لنتواصل معها؛ تواصل قد يؤدي بها إلى «المتحف»؛ والفخر بامتلاك الكنوز، وقد نعيد بها اكتشاف عالمنا المبتور.

اقرأ أيضاً

ذكريات فيروز كما روتها لنازك باسيلا

ذكريات فيروز كما روتها لنازك باسيلا

لطيفة الزيات: قائدة انتفاضة ١٩٤٦

لطيفة الزيات: قائدة انتفاضة ١٩٤٦

رسالة من المغنية إلى زعيمة النسوية

رسالة من المغنية إلى زعيمة النسوية

غرام بلا انتقام والأم تقود المعركة

غرام بلا انتقام والأم تقود المعركة

المذكرات الكاملة للمطربة فاطمة سري

المذكرات الكاملة للمطربة فاطمة سري

جمال عبد الناصر سوبر ستار

جمال عبد الناصر سوبر ستار