أرسلت فاطمة سري رسالة مكتوبة إلى هدى شعراوي زعيمة النهضة النسوية، لكن الرد كان صادماً ومفاجئاً.هل كانت تعلم بالعلاقة بين المغنية وابنها؟ ولماذا تعامل مرسالها مع فاطمة كأنها بطلةرواية غادة الكاميليا؟
مجلة المسرح: كنا قد اعتذرنا عن السيدة فاطمة سري بالعدد الماضي لانقطاعها عن نشر بقية مذكراتها المعروفة لانشغالها بقضيتها التي كانت منظورة بجلسة 9 فبراير الجاري.
ولما كان الكثير من قرائنا يود أن يعرف إلى أي مدى وصلت هذه القضية العجيبة فنحن نلخص للقراء بما يلي ما حدث في الجلسة الماضية ثم نعاود نشر المذكرات التي انقطعت السيدة فاطمة أسبوعين عن نشرها.
يعلم القراء فيما نُشر في الجرائد اليومية ومما نشره "المسرح" أن الخبراء الثلاثة الذين عينتهم المحكمة لفحص إقرار الزوجية الذي كتبه محمد بك شعراوي نجل السيدة هدى هانم شعراوي
قد أثبتوا في تقريرهم أن الخط خطه ولكنه منقول بالزنكوغراف، وقد طعن الأستاذ خيرت بك راضي المحامي عن السيدة فاطمة في تقرير الخبراء، وطلب إحضارهم للمحكمة لمناقشتهم وكان موعد المناقشة في جلسة 9 الجاري.
وابتدى بنظر القضية في الساعة التاسعة صباحًا وظل الأستاذ خيرت راضي يوجه إلى الخبراء الثلاثة الأسئلة العديدة ويقارن بين تقريرهم وتقرير الخبراء الذين استعان بهم، وكان حضرات الأساتذة محاميو محمد بك شعراوي يحاولون الإجابة عن الخبراء فكان حضرة صاحب الفضيلة القاضي يمنعهم من ذلك منعًا باتًا.
وانتهت الجلسة في الساعة الخامسة ونصف مساءً بعد أن تمكن الأستاذ خيرت بك من أن يحصل من حضرات الخبراء على عدة أجوبة متناقضة وعلى أقوال حجة تغيير العرض.
وقد تأجلت الجلسة ليوم 13 مارس المقبل للنظر.
واستكملت فاطمة سري مذكراتها
لو جاءني محمد صريحًا شريفًا وذكر لي أن والدته هددته بعدم العودة إلى مصر إذ لم تنقطع كل علاقة بينه وبيني، لساعدته على تحقيق رغبة والدته مع إبقاء ستر ولادة ابنتي مكتومًا، ومع المحافظة على كل حقوقها في المستقبل.
ولكن الابن البار كان زوجّا غادرًا وكان والدا لا يعرف واجب الأبوة والرجولة
الحقة، وكانت تصرفاته حمقاء لا ترفع رأسه في يوم من الأيام إذ ذكرت الرجولة والحكمة والتبصر والنبل.
هل من الرجولة والنبل أن يطلب الزوج من زوجته الوثيقة التي تثبت شرعية الزواج وشرعية ميلاد ابنته، لينكر الزواج وينكر الابنة...؟ هل من الرجولة والنبل أن يتصرف الزوج المخلص من بيت زوجته حاملاً تلك الوثيقة، ثم تكون أول محادثة بالتليفون بعد ذلك بذاءة منه وشتمًا وسبًّا كما يفعل الذين لا أخلاق لهم؟
ماذا يسمي الناس عمل الذي يحاول التخلص من زوجته وابنته على هذه الصورة؟ يسميه أمثال الذين يحيطون
حرصت مجلة "المسرح" على استكمال نشر الحلقات التي انقطعت مؤقتًا بسبب انشغال فاطمة سري في الجلسات-أرشيف مدينة الرقمي
بمحمد شعراوي (جدعنة). ويسميه الرجل الشريف سفالة.
من المحقق أن حب الشباب غير ثابت، لهذا كان من المرجح أن ينهار صرح هذه الزوجية في حين من الأحيان بباعث طيش الشباب وحب القلب والتنقل، ولا يصح أبدًا أن ألقي على عاتق هدى هانم شعراوي تبعة هذا الانفصال، إنما يجب أن أقول فقط أنها تعجلت الأمور وأملت مشيتها على ولدها بصورة غير حكيمة كانت سببًا في التصرفات غير الرشيدة التي لجأ إليها ولدها في الانفصال عني.
كل رجل غير محمد شعراوي يمكن أن يكون زوجًا أفضل منه لأسباب كثيرة،
فإذا أردت أن استبقي من هذه المعاشرة تذكارًا لم أجد صورة طيبة تجعلني آسف على حياة كلها اضطراب وانزعاج وتقلبات ومنغصات متنوعة متجددة، وتكتم قهري، ثم غدر وتصرفات من حقي أن أقول إنها: لؤم ودناءة.
إذن لست آسفة على قطع علاقتي بمحمد شعراوي، إنما كل الأسف على الخشونة التي بدت منه وممن التف حوله في معاملتي حتى أكرهوني لطلب حقوق ابنتي بواسطة المحكمة.
*
أليس من القسوة أن أقاضي محمدًا؟أبعد ذلك الغرام والهيام نقف أمام بعض متشاكين متخاصمين؟
أبعد تلك السعادة والهناء نشقى في المحكمة الشرعية ونتعب؟. لكم ترددت في أن أقاضي محمدًا. أجل لقد كنت وجلة مضطربة. لم تكن نفسي تطاوعني أو قلبي يهاودني في أن أقابل صفاءه بالعدوان وصدوده بالدفاع. لقد كنت أحبه رغم قسوته. كنت أحبه رغم جحوده. كنت أحبه رغم معاملته الدنيئة التي عاملني بها مضطرًا طوعًا لأوامر أمه. كان قلبي يحدثني بأنه لا بد عائد يوما ما إلى أحضاني وأحضان ابنته ليلى.
كنت واثقة من ذلك حتى يمكنه أن يقنع أمه بأنه قد هجرني. استسلمت للقضاء وظللت أرقب.
ولكن سلوك محمد معي بعد ذلك نغصني وأهاجني. كنت أبعث إليه الرسول تلو الرسول مستفسرة عن نواياه مستعطفة إياه مذكرة له بوعوده وبغرامه وبمحبتي وإخلاصي. كان قاسيًا في إجاباته بل كان فظاً في ردوده علي توسلاً.
أرسل لي على لسان أصدقائه حسني أفندي نجيب والسيد محمد السقاف وغيرهما يدعوني لمقاضاته.
لقد كان المسكين يعتقد بأنه قد استولى على الإقرار. فلم أجد بدًا من أن أطلع عليه وكيله عبد العزيز أفندي حماد ورجوته أن ينبه محمدًا إلى ذلك وينصحه بأن يعود إلى ابنته عودة الأب البار يقوده الحنو وتدفعه الأبوة.
ولكنه لم يشأ أن يصدق أو أنه لم يشأ أن يخضع لتهديدي بشكواه أو أنه وهو الواقع قد أصبح نهائيًّا في أيدي من هم حوله وعلى رأسهم الشيخ مرعي. لم أيأس بعد ولكن الأمل دفعني أيضًا إلى تكليف محاميه الأستاذ فهيم باخوم والذي كان وكيلاً عني في قضية الأوديون بأن يحدّث محمدًا جديًّا في موضوعي ويرجوه بأن يضع حدًا لهذه المأساة.
لم تفد أيضًا وساطة محاميه واستمر على عناده. أشعر بالخجل إذا ما صرحت أنني رغم هذه المعاملة كان دائمًا ماثلاً أمام عيني لا يفارق ذكراي ولا يبعد عن ناظري.
فهل للجنس اللطيف أن ينبئني
لماذا تحب المرأة كل من يقسو عليها؟ وهل للسيدات أن يحللن هذا الشعور وتلك النزعة.
أنني لا أعرف ولكن كنت أحبه بعد كل ذلك.
كم بعثت إليه على مدرسته رسائل تفيض حنوا وخطابات ملأى بالغرام والشكوى والاستعطاف، فكان يجيبني دائمًا بالتليفون بالشتم والسب بألفاظ.. يا للعار أخجل من ذكراها!
*
في منتصف ليلة وأنا غارقة في بحر أفكاري مستسلمة لأوهامي ساهدة مقرحة العين مما حل بي من الآلام والهجر إذا ببابي يقرع
وصوت محمد يناديني فهبيت من فراشي وأنا أكاد أطير فرحًا وفتحت الباب.
دخل محمد تحيطه فئة من أصدقائه وعلى رأسهم حسني نجيب أفندي. دخل وهو لا يكاد يملك وعيه فيما قد تعاطاه من الخمر. وبدل أن يقابلني باللطف والاستعطاف فاجأني بالسباب والشتم. ظل يقذف من فيه قاذورات لا أظن أن أحط الناس أخلاقًا يعرفها ولا أظن أن من تربى في أدنى البيئات يفهمها. كنت أقابل كل ذلك بذهول مريع وصمت مدهش.
لم أكن أعرف أن محمدًا شعراوي على مثل هذه الأخلاق. كانت دموعي الحارة
جوابًا على سخائمه. فلم يرثِ لدموعي وتوجعي. ولم أجد بدًا من أن أحضر إليه ابنته حتى أحرك في قلبه عاطفة الحنان والشفقة. وكأن قلبه قد قد من الصخر فلم يلتفت إليها بل ازداد في بذاءته. كان أصدقاؤه يهدئون من خاطره ولم أجد أخيرًا بدًا من طرده فصحت فيه أن أخرج ورجوت من معه أن يخرجوه.
وخرج وبخروجه هذه الليلة كان آخر عهدي به في منزلي. وقسى قلبي بعد ذلك وأراد الله لي أن أشفى من مرض الحب. وصممت على أن أشكوه في المحكمة مطالبة بحقي كزوجة وبحقوق ليلى ابنته. ولكن قضية مثل هذه تجعل اسم شعراوي مضغة في الأفواه والسيدة
الجليلة هدى هانم شعراوي منزلة عظيمة في نفسي فلقد غنيت في قصرها ووصلني منها خطاب شكر.
فوجدت أنه من الملائم أن أطلعها سرًّا على جلية الأمر حتى لا ألام بعد ذلك على ما افعله حرصًا على كرامتي وحقوقي.
فكتبت إليها الخطاب التالي
سيدتي،
سلامًا وبعد فإن اعتقادي بك وبعدلك ودفاعك عن حق المرأة يدفعني كل ذلك إلى التقدم طالبة الإنصاف، وبذلك تقدمين العالم حقيقة برهانًا على صدق دفاعك عن حق المرأة وتمكنك حقيقة أن تسيري على رأس النساء مطالبة
بحقوقهن - ولو كان الأمر قاصرًا علَي لما أحرجت مركزك لعلمي أنك أم تخافين على ولدك العزيز أن تلعب به أيدي النساء وتخافين على مستقبله من عشرتهن وعلى سمعته من أن يقال إنه تزوج امرأة كانت فيما مضى من الزمان تغني على المسارح، ولك حق إن عجزت عن تقديم ذلك البرهان الصارم على نفسك؛ لأنه يصيب من عظمتك وجاهك وشرف عائلتك كما تظنون يا معشر الأغنياء.
ولكن هناك طفلة مسكينة هي ابنتي وحفيدتك أن نجلك العزيز والله يعلم وهو يعلم ومن يلق عليها نظرة واحدة يعلم ويتحقق من أنها ابنة لم تدنس
ولادتها بدم آخر والله شهيد. طالبت بحق هذه الطفلة المعترف بها ابنك كتابيًا قبل أن يتحول عني وينكرها وينكرني. فلم أجد من يسمع لندائي وما مطالبتي بحقها وحقي كزوجة طامعة في مالكم. كلا والله فقد عشت قبل معرفتي بابنك وكنت منزهة محبوبة كممثلة أتكسب كثيرًا وربما أكثر مما كان يعطيه لي أبنك وكنت متمتعة بالحرية المطلقة، وأنتِ أدرى بلذة الحرية المطلقة التي تدافعين عنها ثم عرفت ابنك، فاضطرني لترك عملي الذي كنت أكتسب منه والانزواء في بيتي فأطعته غير طامعة بأكثر مما كان يجود به وما كنت لأطمع أن أتزوج منه ولا لأن ألد
منه ولدا، ولكن هذه غلطة واسأليه عنها أمامي وهو الذي يتحمل مسئوليتها، فقد كنت أدفع عن نفسي مسألة الحمل مرارًا وتكرارًا حتى وقع ما لم يكن في حسابي. هذه هي الحقيقة الواقعة وانتهى الأمر.
والآن يتملص ولدك من كل شيء ولا يريد الاعتراف بشيء وقد شهد بنفسه من حيث لا يدري بتوسيطه كثيرين في الأمر، وما كنت في حاجة لواسطة ولو كان تقدم إليّ طالبا فك قيده لفعلت وكانت المسألة انتهت في السر ولم يعلم بها أحد، فعرض علَي في الأول قدرًا من المال بواسطة علي بك سعد الدين وبواسطة الهلباوي بك وغيرهم ممن
حضروا إلي ظانين أني طامعة في مالهم، وأنه في إمكاني إنكار نسب ابنتي إذا أغروني، ولكني أخاف إلها عادلا أعلم بأنه سيحاسبني يومًا ما عن حقوقها إن لم تحاسبني هي عليها. فلما لم يجد مني قبولاً للمال ووجد مني امتناعًا عن إنكار نسب ابنته سكت عني تمامًا فوسطت حضرة فهيم أفندي باخوم محاميه فاجتهد في إقناعه بصحة خقوقي وعقودي واعترافه بابنته وتوسط في أن ينهي المسألة على حل يرضي الطرفين، فلم يقبل نجلك نصيحته بالمرة وكان جوابه له أن ألجأ برفع دعوى عليه ومقاضاته، وهو يعلم تماما أن نتيجة الدعوى ستكون في صالحي فلا أدري
لم يكن لأحد أن يتصور رد هدى شعراوي على هذه الرسالة القوية، حتى لو كانت تعلم بمحتواها سابقًا -
أرشيف مدينة الرقمي
ماذا يفيده التشهير في مسألة كهذه، سيعلم بها الخاص والعام وسنكون أنا وأنتم جميعا مضغة في الأفواه وأنتِ أدرى بجونا المصري وتشنيعه خصوصًا في مسألة كهذه.
وهذا ما يضطرني إلى أن أردع إليك قبل أن أبدأ بأي خطوة قضائية ضده وليس رجوعي هذا عن خوف أو عجز فبرهاني قوي ومستنداتي لا تقبل الشك وكلها لصالحي، ولكن خوفًا على شرفكم وسمعتكم وسمعتي ولو أني كما تظنون لا أبالي فربما كانت مبالاتي في المحافظة على سمعتي وشرفي أكثر من غيري في حالتي الحاضرة.
فهل توافقين يا سيدتي على رأي ولدك في إنهاء المسألة أمام المحاكم؟
أنتظر منك التروي في الأمر والرد في ظرف أسبوع؛ لأني قد مللت كثرة المتداخلين في الأمر، ودمت مخلصة.
ألقيت بهذا الخطاب في صندوق البريد بنفسي لأطمئن على وصوله؛ لأن إخطار حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي كان كل أملي في وضع حد لهذه المأساة.
*
كانت قسوة محمد شعراوي بلغت أقصى حدودها فلم يكتف بهجري وهجر ابنته بل كان لا يدع فرصة تمر إلا ويُسمعني تليفونيًّا من الشتائم والسباب ما تقشعر لبذاءته الأبدان، فكنت ألقي بالسماعة لأفر من سيل وقاحته المتدفق وأنا في أشد الرغبة
لسماع صوته الذي يذكرني بأهنأ الأوقات وأسعدها. وكان لا يألو جهدا في التشهير بي والتشنيع علي في كل مجلس وفي كل وسط. وكانت وطأة كل ذلك علي شديدة وكنت أنا في نفس الوقت لا أتوانى في بذل كل قواي في مقابلة عدوانه بالصبر والأناة آملة في عودة المياه إلى مجاريها، إذ ما كنت أفكر لحظة ما أن أبًا يغادر ابنته على هذه الصورة البشعة. ولما بلغت الروح التراق وذهب كل مسعى بذلته هباءً لم أجد بدًا من طرق باب شكايته إلى السيدة والدته قبل شكايته إلى القضاء.
كانت السيدة والدته تعرف كل ما بيننا من صلة مقدسة وكاذب كل من يدعي
خلاف ذلك، فكل خدم منزله حتى مربيته كانوا يخاطبونه تليفونيًّا وهو عندي وكانت والدته لا يهنأ لها نوم إلا إذا كان محمد بمنزله، وكم من الليالي قضاها عندي بعد إخطار مربيته بأنه سيقضي الليل بمنزل زوجته. إذن لم أفاجئ السيدة الجليلة هدى هانم بخطابي كما يدعي بعض القوم بل كانت على علم تام بتفاصيل علاقتي مع ابنها. وعلى ذلك أرسلت خطابي هذا وأنا مرتاحة مطمئنة. كنت واثقة بأنني سأجد في السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي زعيمة النهضة النسائية نعم النصير ونعم العضد في مشكلتي هذه.
شكوت للمطالبة بالاعتراف بالابن الغير الشرعي أبا لا يريد أن يعترف بأبنه الشرعي. شكوت لزعيمة السيدات المطالبة بحقوقهن رجلا ينبذ امرأته ويتركها للقدر بلا عائل ولا معين بعد أن منعها من عملها الذي كانت تتكسب منه وتعيش. كل ذلك كان يجعلني أنتظر نتيجة خطابي وأنا مطمئنة من أنها ستعمل على إنصافي ورفع الظلم عني، وذلك الأب وهذا الزوج هو ابنها الحاكمة عليه والذي لا يتردد لحظة في إطاعة أوامرها مهما قست. وجلست انتظر في منزلي. مر يوم وتلاه آخر وما من نبأ.. وبعد ذلك ابتدأت العاصفة تهب والزوبعة تثور، فمن زائر يلومني على جرأتي في الكتابة للسيدة الجليلة
لم تكن هدى شعراوي وحدها في أزمة، كانت الحركة النسائية المصرية أمام موقف كاشف؛ الصورة هدى شعراوي وسيزا نبراوي ونبوية موسى في المؤتمر النسائي في جنيف عام 1920
هدى هانم ومن آخر يحسرني على رفضي العشرة آلاف بل العشرين ألف من الجنيهات التي عرضها علَي الهلباوي بك في مقابل عدم مطالبتي لزوجي بحقوقي وحقوق ابنته، ومن ثالث يفهمني بأنني فقدت نهائيًّا أي عطف من محمد لإطلاعي السيدة والدته على سر علاقتي به وأنه الآن أصبح لا يخشى بأس أحد وأنه ما عرض علي ذلك المبلغ الطائل إلا لكي يُسكتني حتى لا يعلو صوتي فيصل إلى مسامعها وأنني لن أحلم بالاستيلاء منه على ذلك المبلغ بعد أن أطلعت والدته على كل شيء..!
كأنني كنت طامعة في المال وكأنني كنت في حاجة إلى المال فيسلبني حقوقي وحقوق ابنته في مقابله.
كلا فقد كنت غنية وهذا أمر يعرفه عني الكثيرون، وكان إيرادي من مهنتي التي حرم علي الاشتغال بها يزيد عن المئتي جنيها شهريًّا، فلم أكن في حاجة إلى المال لاضحي بحق ابنتي في سبيله، ولم أكن في حاجة إلى المال لابيع به سمعتي وكرامتي وشرفي.
ولو كنت في حاجة إليه أو لو كنت طامعة في الثراء كما أشاع بعضهم أما كنت رضيت بما عرضوه علي من ثروة طائلة لا يمكن الحصول عليها حتى مدى الحياة.
إن التي تترك إيرادا شهريًّا يزيد عن المائتي جنيه وتفر من وسط كله معجب بها، تفر من وسط هي فيه
كانت فاطمة سري إحدى نجمات الحفلات المخصوصة للنساء فقط في صالة بديعة - مجلة المسرح 21 مارس 1927 - أرشيف مدينة الرقمي
الحر المتصرفة الحاكمة الآمرة الناهية، إن التي تترك مثل هذا الإيراد وتفر من هذا الوسط بمحض اختيارها لتلقي بنفسها في أحضان شاب هو زوجها لا يمكن أن يقال عنها أنها كانت طامعة في ماله. بعد أن كنت أنا الحاكمة المسيطرة على كل شيء، الحرة المتصرفة في كل شيء أصبحت المحكومة المضطرة للخضوع لكل أمر يصدره الرجل الذي وهبته فؤادها.
كنت واثقة أن السيدة هدى هانم ستحدّث نفسها بكل ما ذكرت وشرحت، وكنت مطمئنة مقدمًا إلى الحكم الذي ستصدره منها منبع الشفقة والرحمة بالضعيفات. ومر اليوم الثالث بزوبعته
وأنا أقابل مروره بابتسامة الواثق المطمئن للمستقبل.
وفي اليوم الرابع..
أجل في اليوم الرابع استيقظت مبكرة على خلاف عادتي بعد ليلة قضيتها كلها في أرق وسهاد وذكرى ونواح. كانت الأفكار تلعب بي وتهزأ وكانت الآلام تفتك بي وتفترس وكانت الآمال تحيط بي وتخدعني، وأنا من كل تلك العوامل كالكرة في يد الطفل يرفعها آنة ويخفضها أخرى، يطرحها بعيدا برهة ويدنيها برهة أخرى.
آه يا للذكرى، لقد كانت تلك الليلة من أروع الليالي التي مرت علي في حياتي التي أشقاها واتعسها ذلك الزوج الغادر.
ما كاد ضوء النهار ينبثق حتى فررت من فراشي لأفر من تلك الهموم التي تراكمت حتى كادت تقضي علي. غادرت فراشي مسرعة لأستنشق القليل من هواء الصباح العليل لأخفف وطأة السأم والضيق اللذين استوليا علي وما كدت أفتح مصراع الشرفة حتى نبهني صوت طفلتي فعدت قفزًا إليها.
لقد كانت المسكينة مستلقية على ظهرها واضعة رجلا فوق الأخرى..
آه يا لظلم الإنسان وقسوته!! لقد كانت في رقدتها هذه قطعة من أبيها محمد، جبينها. عيناها "سمارها" رقدتها. كل شيء فيها كان ينطق بل كان يصرخ شاكيًا إلى الله ذلك الأب القاسي
الذي كان ينكرها بكل وحشية وغلظة.
كانت الطفلة البائسة تبكي.
كفى "يا ضناي" كفى يا حبيبتي، أتبكين حزنًا على حظك العاثر، أتبكين ألمًا من قسوة أبيك، أتبكين رأفة بأمك الشقية التعسة، أتبكين لأنك شعرت أو أحسست بما قاسيت من مِحن وما مر على من رزايا سببها لي أبوك؟
أتبكين لتعبري لي عن مشاركتك لي في الحنق على أبيك، أتبكين لتظهري لي استنكارك واحتجاجك على أعماله..؟ كفى.. كفى يا ليلي العزيزة، كفى يا من أشقاك أبوك، كفى يا مهجتي فأنت لم تذنبي ولم تجرمي.
لم أعلم يا ابنتي لي ذنبا يعاقبني عليه
أبوك ذلك العقاب المر، ولم آت جرما استحق عليه كل تلك القسوة. ولأفرض المستحيل بأنني قد أجرمت في حق محمد، ما ذنب تلك الطفلة البريئة فينزل عليها سخطه فيحرمها من عطف الأب واسمه؟
ما ذنبها حتى يدعها تطأطئ رأسها متى شبت خجلا إذا ما طُلب منها أن تنتسب؟ ما ذنبها يا ترى وقد أصبحت من يوم مولدها إلى الآن مضغة الأفواه؟ يا للقسوة..!
أأدعو عليك يا محمد وأنا امرأة مظلومة منكوبة؟
كلا.. حرام علي، فأنت وحيد سيدة فاضلة أحبها وأحترمها؟
كلا.. فأنت والد طفلتي الذي لا بد يومًا أن يدفعك طيب عنصرك وشرف نفسك إلى الاعتراف بها. كلا.. فأنت الذي كم أحببتك وكم أخلصت لك الود وكم بذلت أنت كل مرتخص وغالٍ في سبيل مرضاتي.
كلا.. لن أدعو عليك ولكن. أخذت طفلتي الباكية بين ذراعي وخرجت إلى الشرفة ورفعت عيني المبللة بدموع الحزن والقهر إلى السماء وظللت محملقة صامتة.
كانت نفسي تصرخ وتستغيث. شعرت بأن بين جوانحي بركانًا يثور إذ أن طفلتي التي كانت ملتصقة بقلبي ذعرت من ثورته فصرخت صرخة قوية بلغت إلى عنان السماء.
صرخت شاكية إلى الله عذاب أمها وما تلقاه من شقاء، صرخت شاكية الى الجلالة الإلهية حالها..
يا البائسة المسكينة...! أنساني ألمها ألمي، فكرت في مصيرها فنسيت همومي وبلواي وابتدأت أفكر في مستقبلها التعس. عدت بها إلى الفراش ثانية ورقدت بجوارها حتى استولى عليها النعاس ونامت نوم الملائكة الأبرار وظلتُ أحدق بها ولكنني تركتها مسرعة؛ خشية أن تسقط عليها دموعي المنهمرة فتحرقها. وعدت إلى الشرفة وجلست أحملق في الفضاء وأفكاري مشتتة وأقول الحق كنت في تلك اللحظة شبه مجنونة.
أشرقت الشمس ووصلت أشعتها إلى شرفتي واستيقظ الخدم وأحضروا لي طعام الافطار، فأفطرت وأنا في مكاني.
كنت أشعر بأنني أنتظر شيئا، ولكن لم أكن أعلم ما هو..! ومرت على ساعة وأنا أنتظر ذلك الشيء المجهول وأنا على صمتي وجمودي. وإذا بساعي البريد يمر من تحت الشرفة، قفزت فجأة من مكاني وصرختُ سائلة عن رسائل لي فأُجبت بالسلب. وإذا بساعي البريد هو الذي كنت أنتظر وأنا لا أدري.
كنتُ أنتظر ردًا على رسالتي التي أرسلتها للسيدة الجليلة هدى هانم والتي مضى على تاريخها أربعة أيام.
ليس في مقدوري أن أعبر عما استحوذ
ابنة الوجيه محمد شعراوي من السيدة فاطمة سري. احتاج هذا التعريف سبع سنوات استغرقتها المحكمة في نظر قضية اثبات النسب
على من الحنق لما لم أجد لي خطابا في البريد. وليس في استطاعتي أن أشرح ما تملكني من القهر والألم لما لم أستلم ردًا لرسالتي. ثارت ثورتي وجن جنوني، فكنت استغيث طالبة من الله الغوث والمعونة، وكنت أبكي ملتمسة منه الرحمة والشفقة كنت أتوجع وأشكو بعد ما تهالكت إعياء على بساط غرفتي.
لم أكن أدري ماذا أصنع ولم يتبق على الموعد الذي حددته للسيدة الجليلة هدى هانم إلا ثلاثة أيام فقط. وطفقت أفكر هل أقاضي زوجي وهل أسبب لتلك العائلة النبيلة ألما..؟! لا.. لا يمكنني أن أكون في أي يوم من الأيام سبب
إساءة مخلوق مهما كان فما بالك بزوج امتلك كل مشاعري، وسيدة فاضلة استحوذت على كل احترامي.
إذن، لم يكن تهديدي بالشكوى إلى القضاء إلا كتهديد صديق لصديقه بالقتل إذا لم يفعل أمرا ما، وإذا لم يفعله لا يكون جزاؤه إلا العتب واللوم.
*
أُسقط في يدي وأردت أن أسلي نفسي قليلاً فعمدت إلى مساعدة الخدم في الأعمال المنزلية، ولكني شعرت بأنني اربكهم وأعطلهم فتركتهم وانزويت مرة أخرى في غرفتي، وجلست بجوار مهد ابنتي اتأمل في وجهها وأتحسر على تلك البريئة. ولم يكن لي من يواسيني
أو يخفف عني وطأة أحزاني فقد جعلني محمد في عزلة تامة عن العالم. فكنت أمام الهموم بمفردي تفتك بي وتعمل في عملها، وأنا بلا عضد ولا معين ولا مغيث فاستسلمت! لم يكن يبدو على ملامحي أي أثر مما ينكد علي عيشي إذ لم أشأ أن يشمت بي أعدائي وأعداء سعادتي وهنائي.
جلست أبكي وأندب حظي العاثر وظللت أبكي وأذرف الدمع من القهر والكمد. وكأن المولى جلت قدرته أراد أن يخفف عني قليلا فأيقظ ابنتي من نومها وفتحت عينيها ونظرت إلى وهي باسمة ضاحكة هذه المرة.
يالله كانت ابتسامتها كالشمس
في إشراقها، أزاحت ما كان متلبدا على وجهي من غيوم الأسى وسحب الحزن وأوقفت تدفق أمطار عيوني المنهمرة. وابتسمت لابنتي ورفعتها بين ذراعي وأنا أناديها بأعذب الألفاظ وأحلاها.
أنستني تلك اللحظة الحلوة كل ما عانيته من آلام وكل ما كابدته من مصائب.
أجل هي فقط تلك اللحظة التي أنعم فيها بالحياة وأشعر بالسعادة. لحظة أن أقبل ابنتي وأعانقها وأرى في وجهها ملامح أبيها ووجهه الذي كنت أجعله مرآتي وهو جالس معي في عزلتنا بمنزلنا. وبينما أنا في هنائي مع طفلتي إذا بالخادمة تنبئني بأن شخصًا
يدعى مجد الدين أفندي حفني ناصف يروم مقابلتي. اهتززت من قمة رأسي إلى أخمص أقدامي وأسرع قلبي بالخفوق وأوشكت أن أسقط على الأرض. فأسرعت الخادمة فنزعت الطفلة من يدي وساعدتني على الجلوس.
كنتُ أعرف أن حضرة مجد الدين أفندي حفني ناصف يعمل لدى السيدة هدى هانم شعراوي كسكرتير خاص لها. إذن فهو قادم إلى من قِبلها.. يا للمفاجأة فاليوم إذن سأقرر حقيقة موقفي حيال زوجي. سأسمع من فمه الحكم فإما لي أو علي، وياللعجب كنت أنتظر بفارغ الصبر الرد على رسالتي
ولما أتاني الرسول جبنت من لقائه.خشيت أن ألقاه فأجده مبشرًا بزوال أتراحي وبعودة زوجي فيصعقني الخبر ويقتلني الفرح. وخشيت أن ألقاه فأجده على مثل بقية الرسل ناصحًا ومغريًا لي بالمال على الصمت والسكون فيودي بي الحزن لانهيار آخر أمل لي في الصلح.
أجل كنت متخوفة من لقائه ولكن لا بد مما ليس منه بد. ولقد لاحظت خادمتي ارتباكي وترددي فسألتني منبهة لي عما تقوله للزائر. فأمرتها بإدخاله إلى غرفة الاستقبال وتقديم القهوة له لحين حضوري. وغادرتني الخادمة بعد أن وضعت ليلى في مهدها.
فقمت من مقعدي متكاسلة وبدأت أغير ملابسي المنزلية بملابس أخرى لمقابلة ذلك الضيف الذي كنت أخشى لقاءه. ارتديت الملابس في برهة شعرت أنها طويلة جدًا وخرجت من غرفة نومي وأنا أجر أقدامي جرًا ودخلت إلى غرفة الاستقبال لأسمع الحكم.
*
تظاهرت بالثبات والسكينة واتخذت من ضعفي قوة لاحتمال كل ما يقال لي إن خيرًا أو شرًا. حييت الضيف فحياني بكل أدب وظرف وشاهدت على وجهه ملامح الجد مما جعلني أتوقع شرًا من زيارته.
وبعد أحاديث التحية والمجاملات
العادية دخل بلباقة إلى الموضوع، موضوع زيارته، فأنبأني بأنه موفد من قبل السيدة الجليلة هدى هانم لتطلعني على رأيها الخاص بموضوع رسالتي إليها. لا أخفي عن القراء بأن قلبي خفق فجأة خفقانًا شديدًا وارتعد جسمي ارتعادًا واضحا وحل عليّ الارتباك والقلق.
سأسمع الآن القول الفصل فلا تجلد.
*
انقلبت كل حواسي إلى حاسة السمع وانقلبت كل أعضاء جسمي إلى آذان وأخذت عدتي وأصغيت للنبأ الخطير الذي كنتُ انتظره بفارغ الصبر. وابتدأ مجد الدين أفندي يقص علَي ما كُلف بنقله إلَي وهو يتلخص فيما يأتي:
أجلت فاطمة سري أحلامها لحين انتهاء القضية، ومنها أنها ستصبح مؤلفة وستنشئ فرقة تمثيلية -الصورة من مجلة العروسة 11 نوفمبر 1928 - أرشيف مدينة الرقمي
استلمت صاحبة العصمة السيدة هدى هانم خطابي فتلته وهي حائرة منذهلة؛ لأنها لم تكن تعلم بأن لابنها محمد أي علاقة بأية امرأة على الإطلاق وكانت تتلو الخطاب وهي بين مصدقة ومكذبة لما يحويه من وقائع هائلة.
أعادت تلاوة الكتاب مرتين بل ثلاثة لتفهمه جيدًا إذ لم يكن يخطر ببالها بأن ابنها الصغير يجرؤ على الزواج بدون علمها بمغنية، ولم يكن يخطر ببالها أن ذلك الابن وهو سليل بيتين رفيعي العماد عظيمي الشأن يغدر بامرأة مثل هذا الغدر ولو أنه أخطأ خطأ مريعا في الاتصال بها ومعرفتها.
خامرها الشك في صحة ما ورد
في رسالتي وأيقنت بأنني كاذبة في دعواي فهي واثقة بأن ابنها المهذب لا يأتي مثل هذه الوحشية والقسوة. ولكن - وقد أرادت أن تضع حدا لهذه المأساة- لم تجد مناصًا من مفاتحة ابنها والاستفهام منه عن صحة حكايتي فاستدعته. ولما أتى ملبيًا أمرها استفهمت منه عن القصة فحاول النكران ولكن لما أرهقته بالأسئلة لم يجد بدًا من الاعتراف فاعترف لها بعلاقته بي.
طلبت منه أن يسلك مع المرأة التي أولدها طفلة بريئة مسلك الرجل الشريف وكم كان ذهولها شديدًا حينما وجدت ابنها المطيع يقف أمامها لأول مرة موقف العاصي.
رفض أن يخضع لمشورة امه وواجهها بقوله: "أنا الذي عرفت هذه المرأة وأنا الذي عاشرها وأنا الذي سيعرف كيف يتخلص منها أو كيف يُسكتها أو كيف يفسد عليها قضيتها إن نفذت تهديدها وشكت أمرها للمحاكم".
*
وهنا تنفس مجد الدين أفندي الصعداء وتناول كوبة الماء الموجودة على صينية القهوة واحتسى القليل منها ونظر إليّ بعينين حزينتين تنطقان عما يشعر به من الشفقة نحوي والرثاء لحالي. قرأت في عينيه وثوقه التام من أن محمد شعراوي سيجاهد بكل قواه لكي يسلبني حقي وسيعمل المستحيل لإحباط
مساعي الودية وسيبذل الجهد لفشلي في المحكمة إذا ما شكوته.
قرأت كل ذلك في عينيه فلا بد من أنه واثق من استعداد محمد لمناوأتي بماله وبجاهه فكدت أصرخ شفقة على ابنتي المسكينة التي قرر أبوها نهائيًّا أن يحاربها ويتركها بلا اسم للاقدار. ولكني لم أشأ أن أظهر ضعفي أمام ذلك الرسول فهو واحد منهم بل كبحت جماح الثورة المتأججة بين جوانحي وتظاهرت بالهدوء التام ولكن ذلك كان قد استنزف مني جهد الجبابرة. وقد تمكنت من الابتسام وسألته ببساطة تامة عن رأي السيدة هدى هانم بعد إجابة ابنها.
فأجابني بأنها وهي السيدة الجليلة المحسنة الكريمة لما رأت بأن تلك الابنة البريئة ستكون في هذا الوسط ضحية للطيش والمكابرة وهي لم تذنب فهدى هانم مستعدة من قبيل الشفقة والبر أن تخصص شهريًّا مبلغًا -مما تخصصه للإحسان- لهذه الطفلة ينفق على نشأتها وتربيتها. وأراد أن يستمر في تبليغ رسالته ولكن كنتُ قد فهمت ملخصها من هذه الجملة فلم أعد أطيق صبرًا فصرخت بالرغم مني راجية منه أن يكف عن إهانتي بتبليغي هذه الرسالة.
وحاول كبح جماح ثورتي مرة أخرى أيضًا فلم استطع فافهمته وأنا ألهث
من الإعياء بأنني لا أطالب السيدة هدى بإحسان ولكني أطالبها بحق حفيدتها أطالبها بحقي كزوجة لابنها وأنني ولله الحمد لستُ في حاجة إلى معونة أحد. فلدى الثروة الكافية لتجعلني اعيش أرقي معيشة ولم يعرفني ابنها وإلا وأنا في عز مجدي اتكسب شهريًّا لا أقل من مائتي جنيه. ولدي صناعتي أن أعوزني الحال يمكنني أن أعود إليها لكي اعيش في بحبوحة ورخاء ولكن ما كنت انتظر من هدى هانم وهي التي أعلنت بأنها هي نصيرة المرأة أن تصفعني هذه الصفعة المؤلمة.
- "بلغها يا سيدي بأنني لستُ في حاجة إلى إحسانها وإعانتها لكي أطعم وأربي
ابنة محمد شعراوي فلدي ما يكفي لذلك وإن احتاج الأمر للعودة إلى مهنتي فسأعود لكي أربي حفيدتها".
هذه رسالتي لمن أرسلتك أرجو أن تبلغها كما هي ولا تنقص منها حرفا وثق بأنني لا أطلب إلا معونة ربي الذي خلقني وقضى عني بأن اشقى هذا الشقاء بمعرفة ابن السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي".
وهنا هدأت نفسي قليلاً وكأنني قد انتقمت لها بهذا الرد الهادىء وكأنني قد دافعت دفاعًا مجيدًا عن كرامتها.
وغرقت في مقعدي مرتاحة النفس ولكن ثائرة العواطف مهتاجة الخاطر إن لم أكن أتوقع أن يصلني مثل هذا الرد من زعيمة النهضة النسائية.
واشتغل فكري في الحال بمصير ابنتي وبالخطة التي سأسلكها وكنتُ أسمع خلال ذلك مجد الدين أفندي يتكلم وقد تكلم كثيرًا ولكن لم أكن أعي كل ما يقول ولم أفهم من قوله شيئًا، ولكن يظهر بأنه يقنعني بقبول ما هو معروض علَي فأردت أن أوقفه عند حده فسألته هل يرضى أن أرى حقوق ابنة حقيقية تُسلب وأنا صامتة لا أتحرك؟ أيرضى أن اصمت مقابل بدرة من المال وأن أحرم ابنتي من اسم أبيها..؟
أيتركني الله بلا عقاب إذا أجرمت هذا الجرم..؟ وماذا أقول لابنتي متى شبت وسألتني عن أبيها؟ وبماذا أجاوبها إن عاتبتني عن إهمالي في الدفاع
عن حقوقها..؟ لم يسع الشاب إلا الصمت التام وأطرق برأسه لاشك خجلاً من المأمورية القاسية التي قام بها ثم استأذن بصوت خافت وانصرف.
*
وبقيت منفردة أخيرًا بعد هذه الصدمة القوية. وإن كنت أعجب إلا من إدعاء السيدة هدى هانم من أنها كانت تجهل علاقتي مع ابنها وقد سبق وأبنت لحضرات القارئات والقراء مبلغ علمها بتلك العلاقة. ولا يدهشني أكثر من أنها تقف مكتوفة الذراعين أمام ابنها وهي ترى سيدة تطالب بحقها وحق ابنتها في حين أنها تملأ الصحف المحلية والأجنبية بدفاعها عن حق المرأة وفي حين أنها تحمل نفسها عناء السفر كل عام
إلى الخارج لترفع صوتها مطالبة الرجل الأجنبي عنها الذي ليس لها عليه أي سلطان بالاعتراف بالابن الغير شرعي.
تريد أن تضطر الغريب إلى إتيان عمل لم يمكنها أن تجبر ابنها صاحبة السلطة التامة عليه أن يأتيه بل لم تتنازل وتلح عليه بأن يأتيه بل كانت هي والله على ما أقول شهيد، المحرضة الوحيدة له على أن لا يأتيه.
*
إذن لا بد من السير في الطريق الذي كنتُ أود أن اتجنبه حفظًا لسمعة تلك العائلة الكبيرة ولكن رغم كل ذلك كنتُ أشعر بخوف شديد من الولوج فيه، ولذا لم الجأ مباشرة إلى المحكمة بل بقى لدي شيء طفيف من الأمل.
كنت آمل أن تثور عاطفة الحنو والشفقة في قلب السيدة هدى هانم فتدفعها إلى إصلاح ما أفسد ابنها. كنتُ آمل أن تخشى السيدة هدى هانم على سمعتها الاجتماعية ومركزها كنصيرة المرأة المصرية فتعمل على رد حقوقي إليّ. كنتُ آمل أن يقص عليها مجد الدين أفندي ما شاهده من يأسي وما رآه من قنوطي فيقودها الرفق بفتاة حطمها ابنها، إلى الأخذ بناصري ومؤازرتي. كنتُ آمل فيها كثيرًا رغم رسالتها المتقدمة المضي بالغطرسة والكبرياء وحب الذات. لم أكن أصادق سيدة أو رجلاً إلا وأقص عليه وأنا حيرى خبر تلك الرسالة فكان كل يشاركني العجب ويقاسمني الأسى والألم.
وبلغت شكاياتي الأخيرة مسامع زوجي محمد فأرسل إلَي يتهددني، بالإخلاد إلى الصمت إذ لا فائدة ترجى من الكلام.
بعث إلَي ينبئني بأنه ما عاد يكترث ولا يخشى شيئًا من رفع صوتي إذ أنه قد واجه والدته بالحقيقة بعد أن كان يخشى أن يطلعها هو عليها رغم وثوقه بأنها تعلمها. ولم أعد بعد ذلك أسمع عنهم شيئا سوى التهديد والوعيد الذي كان يصلني عن طريق محاسيبهم ومن يلوذ بهم.
أأترك حقي يتلاشى أمام عيني وأنا خالدة إلى السكون لا حراك أبديه؟ لا. لا. محال ولست بالضعيفة التي يخيفها الإرهاب ولست بالمدعية التي تخشى أن تفشل أمام القضاء النزيه.
فعزمت وتوكلت على الله ولكن قبل أن أقدم عريضة دعواي إلى المحكمة فكرت في استشارة بعض رجال القانون المعروفين. وكان أول من خطر في بالي محام كبير له مكانة سامية بمداركه ومعارفه وهو الآن عضو بمجلس النواب فشرحت له أمرى واستشرته في رفع الدعوى فحرضني على رفعها ضامنا لي ربحها.
واستشرت غيره من كبار رجال القانون وبعض الوزراء السابقين ورجال الشرع المتضلعين فكان الجميع يدفعونني إلى الالتجاء إلى القضاء ويظهرون سخطهم عليّ لتأخير ذلك تلك المدة الطويلة. ونصحني الكثيرون بتوكيل الأستاذ الشيخ محمد القصبي المحامي الشرعي
فلم أتردد بعد ذلك وذهبت إليه مباشرة وقصصت عليه قصتي. وكنتُ أتلو مسألتي على مسامعه وهو صاغ تمام الإصغاء. وأذكر بأنني لم أترك صغيرة في الموضوع إلا وسردتها.
وكان هذا المحامي الطيب يصغي وهو مذهول من هول تلك الوقائع مندهش من تصرف زوجي غير مصدق لموقف السيدة هدى هانم شعراوي.
ولما وصلت في قصتي إلى ذلك المبلغ الطائل الذي عرضوه علَي في مقابل عقد قراني على رجل يختارونه يقبل أن يعترف بالابنة وما نصحني به بعض الناس من قول ذلك المبلغ احتد ذلك الأستاذ الجليل، وثار ثم هدأ بعد قليل وقال لي بلهجة الناصح الأمين.
شغلت الحرب على نسب " ليلى" الرأي العام ووضعتها مجلة "العروسة" على غلافها في عدد 27 فبراير 1929 - أرشيف مدينة الرقمي
"إذا كنت يا ابنتي واثقة من أن الطفلة هي حقيقة ابنة محمد شعراوي فحرام عليك أن تقبلي -في سبيل حرمانها من حقوقها- أموال العالم بأسرها ولكن إن كان لديك أدنى شك في صحة بنوتها لزوجك فأقبلي أي مبلغ يعرضونه عليك وأكف نفسك مشقة رفع القضية وانتظار الحكم ولو أنه سيكون لمصلحتك؛ لأن الله لا يرضى أن ينتصر الباطل على الحق".
ولما أفهمته حقيقة شعوري نحو زوجي وشدة إخلاصي له وتعلقي به وافقني على رفع دعوى. وفي اليوم الثاني عملت الإجراءات اللازمة من توكيل وخلافه ثم رفعت الدعوى وطالبت بنفقة شهرية مقدارها مائتان وخمسون جنيها
وهي أقل ما يطلب للصرف على ابنة محمد شعراوي من مربيات وخدم وللصرف على زوجته التي تزوجها وهي في أرقى أحوال المعيشة وتتكسب شهريًا ما يربو عن المائتي جنيه.
*
كان يجدر بي أن أنهي هنا القسم الأول من مذكراتي حيث قد وصل القراء معي إلى أبواب المحكمة الشرعية وحيث إن مسألتي الآن مطروحة للحكم أمام القضاء العادل وأنني لفاعلة حتما ولكن قبل ذلك أود أن أثبت للملأ شيئين سيدهش لهما القراء.
الشيء الأول إجابة زوجي محمد شعراوي على دعواي والشيء الثاني المساعي الخلفية التي يبذلها
هو وأعوانه لإفساد قضيتي تنفيذا لوعيده. ففي الجلسة الأولى طلب الأستاذ الشيخ محمد عز العرب محامي زوجي التأجيل للإجابة على تلك الدعوى فأجيب إلى طلبه. وفي الجلسة الثانية أجاب وبالغرابة تلك الإجابة..! لتتصور سيداتي القارئات وسادتي القراء أن الإجابة كانت الإنكار التام..!
مهلاً، مهلاً، ليس إنكاره كان إنكارًا للزوجة ولكنه كان إنكارا حتى لمعرفتي! أنكر بتاتا أنه يعرفني وأدعى بأنه لم يرني ولم يسمع بي إلا كما يسمع كل إنسان بمغنية..! وأنه يحفظ حقوقه ضدي لادعائي عليه هذه الدعوى الباطلة..!
ها أنا الآن بين يدي القراء وبودي أن أتمم كلمتي هذه ولكني حيرى فما الذي أقوله بعد ذلك. فلتتصور إحدى القارئات حالتي ولنفرض أنها في مركزي فما الذي يمكنها أن تقوله؟! أليس من المعقول أن مثل ذلك الإنكار المدهش يلجم اللسان حيرة وذهولاً..؟
ينكر محمد شعراوي معرفته لي وعلاقته بي وزواجه وقد كان كل ذلك حديث القوم وموضوع جدلهم ومناقشتهم. ينكر معرفته لي وعلاقته بي وقد كان ذلك موضوع من أهم المواضيع التي تحدثت بها بعض الصحف. ينكر كل ذلك وقت كانت معرفته لي التي أثبتتها شركة الأديون في قضيتها ضدي لخسارتي
تلك القضية. بأي وجه ينكر ذلك..؟
وبأي جنان وقلب يصرح ذلك التصريح. بل من أين استمد القوة التي اعانته على إخراج مثل هذا الافتراء. ولا أدري والله كيف كان يقابل الناس بعد إنكاره معرفته لي. ألم يكن يعتريه ولو بعض الكسوف حينما يلاقي أي مخلوق.
بل كيف يثق به جمهور الناس إذا ما تخرج من مدرسة الحقوق وصادفه الحظ واعتلى منصة القضاء وكان النظر في قضايا الجمهور وهو ذلك الإنسان الذي ينكر علنا أمرًا لا يجهله أي فرد.
ألم يكن يخشى على مستقبله..؟
ألم يكن يخشى على سمعته..؟
هل حقيقة أنه كان يعتمد على ثروته وأمواله لتنقية سمعته وغسل ما علق بالأذهان من الأدران حوله بسلوكه معي هذا المسلك المعيب وأخيرا بكذبه ذلك الكذب الشائن الذي لا يشرف طالب حقوق..!
آه.. ! أيها الخجل أين حمرتك؟
ما ذاع بين الجمهور خبر إنكار زوجي علاقته بي حتى انقسم الناس إلى قسمين قسم مشفق علَي، راث لحالي وقسم حاقد عليه محتقر له. ولم ألبث بعد ذلك بضعة أيام حتى وردت إلَي رسائل كثيرة من أناس عديدين من أصدقائه يعرضون عليّ المعاونة باستعدادهم للشهادة أمام المحكمة بصحة زوجيتي
لمحمد شعراوي. فكنتُ أشكر لكل شهامته وأخبره بأنني سأعتمد عليه إذا مالزمت شهادة الشهود.
وفي الجلسة الثالثة لما قدمت مستنداتي القوية طلب الأستاذ عز العرب بك التأجيل للإطلاع عليها فأجيب إلى طلبه. ولما أطلع على تلك المستندات ووجدها حاسمة لم يجد بدًا من إطلاع زوجي على حرج موقفه، فعقدوا مؤتمرًا بمنزل همن نحو العشرين من المحاماة الشرعيين لأخذ رأيهم في تلك القضية العويصة، فمن أملهم خيرًا في قضيتهم أي من وافقهم على الاستمرار في العناد وكلوه في نظر القضية بصحبة الأستاذ عز العرب لك.
وفي الجلسة التالية وجدت ضدي من المحامين الكبار أربعة وهم: حضرات الأساتذة عز العرب بك وعبد الرازق بك القاضي والشيخ عمر الانجباوي والشيخ محمد عطية..!
أجل الشيخ محمد عطية ذلك المحامي الذي أملى على كاتبه صورة إقرار الزوجية الذي كتبه زوجي بخط يده. قبل ذلك المحامي أن يقف ضدي ليطعن في ذلك الإقرار وهو الذي حرره وأفهمني أنه في قوة عقد الزواج على يد المأذون.
والمدهش أنني قد واجهته مدة أمام القضاء بتلك الحقيقة فأنكرها وأقسم على ذلك. بالله..!
ما الذي أقوله عن مثل هؤلاء القوم..؟!
نصحني الكثيرون بعد ذلك بالاستعانة بمحامي آخر كفء لمناوأة هؤلاء الأساتذة ومعاونة الأستاذ القصبجي في مهمته الشاقة فلم أجد خيرًا من الأستاذ الكبير الشيخ خيرت بك راضي نقيب المحامين الشرعيين فوكلته في قضيتي، وكان تشجيعه لي ووعوده الجميلة خير بلسم لجراح فؤادي التي تدميها جرأة هؤلاء القوم على الباطل.
وعلم الكثيرون ممن يهتمون بقضيت يخبر توكيلي للأستاذ خيرت بك راضي فازداد يقينهم بنجاحي وهنأوني باختياري هذين الأستاذين المشهود لهما بالجدارة والكفاءة: الأستاذ القصبي
والأستاذ خيرت بك راضي.
وابتدأت الاجتماعات تعقد بين وكيلي حيث يدرسان سويًّا تفاصيل القضية ومحاضر الجلسات العديدة. وأخيرًا وضعا الخطة التي سينهجانها في الدفاع والمطالبة.
ولما أطلعاني عليها من قبيل العلم فقط زال قلقي واطمأنت نفسي وأفعم قلبي سرورًا حيث وثقت من عدل القضاء ومن كسبي لدعواي.
وحقًّا لقد كانت يد الله تقودني حينما وكلت هذين الأستاذين الجليلين .وضميري النقي وسلامة نيتي هما اللذان دفعاني إلى الاعتماد عليهما بعد الله سبحانه وتعالى.
فتركت لهما الأمر كله ولم تعد تشغل بالي مشاكل القضية ومتاعبها.. وعدت إلى الاهتمام بشأني وبصحتي التي انهكهما النضال.
وعاودت حياة الهناء والراحة والسعادة التي سلبها كلها زوجي بتلك الفعلة الذميمة الممقوتة. ولما كنتُ أهوى المسارح والسينماتوغراف فكنت لا أدع فرصة تمر إلا وأؤم إحداها لاشبع نفسي مما حُرمت منه مدة طويلة.
وشاهد الكثيرون مني ذلك واتصل خبر ظهوري بعد احتجابي بأصحاب الأعمال الذين كانت تربطني وإياهم صلة المهنة، فعرض علَي الكثيرون منهم العودة إلى العمل، وعرضوا عليّ
لم ترفض فاطمة العمل مع الجميع مثلما توقعت مجلة المسرح بل انضمت بعد الأزمة بفترة قصيرة إلى فرقة رمسيس وقدمت معها بعض الأعمال المسرحية - مجلة المسرح 13 سبتمبر 1926 - أرشيف مدينة الرقمي
شروطا مغرية، ولكني كنت أولا أريد الراحة بعد العناء وثانيا كنت أود أن أنتظر الحكم في القضية. فكنت أرفض كل رجاء للعودة إلى المسرح أو إلى التخت.
ظل المحاميان يعملان بما هو معروف عنهما من الشرف والمهارة وأنا لاهية عنهما بخطتي التي انتهجتها وبتربية أولادي إلى أن أتى وقت الحاجة إلى الشهود فلم يجدا مناصًا من اطلاعي على الأمر وطلبهم مني.
وعرضت أسماءهم على حضرات المحامين فأشاروا علي بتقديم شاهدين آخرين إن قدرت. فلم أر بدًا من الاستعانة بمن عرضوا أنفسهم لمعاونتي أي لنصرة الحق على الباطل.
وذهب إلى المحكمة الأربعة شهود وأدلوا بما شاهدوه وبما يعرفون. ولم تُقبل شهادتهم لأسباب ذكرتها المحكمة لم أفهمها جيدًا ولا يمكنني أن اتعرض لها، ولكنني أعد حضرات القارئات والقراء بإطلاعهم على كل شيء تم في الجلسات من مذكرة حضرتي وكيلي التي يعدانها للنشر الآن. ولما وجد أخصامي أن وكيلي وعدا بتقديم شهود آخرين ابتدأوا في مساعيهم الخفية التي يبذلونها ولا يزالون يبذلونها لإحباط مسعاي ولحمل المحكمة ضدي.
فليتصور الناس بأنهم قد بدأوا عقب ذلك مباشرة بأن يحيطوني بالعيون والجواسيس في ذهابي ومجيئي يحصون
على حركاتي وسكناتي.
لم أكن أدري مبدئًّيا سر مراقبتهم لي وتتبعهم لخطواتي!
ولكن الحقيقة لم تلبث أن انكسفت فعرفت السر في مطاردتي آناء الليل والنهار. وأقول مطاردتي أناء الليل والنهار؛ لأنهم فعلا كانوا يفعلون ذلك.
ليتصور القراء بأنني طللت مرة فجأة في منتصف الليل من شرفتي فوجدت من يترصد باب منزلي ومن المضحك أنه كان زوجي في هذه المرة الجاسوس المراقب...!
كانوا يراقبونني حتى عرفوا من احتك به من الناس ليتوصلوا إلى معرفة شهودي. وابتدأوا يحومون حولهم.
ويغرونهم بالمال، فمنهم من آثر المادة على مساعدة سيدة ضعيفة مثلي، فتخلى عن الشهادة بعد أن وعد بها، ومنهم من لم يفلح فيه إغراء فأقدم على مساعدتي ابتغاء مرضاة الله، ومنهم من جمع بين الشيئين، الاستفادة منهم على قدر الإمكان والتخلي عن الشهادة مؤقتا حتى إذا ما وجد أن لا بد من أن يتقدم تقدم وأدلى بشهادته أمام المحكمة.
هذه هي بعض مساعيهم التي أمكنني الإطلاع عليها إذ لم يخف على أي شاهد شيئًا من أمرهم سواء الذين تخلوا عن الشهادة أو الذين رفضوا قبول الرشوة.
وكنتُ أرقب هذه المساعي الدنيئة عن كثب وأنا ابتسم واثقة من عدل المولى عز وجل.
خمس سنوات دفعتها فاطمة سري من حياتها لتصل إلى هذه النتيجة بحكم المحكمة'مجلة العروسة 27 فبراير 1929 - أرشيف مدينة الرقمي
ونصرني الله وتقدم شهودي وأدلوا بشهادتهم القوية التي كانت تقابل من أنصار زوجي بكل امتعاض وألم. نصرني الله في هذه المرة على تلك المساعي، وأنني أسائل نفسي الآن هل توجد مساع أخرى ضدي تعمل في الخفاء وأنا لا أدري بها؟ إن قلبي يحدثني بوجودها ولكن قلبي مملوء بالإيمان بالله فهو ناصري ولن يتخلى عني.
قبل أن أختم أقول إن قضيتي الآن بين يدي المحكمة وقد تقدمت فيها مذكرات وتقارير خبراء، وتأجلت مرارًا عددية لأسباب شتى وترافع المحامون وبذل كل طرف مجهودًا كبيرًا ولكن هل لي أنا أن أطلع القراء على كل ما تم في الجلسات...؟
أجدني ضعيفة للقيام بهذا العمل القانوني ولذلك أعد القراء -إن سمح صاحب المسرح- بنشر مذكرة حضرات المحامين عن كل ما حدث في تلك القضية إلى الآن متى تم إعدادها. وإلى اللقاء على صفحات المسرح وأنني أشكر كل من شجعني من حضرات القارئات وحضرات القراء على الاستمرار في نشر مذكراتي. أشكر كل من أخذته الشفقة علَي فرثى لحالي سواء بالخطابات العديدة التي كانت تصلني أو بالمحادثات التليفونية ممن يعرفني أو لا يعرفني.
انتهى القسم الأول
فاطمة سري
المسرح: لم نأل جهدًا في إفساح صفحات المسرح لمذكرات المطربة المعروفة السيدة فاطمة سري ولا زلنا على استعداد تام لنشر كل ما يصلنا من حضرتها بخصوص قضيتها هذه التي شغلت كثيرًا الرأي العام المصري.
*
إشارة من مدينة: على حد بحثنا حتى الآن لم تنشر فاطمة سري حلقات أخرى من مذكراتها لا في "المسرح" ولا غيرها.