معارك النقيبة أم كلثوم

الست والأستاذ حول الكرسي

معارك النقيبة أم كلثوم

  • أسبوعي
  • نص
  • كتابة

لماذا رشحت أم كلثوم نفسها نقيبة للموسيقيين؟ وكيف كانت تعتقد أن وجود محمد عبد الوهاب على رأس النقابة معناه: أنه يغني أفضل منها، وهو ما لم تكن لتسمح به.

قبل المعركة
حين كانت معركة العلمين الثانية (23 أكتوبر -11 نوفمبر 1942) تدور بشراسة على مقربة من مدينة الإسكندرية، وظلال الحرب العالمية الثانية وهواجس انتصار الألمان تثير قلق الساسة في مصر والعالم، كانت القاهرة تشهد معركة أخرى موازية، لا تقل ضراوة عن نظيرتها الصحراوية؛ بين أنصار قطبي الغناء في مصر. ففي مطلع شهر نوفمبر 1942 أفردت صحيفة «الأهرام» العريقة مساحة كبيرة لمعركة كلامية حادة بين أنصار الآنسة أم كلثوم وأنصار غريمها الأول محمد عبد الوهاب حول تأسيس نقابة تجمع الموسيقيين.
لم يكن الخلاف الذي يشق صف 

الموسيقيين في مصر بشأن فكرة تأسيس النقابة في حد ذاتها، بل حول إجابة السؤال: لمن تكون رئاستها؟ فبعد أخبار متناثرة نشرتها المجلات والصحف اليومية حول اقتراح لتأسيس كيان نقابي، خرجت صحيفة الأهرام صباح 4 نوفمبر 1942 تحمل بيانًا جاء فيه "نحن الموسيقيين المحترفين الموقعين على هذا، نعلن أن ما نُشر عن نقابة الموسيقيين لا أساس له من الصحة، إذ أننا لم ننادي بالأستاذ محمد عبد الوهاب نقيبًا، ولن ننادي به، وسيُعلن للملأ قريبًا تكوين النقابة، بما يتفق ومصلحتنا نحن مجموع الموسيقيين، لا مصلحة فرد منا"،  وجاء البيان مُذيَّلاً بتوقيع كبار العازفين والملحنين في مصر؛ أمثال زكريا

لم يكن الخلاف على فكرة تأسيس النقابة بل حول إجابة السؤال: لمن تكون رئاستها؟  

أحمد ومحمد القصبجي وفريد الأطرش وصالح عبد الحي وغيرهم.
فهم كل من قرأ البيان أنه صادر عن مجموعة تدعم الآنسة أم كلثوم في مواجهة عبد الوهاب، لكن حجم الأسماء التي وقعت أدناه ومكانتها في الحياة الفنية أربك عموم الموسيقيين والعازفين في مصر، وهو ما اضطر الأهرام في اليوم التالي؛ 5 نوفمبر، إلى نشر بيانين متضادين؛ الأول تأكيدًا لبيان اليوم السابق مذيلاً بالمزيد من الأسماء، والثاني يعلن فيه البعض سحب أسمائهم من البيان والعدول عن تضامنهم مع أم كلثوم، وهو ما شكَّل دفعًا للقطبين أم كلثوم وعبد الوهاب أن يتكلما ويعلنا مواقفهما حسمًا للنزاع.

المعركة ....
رأت أم كلثوم أن تبدأ بتوجيه الضربة  الأولى لعبد الوهاب، وتحت عنوان "لماذا أتحدى عبد الوهاب؟"..كتبت الآنسة أم كلثوم مقالاً طويلاً نشرته مجلة "الاثنين والدنيا" الصادرة يوم 10 نوفمبر 1942 على صفحة كاملة، شرحت فيه موقفها، وأكدت أن فكرة تأسيس النقابة طُرحت للمرة الأولى عندما زارها محمد عبد الوهاب في بيتها، وعرض عليها الانضمام للنقابة مؤكدًا لها أن الحكومة الوفدية آنذاك (فبراير 1942- أكتوبر 1944) ستدعم الكيان الوليد، وتقدم إعانة كبيرة في سبيل تدشينه. وذكرت أم كلثوم أنها رفضت في البداية مبدأ الانضمام للنقابة برئاسة غيرها،

 أم كلثوم ضاحكة، ومحمد عبد الوهاب متأملاً.. أثناء الانتخابات التي تنافسا فيها على على مقعد نقيبب الموسيقيين. كان هذا تعليق الصورة في مجلة آخر ساعة 18 مايو 1952....رغم أن عبد الوهاب ليس موجوداً في الصورة !

أم كلثوم ضاحكة، ومحمد عبد الوهاب متأملاً.. أثناء الانتخابات التي تنافسا فيها على على مقعد نقيبب الموسيقيين. كان هذا تعليق الصورة في مجلة آخر ساعة 18 مايو 1952....رغم أن عبد الوهاب ليس موجوداً في الصورة !

 واعتبرت ذلك اعترافًا ضمنيًّا بأفضلية محمد عبد الوهاب في الغناء، واشترطت عليه أن الانضمام للنقابة مقترن بترشحها لمنصب النقيب، وأنها لن تقبل فكرة الرئاسة الشرفية منزوعة السلطات.
ضربتني وبكت وسبقتني واشتكت
رأى عبد الوهاب أن تلك المقالة ما هي إلا اتهام صريح له بالسعي وراء مجد شخصي، لا لمصلحة مجتمعية كما كان يروِّج، فطلب من صديقه مصطفى أمين أن يكتب مقالاً للرد على ما كتبته الآنسة أم كلثوم، لتترك له مجلة "آخر ساعة المصورة" في عدد 15 نوفمبر 1942 صفحة كاملة لمقال عنوانه «محمد عبد الوهاب يقول: ضربتني 

وبكت.. وسبقتني واشتكت»؛ أهم ما فيها ما جاء في نهايته "لم تؤلَّف النقابة بعد حتى نتخانق ونتشابك على الكراسي ونوزعها بمعرفتنا أنا وأم كلثوم، وليس الموسيقيون "طراطير" حتى لا تكون لهم الكلمة الفاصلة في مثل هذا الأمر. وكل ما أرجوه هو أن تنزع الآنسة أم كلثوم من رأسها هذه الفكرة؛ وهي أن أحدنا إذا أصبح نقيبًا فإن الناس ستظن أنه يغني أحسن من الآخر!".
هذه الحرب المفتوحة بين القطبين جعلت مجلة «آخر ساعة المصورة» تتدخل في عددها التالي الصادر في 22 نوفمبر 1942 وتنشر اقتراحًا لفض ذلك النزاع "لا زال الموسيقيون منقسمين ولهم في رجال السياسة والأحزاب خير

قدوة! وقد اقترح بعض أولاد الحلال حلولاً لعلاج مشكلتهم، ويتلخص  الاقتراح الأول أن يجتمع الموسيقيون برئاسة أكبرهم سنًا لاختيار النقيب بين عبد الوهاب وأم كلثوم فقط لا غير، على أن يكون من يفشل في الانتخاب نقيب أو نقيبة شرف! والاقتراح الثاني هو عمل قرعة بين أم كلثوم وعبد الوهاب. والاقتراح الثالث هو أن «يلايموها» شوية ويختشوا على عرضهم حبتين!".
الانشقاق..
ومع تصاعد عناد أم كلثوم وإصرارها على خوض انتخابات مجلس النقابة، أدرك محمد عبد الوهاب أن الاستمرار في ذلك الصراع لن يكون في صالحه أبدًا،

كان الاقتراح أن يجتمع الموسيقيون برئاسة أكبرهم سنًا لاختيار النقيب بين عبد الوهاب وأم كلثوم فقط لا غير!

فإذا فازت أم كلثوم عليه، وهو السيناريو الأكثر توقعًا خصوصًا بعد دعم كبار الملحنين لها، فسيكون قد هُزم مرتين؛ الأولى من سيدة وهو ما سيشكل له حرجًا اجتماعيًا وسط مجتمع ذكوري، والثانية ستكون هزيمة لهدفه من تأسيس النقابة، وترسيخًا لاعتقاد أم كلثوم بأن الفائز هو الأفضل صوتًا والأكثر شعبية، لذا بعدما أقرَّ الموسيقيون بمجلس النقابة الأول؛ المكون من عزيز عثمان والشيخ زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي وفريد الأطرش وأحمد الحفناوي، انتخبت أم كلثوم نقيبًا للموسيقيين، وعلى الرغم من محاولة البعض تكوين نقابة موازية تكون 

برئاسة محمد عبد الوهاب، تضم جميع المنشقين والرافضين لزعامة أم كلثوم، رفض محمد عبد الوهاب الاستمرار في تلك العدائية، ووفقًا لما ذكره عدد مجلة «الجيل» الصادر في 15 ديسمبر 1952 في تحقيق عن تاريخية النقابات الفنية في مصر، فبعد عام واحد من تأسيس النقابة انضم لها عبد الوهاب ومعه مجموعة من الموسيقيين والمطربين؛ منهم عبد الغني السيد ومحمد فوزي ومحمد بخيت الذي أصبح سكرتير عام للنقابة، وعُرف بدوره المؤثر داخل مجلس نقابة الموسيقيين طوال فترة رئاسة أم كلثوم!
تذكر ڤرچينيا دانيلسون في كتابها المؤسس والمهم «صوت مصر: أم كلثوم

 أم كلثوم تخطب وبجوارها محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي وعزيز أباظة في النقابة.. (مجلة آخر ساعة).

أم كلثوم تخطب وبجوارها محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي وعزيز أباظة في النقابة.. (مجلة آخر ساعة).

 والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين» أن أم كلثوم واجهت معارضة شرسة على كل الجبهات طول سنوات الأربعينيات داخل مؤسسة النقابة، فلم تكن قيادتها لشؤون النقابة سهلة وممهدة، إذ كثيرًا ما ثارت مشكلات كبرى بين الأعضاء، ومن بينها خلاف شهير ذكر تفاصيله المطرب محمد عبد المطلب لاحقًا، حكمت فيه أم كلثوم بصفتها النقيبة بينه وبين زميله المطرب عبد العزيز محمود، وتذكر الأمريكية فرجينيا دانيلسون أن الملحن خليل المصري؛ وهو موسيقي نقابي شارك في وضع قانون حماية المؤلف، وكان مديرًا لشركة «أوديون» للأسطوانات، قد شكك في قدرات أم

كلثوم النقابية، وكان دائمًا ما يردد في جلسات تجمعه بالموسيقيين في حديقة النقابة "طالما ضمت النقابة رجالاً  فينبغي أن يتولوا قيادتها"!
وعندما كان حديثه يصل لأم كلثوم كان ترد "أنا أيضًا قادرة على تولي قيادة النقابة، أنا عندي أفكار وحلول للمشكلات"، وهنا كان يلجأ المصري إلى الرد التقليدي "لكن الرجال قوامون على النساء!". فتؤكد له أم كلثوم "بإمكان المرأة أن تكون رئيسًا، وصارت رئيسًا للنقابة بالفعل!".
أم كلثوم تنتصر
قبل أن تسافر أم كلثوم إلى لندن للعلاج من الغدة الدرقية، التي بدأت مشكلاتها تتفاقم وتؤرقها منذ عام 1948، عقدت

"الفائزون عقب اجتماع هيئة المجلس الأولى".. (مجلة الفن) تغطي انتخابات نقابة الموسيقيين 19 مايو 1952..

"الفائزون عقب اجتماع هيئة المجلس الأولى".. (مجلة الفن) تغطي انتخابات نقابة الموسيقيين 19 مايو 1952..

 الجمعية العمومية لنقابة الموسيقيين اجتماعًا خاصًا برئاستها، وذلك في يوم الأحد 15 مايو 1949، للنظر في إعادة انتخاب نصف أعضاء مجلس الإدارة، وإقرار مشروع صندوق الادخار والإعانة بعد أن وافقت عليه وزارة الشؤون الاجتماعية، ونشرت مجلة «آخر ساعة» في عدد 18 مايو 1949 تفاصيل ذلك الاجتماع تحت عنوان «أم كلثوم تنتصر» معتبرة أن الموافقة على ذلك المشروع يعتبر انتصارًا رائعًا لنقيبة الموسيقيين، وسيصبح من حق النقابات جميعًا الانتفاع به، وهو ما لم تستطع نقابة واحدة تحقيقه حتى ذلك التاريخ، ويصرِّح أعضاء النقابة لمجلة «آخر ساعة» إن انتصار أم كلثوم يحمل معنى

خطيرًا، فهو دليل جديد على أن المرأة المصرية تستطيع إذا أتيحت لها الظروف القيام بأعباء الحكم، بصورة لا تقل إن لم تكن تزيد عن الرجل!
بعد أن هدأت حدة المعارك المشتعلة في مدن القناة، بسبب إلغاء حكومة الوفد معاهدة 1936، وبعد أن أُخمد حريق القاهرة وخفت تبعاته الكارثية تدريجيًّا، عاد النشاط الفني والدور النقابي في مصر، ففي مارس 1952 تنبأت مجلة «الفن» بمعركة نقابية عنيفة في انتخابات مجلس إدارة نقابة الموسيقيين بعدما أعلن عن إجرائها في منتصف مايو 1952. وأكدت المجلة أن المعركة المرتقبة لن تقل عنفًا عن معارك مجلس النواب الحزبية، وذلك بعدما غزت 

 المعركة لا زالت متذبذبة.. والجميع في انتظار المفاجأة الكبرى.. (مجلة الفن)19 مايو 1952

المعركة لا زالت متذبذبة.. والجميع في انتظار المفاجأة الكبرى.. (مجلة الفن)19 مايو 1952

المقالات الدعائية الصحف اليومية في مصر، ودُبِجت البرامج الانتخابية بشكل علني، ونشرتها المجلات الفنية بتوقيع أشخاص يودون دخول مجلس الإدارة، ووصل عدد المرشحين لعضوية المجلس 42 عضوًا، لكن تلك الحملة الدعائية دفعت أنصار أم كلثوم إلى تجييش الأقلام للرد على تلك المقالات بمقالات مضادة وتفنيد تلك البرامج وإظهار نقاط الضعف بها وبخس قيمة أصحابها. وفي الصوان الذي أعدته النقابة لأعضائها يوم الأحد 15 مايو 1952 كان هناك أكثر من 200 موسيقي وعازف بخلاف رجال الصحافة، وتذكر مجلة «الكواكب» الصادرة في 20 مايو 1952 أن الموسيقيين تفرقوا في ذلك 

اليوم شيعًا وأحزابًا، كل فرقة تستعد للانقضاض على الفرقة المناوئة لها، وكل حزب يريد الانتقام من الحزب الآخر، خصوصًا مجموعة الموسيقيين الموظفين الذين أفتى مجلس الدولة بجواز انضمامهم إلى النقابة، وتوحدت كلمتهم على أن يحتلوا مجلس الإدارة ليستطيعوا قيادة النقابة بأسلوب جديد. قبل انعقاد جلسة الانتخاب دوى هتاف من أحد الأعضاء في الصوان الكبير «عاشت أم كلثوم نقيبة للموسيقيين مدى الحياة!».
لكن أحدهم قاطعه معلنًا أن القانون 85 الذي تخضع له النقابة تمنع هذه الفكرة، وبدأ الاجتماع بتلاوة للقرآن الكريم من الشيخ عبد الله البدرشيني. 

ثم وقفت أم كلثوم وألقت كلمة جاء فيها "يسرني ويسعدني أن أرحب بعودة إخواننا وزملائنا الموسيقيين الموظفين، حيث نكون جميعًا أسرة واحدة، ونتجه اتجاهًا واحدًا لما فيه مصلحة الجميع، وبذلك يلتئم شمل طائفة واحدة طالما تمنينا جميعًا أن تلتئم فأجاب الله الرجاء".
متاعب النقيبة
لكن النقيبة لم تسلم من المقاطعات والمضايقات والهتافات المضادة وهي تلقي كلمتها القصيرة، وتذكر مجلة «الفن» الصادرة في 19 مايو 1952 أن أم كلثوم ثارت بعد أن أنهت كلمتها، وربما كانت تلك المرة الأولى التي يراها فيها مجلس الإدارة والموسيقيين ثائرة بذلك

النقيبة لم تسلم من المقاطعات والمضايقات والهتافات المضادة وهي تلقي كلمتها القصيرة

الشكل، وبعد عدة كلمات ألقاها  الحضور اقترح بعض الأعضاء إعادة طرح الثقة بالمجلس القديم لكن معظم الحضور احتج على ذلك لأن قانون النقابة ينصُّ على أن يبقى نصف الأعضاء ويخرج الثاني عن طريق القرعة..
وقامت ضجة وثارت مناقشة حادة نقلتها مجلة «الكواكب» إذ وقفت أم كلثوم تحاول تهدئة الجو فطلبت من صاحب الاقتراح عباس فؤاد عازف الكونترباص أن يجلس فصاح فيها متحديًا "أقعد ازاي؟ أنا عضو في النقابة ومن حقي أتكلم!". فردت أم كلثوم مهددة "يا أفندي اقعد دلوقتي أحسن أخرجك بره!". فرد عباس فؤاد غاضبًا

"مفيش مخلوق يقدر يخرجني". فقالت أم كلثوم بنفاد صبر "أنا أقدر أخرجك حالاً". ورد عباس فؤاد "ولا البوليس يقدر يخرجني!".
ثم بدأت المرحلة الأولى في الانتخاب، وتتمثل في إخراج نصف أعضاء مجلس النقابة بطريق القرعة، ورغم اعتراض عباس فؤاد على المرحلة الأولى للانتخاب، فإن الحضور أسكته لاستكمال الإجراءات، وجلست أم كلثوم تشرف على فرز الأصوات بنفسها، وأعلنت النتيجة عن انتخاب 15 عضوًا جديدًا أغلبهم من الموسيقيين الموظفين ومنهم: محمد حسن الشجاعي، وعبد الحميد عبد الرحمن، والدكتور محمد شرف الدين وعبد الحميد توفيق..

وصلة خناق لأم كلثوم.. عنوان مجلة الكواكب تعليقًا على المعارك المحتدمة بين أم كلثوم ويوسف وهبي في انتخابات نقابة الموسيقيين.. 8 يوليو 1952

وصلة خناق لأم كلثوم.. عنوان مجلة الكواكب تعليقًا على المعارك المحتدمة بين أم كلثوم ويوسف وهبي في انتخابات نقابة الموسيقيين.. 8 يوليو 1952

وعبد الحليم نويرة، ومحمد بخيت سكرتير النقابة السابق، وعبد العظيم عبد الحق، ومحمود الشريف وغيرهم. كما أعلنت عن خسارة عدد من الأعضاء المرشحين على رأسهم الموسيقار فريد الأطرش الذي بررت مجلة «الفن» خسارته بأنه كان ضحية للخيانة!
بعد شهر ونصف الشهر من فوز أم كلثوم، دعت النقيبة إلى عقد جلسة عاجلة لاتحاد النقابات الفنية في مصر، التي كانت تشمل ثلاث نقابات فنية، وتعالت الأصوات بتلك الجلسة الصاخبة، واحتد النقاش بين ممثلي النقابات الثلاث، بعدما أثيرت عدة مواضيع تطلبت التدخل من الإدارة لاتخاذ إجراءات حاسمة للدفاع عن 

للدفاع عن حقوق منتسبي النقابات الفنية في مصر، ومنع الاعتداء المادي والمعنوي عليهم.
وقد نشرت مجلة «الكواكب» عدد 8 يوليو 1952 تحت عنوان «وصلة خناق لأم كلثوم» بعضًا مما دار في الجلسة "كانت الآنسة أم كلثوم وكيلة الاتحاد هي نجم الاجتماع فأثارت عدة مواضيع منها اعتراضها على اشتراك فنان واحد في أكثر من نقابة، وأثارت موضوعًا آخر وهو اشتراك غير النقابيين في بعض الأفلام ومحاولة التهرب من دفع النسبة المقررة وهي 10% من أرباحهم، ثم لامت يوسف وهبي بك واتهمته بالتقصير في حضور جلسات الاتحاد"، وفي ختام حديثها قالت "وأنا في انتظار

دفاعك يا يوسف بك، وأتمنى أن أسمع ردًا معقولاً"!
رد يوسف بك قائلاً إنه كان منهمكًا في العمل في أكثر من فيلم في الفترة الأخيرة، وأن هذا لا يعتبر تقصيرًا، أما بخصوص نسبة الـ10% التي يتهرب منها البعض، فقد اقترح تخويله الحق في اتخاذ أي إجراء سريع يراه واجبًا لحفظ حق اتحاد النقابات الفنية، دون أن يرجع إلى أخذ رأي نقابة من النقابات الثلاث، وافق المجلس على هذا الاقتراح، كما وافق على إقامة حفلة مجمعة لاتحاد النقابات الفنية في نهاية ديسمبر 1952 -لم تُقم لظروف قيام حركة يوليو 1952- وانتهى المجلس بانتخاب يوسف وهبي بك رئيسًا والآنسة أم كلثوم 

انتشرت شائعات حول اضطهاد أم كلثوم للمطربات العرب بصفتها نقيبة للموسيقيين 

ومحمد عبد العظيم المصور وكيلين، والممثل أحمد علام سكرتيرًا عامًا، والموسيقار محمد حسن الشجاعي أمينًا للصندوق.
شكَّلت نسبة الـ 10% لغير النقابيين أزمة كبيرة منذ أن اعتمدها مجلس النقابات الفنية، بل صارت تلك الضريبة مع الوقت ذريعة الكثير من الهجوم على النقيبة أم كلثوم، بعد أن نسج من خلالها الإشاعات حول اضطهاد أم كلثوم للمطربات العرب بصفتها نقيبة للموسيقيين، خصوصًا مع صعود أسهم المطربات اللبنانيات في مصر منذ بداية النصف الثاني من عقد الأربعينيات، على سبيل المثال تذكر مجلة «الاستديو» الصادرة في 18 يناير 1950 بعضًا مما 

تواجه أم كلثوم النقيبة مع تلك الفئة غير النقابية، وأنها اضطرت إلى اتخاذ موقف حاسم مع المطربة صباح التي كانت تعمل في فيلم «أختي ستيتة» دون أن تسدد قيمة الضريبة.
وعلى صفحات المجلة نفسها نلاحظ موقفًا أكثر حسمًا مع المطربة نور الهدى التي فوجئت بامتناع الموسيقيين عن العمل معها لتسجيل أغاني فيلم «أفراح» بسبب عدم سدادها الضريبة المتفق عليها. وظل ذلك الموضوع يلاحق أم كلثوم تحديدًا على صفحات المجلات اللبنانية، حتى بعد عامين من تركها رئاسة النقابة، فعندما زارت لبنان في أكتوبر 1954، أكدت للصحفي سليم اللوزي في معرض حواره معها أن تلك 

الاتهامات لم تكن سبب غيابها عن لبنان لمدة عشرين عامًا، فردت "لبنان بلدي والحملات الكاذبة التي نشرت في الصحف كانت مختلفة، وكنت دائمًا أربأ بنفسي من أرد على الاتهامات التي ألصقت بي، اتهموني بأني أحارب الفنانات اللبنانيات، ما الدافع؟ أنا لا أشتغل بالسينما حتى أحارب الفنانات، وضريبة العشرة في المائة التي فرضت على أرباح الفنانين والفنانات الشرقيات فرضت في نفس الوقت على الفنانين والفنانات في مصر، ثم هذا قانون نقابي، ما ذنبي أنا في وضعه؟ هل السبب لأنني نقيبة الموسيقيين؟!".
على الرغم مما حققته أم كلثوم للنقابة وللموسيقيين على مدار عشر سنوات

لم تستطع أم كلثوم مقاومة التغيير الجارف في علاقتها بالدولة المصرية بعد أيام قليلة من حركة الضباط

كاملة، من اعتماد قوانين كان لها بالغ الأثر في تحسين معيشتهم، ومقدرتها الفائقة على تطويع الخلافات بينها وبين منافسيها داخل النقابة في كل الأزمات، فإنها لم تستطع مقاومة التغيير الجارف والحاد الذي طفا على سطح علاقتها بهم. وعلى الرغم من محاولات البكباشي، آنذاك، جمال عبد الناصر حماية أم كلثوم، ووقف أي نشاط قد يكون موجهًا ضدها، فإنه لم ينجح في حفظ مجلس إدارة النقابة، خصوصًا وأن عددًا لا بأس به داخل النقابة كان على خلاف مع إدارة المجلس النقابي، ومع أم كلثوم شخصيًّا! وبعد عناية خاصة أولاها اللواء محمد نجيب لصناع السينما

المصرية، وتكرار زياراته للاستوديوهات السينمائية في الشهور التالية ليوليو، بغرض توجيه صناع السينما لما يخدم الحركة ومبادئها، التقط بعض موسيقيين الخيط ودفعوا بتغيير مجلس النقابة وتنحية أم كلثوم عن رئاستها، خصوصًا من كان لهم اعتراضات على الطريقة التي أجريت بها انتخابات مايو 1952، ولم يستطيعوا المجاهرة بذلك آنذاك خشية إغضاب النقيبة أم كلثوم. وتذكر مجلة «الكواكب» الصادرة في 14 أكتوبر 1952 أن بعضًا من هؤلاء قد وجد الفرصة سانحة لأحداث تغير في النقابة، فذهبوا وقابلوا ضباط الثورة وطلبوا منهم التدخل لتطهير النقابة من مجلس

الإدارة، وتؤكد المجلة في العدد نفسه أن هؤلاء شرحوا للمسؤولين أن أم كلثوم تُسخِّر منصبها كنقيبة للموسيقيين من أجل منافعها الشخصية، دون الاهتمام بمصالح الهيئة الموسيقية، وأن انتخابها لم يكن فوق مستوى الشبهات! وقد وجد ما قاله هؤلاء في نفس بعض الضباط صدى ومبررًا للتغير والتبديل بعد حركة غيَّرت وجه مصر، ففي 23 سبتمبر 1952 نشرت مجلة «الكواكب» مشروعًا تحت عنوان «دستور التطهير في الوسط الفني» لتطهير النقابات الفنية في مصر وتغير قيادتها، وطالبت فيه بحل جميع النقابات ودمجها في كيان واحد،  ودمجت مشروع التطهير -غير الموقع-

مع محاولات البكباشي جمال عبد الناصر حماية أم كلثوم، لم ينجح في حفظ مجلس إدارة النقابة

بكلمة للموسيقار محمد عبد الوهاب الذي وجه نصيحته "يجب على النقابات الفنية أن تبدأ أولاً بتطهير صفوفها من (أعضاء الشرف) والدخلاء وذوي الأهداف غير النقابية، ثم تبدأ بعد ذلك مهمة الحكومة في إسداء المعونة لها!"، وبالفعل عادت المجلة لتكتب يوم 7 أكتوبر 1952 تحت صورة تجمع ثلاثة من أعضاء النقابة؛ عبد الغني السيد ومحمود الشريف وأحمد الحفناوي، خبرًا سريعًا عن تغير عميق حدث بالفعل في نقابة الموسيقيين، وانتخابات جرت منذ أيام في وأسفرت عن تنحية أم كلثوم عن رئاستها، ما أحدث دويًّا كبيرًا في الأوساط الفنية، وصفته المجلة بأنه

أم كلثوم بين نجيب وعبدالناصر بعد الصلح مع مجلس قيادة الثورة

أم كلثوم بين نجيب وعبدالناصر بعد الصلح مع مجلس قيادة الثورة

"انقلاب" خطير قسَّم الموسيقيين إلى مؤيد ومعارض، ذكرت الكواكب أن رياح المعارضة اشتدت في الأسبوع الأول من أكتوبر، وعهد إلى المستشار مختار بخيت، من رجال القانون، بوضع صيغة قانونية جديدة للنقابة، وأكدت أن هذا القانون سوف يسبب المشكلات لعدم شرعيته، وذلك بعدما اعترضت وزارة الشؤون على عملية الانتخاب الأخيرة وطريقة خروج أم كلثوم من مجلس الإدارة! ويبدو أن البعض حاول استغلال الخلاف الحاد الواقع بين أم كلثوم والشيخ زكريا أحمد، ودفعه للترشح كنقيب جديد للموسيقيين، لكن الشيخ زكريا لم يقبل أن يعمِّق خلافه القانوني 

مع أم كلثوم بخلاف آخر، وارتضى فقط بتولي إدارة النقابة مؤقتًا تصريفًا للأعمال، وفي أيام أقنع الموسيقيون محمد عبد الوهاب بخوض الانتخابات الجديدة، وفي 28 أكتوبر 1952 نشرت الكواكب بعنوان «معركة حامية في نقابة الموسيقيين» تفاصيل المعركة الانتخابية المشتعلة في النقابة وأكدت أن تاريخ النقابة لم يشهد قبلاً جولة انتخابية حامية مثل يوم21 أكتوبر 52 بعد أن سبق الانتخابات اجتماعات عقدها معارضو المجلس السابق وأم كلثوم، وأسفرت الاجتماعات عن الاتفاق على انتخاب عدد من الموسيقيين الذين لم يثروا أو يمتلكوا الأراضي والعقارات، 

رغم انطواء صفحة النقابة دعاها مجلس قيادة الثورة لإحياء حفل لصالح شهداء حرب فلسطين

تماشيًا مع أهداف الثورة الجديدة، وصدور قانون الإصلاح الزراعي، في تعريض حقيقي بأم كلثوم ومجلسها. بتلك الشروط نجح عبد الوهاب في ترشيحه لعضوية المجلس الجديد ورئاسته، بعد أن فاز بـ116 صوتًا؛ وهو  أكبر عدد حصل عليه أحد المرشحين، وطول جلسة الانتخاب بدا عبد الوهاب قلقًا من النتيجة، ينتقل بين الأعضاء موزعًا عليهم الابتسامات بالعدل، بيده سيجارة لا تنطفئ، لأنه لم يشعلها قط. طويت صفحة النقابة من حياة الست، وتغير المجلس بما يوافق هوى العهد الجديد، ودعاها مجلس قيادة الثورة بعد الانتخابات بأيام لتغني على مسرح سينما ريڤولي يوم 30 أكتوبر 1952،

 أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في رحاب الموسيٍقي بعيداً عن حرب النقابة

أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في رحاب الموسيٍقي بعيداً عن حرب النقابة

لشهداء حرب فلسطين ومشوهي الحرب. ونشرت الكواكب صورها تجلس باسمة بجوار محمد نجيب وقادة حركة يوليو، في مشهد أقرب للترضية على ما حدث في نقابة الموسيقيين، وبداية عهد جديد بين أم كلثوم والدولة المصرية؛ لم تحتج خلاله أم كلثوم للنقابة ولا سلطتها، بعدما اعترفت الدولة الناصرية فيما بعد بزعامتها، وكرستها وجهًا نسائيًّا يشارك الزعيم الأوحد سلطته وتأثيره على الجماهير.

اقرأ أيضاً

كيف حكت أمينة رشيد عن حياتها

كيف حكت أمينة رشيد عن حياتها

كيف تكتب عن فريد شوقي دون مبالغة؟

كيف تكتب عن فريد شوقي دون مبالغة؟

كمال رمزي إن حكى

كمال رمزي إن حكى