تحكي فيروز لنازك باسيلا التفاصيل الصغيرة فتصنع صورة مختبئة خلف المسارح والأضواء والقصائد. تكشف عما وراء الذكريات، وتعيد رسم ملامح زمن لبناني كامل.. فهل لصوت الضيعة أن يتحول إلى مرآة لمدينة وعصر كامل؟
قبل البدء يجب إنعاش الذاكرة بمراجعة بعض التواريخ المهمة، لمعرفة سياق الحكاية.. في ٢٦ سبتمبر١٩٧٢ أصيب عاصي الرحباني بانفجار في الدماغ، وفي ١٠ ديسمبر ١٩٧٢، أي بعد أقل من ثلاثة أشهر، بدأ عاصي يسترد عافيته بعد عملية دقيقة أجريت له، ويعود مرة أخرى إلى العمل والتلحين بمعجزة ربانية وإرادة بشرية..
في ٢٧ فبراير ١٩٧٣ بدأت عروض مسرحية المحطة على مسرح البيكاديللي في بيروت، واستمرت حتى ١٦ يونيو ١٩٧٣.. في ١٩ يوليو ١٩٧٣ بدأ الإعلان والتجهيز للعرض الغنائي "قصيدة حب" في بعلبك.
ما بين الإجازة من عروض المحطة وقبل البدء في قصيدة حب، أجرت نازك باسيلا [الكاتبة اللبنانية ومؤلفة كتاب "بديعة مصابني.. مذكرات صانعة الاستعراض"] حوارًا مطولاً مع فيروز في بيتها، نشرته مجلة "الأسبوع العربي"، على أربع حلقات، تحديدًا في يوليو ١٩٧٣ تحت عنوان: "مذكرات/ذكريات فيروز" وفيه روت بنفسها لنازك باسيلا قصة حياتها منذ الطفولة، أو بالأحرى نتفًا كثيرة وغزيرة وعميقة عن طفولتها وشبابها وأسرتها التي نشأت فيها قبل الشهرة والزواج من عاصي الرحباني. تكلمت فيروز كثيرًا وبأريحية وعفوية ربما بفعل الأعباء التي أثقلتها في تلك الفترة بعد مرض عاصي.
على مدار السنوات استعيدت أجزاء مما قالته فيروز في تلك الحلقات خلال مقالات أخرى، وتسللت شذرات من تلك الذكريات إلى الإنترنت.. ولأن الحلقات الأربع التي نشرتها نازك كانت مشتتة الفقرات، لأنها كانت تحكي عفو خاطرها، أعدت ترتيب كلامها في الحلقات وفقًا لتطور الخط الزمني ووحدة الموضوع، لتأتي في سياق واحد متصل ومرتب، كما اختصرت الكثير من صياغات نازك باسيلا الشاعرية للتركيز على كلام فيروز...ولنبدأ الآن.
بعض الربيع توقف في بيتها، عرس أزهار وألوان.. المدفأة الكبيرة التي تتوسط صالة الاستقبال لا تطل منها ألسنة النار بل قوارير من الرياحين صغيرة..
الوسادات غزيرة منتشرة فوق كل المقاعد.. والدمى التي حرمت منها في صغرها تتكئ على الوسادات وتفترش المقاعد، أما الستائر فبيضاء.. وجه فيروز كوجه الطبيعة يضيق بالتصنع يرتاح للبساطة، يحب أن يترك كما خلقه ربه. يبدو وهو عارٍ من المساحيق لطيفًا، مؤنسًا وقريبًا. يناديها عاصي باسمها الحقيقي؛ نُهاد.. وتناديها الخادمة ست نُهاد، فيستغرب الزائر أن لا تكون فيروز فيروزًا دائمًا، بل نُهاد لزوجها وخادمتها وصديقاتها.
تدخل باسمة تتسربل بعباءة من الجوخ الزهري. شعرها الطويل يمرح فوق كتفيها.. هي أحلى من صورها، عيناها العسليتان زارهما الألم فتوطن
لم تكن نهاد حداد وهي تلاعب القطط وتغني في مطبخ البيت تدري أنها ستصبح صوتًا لا تنال منه تجاعيد الزمن
في أعماقهما.. تكرج ضحكتها صادقة صافية شفافة، لكنها قبل أفولها بقليل تبدو وكأنها في غير ديارها.. روى العديدون حياة فيروز، كل على هواه مما جعلها تقول -وهي سريعة البديهة، حلوة النكتة سلسة الكلمة- إنه صار عليها أن تغير قصة حياتها لكثرة ما تصرفوا بها..
من هي فيروز؟
"طفلة.. أم لأربعة أولاد نسيت أن تكبر".
ثم تعيد السؤال، وتجيب "فيروز الطفلة؟ كانت بنت معتَّرة.. ما عرفت في طفولتي اللعب، وما احتضنت دمية".
والدتها ليزا بستاني من بلدة دبّية في الشوف، ووالدها وديع حداد كان عاملاً
في مطابع صحيفة لوجور.. هي كبرى أخوتها چوزيف وهدى وآمال.. ولدت في منزل صغير من منازل بيروت العتيقة في زقاق البلاط بالذات، وقد اختصر هذا المنزل على صغره عالم طفولتها وصباها الأول. أحاط السور بعدد من المنازل الصغيرة. التصق الواحد منها بالآخر بشكل دائري يدعى الحوش. أحاط بالحوش سور فصل بيوته عن سائر البيوت الأخرى وعن الطريق العام.. تكوَّن المنزل من غرفة واحدة ومطبخ. أرض الغرفة لم تعرف البلاط الملون، غطتها طبقة من الأسمنت الباهت الذي اختفى تحت الحصير.. النوافذ كبيرة مربعة يفصل بين من يقف وراءها ومن في الخارج قضبان الحديد.
لم تغادر فيروز طفولتها وحبها للطبيعة وهي تحكي بعد عقود عن البيت وحواديت جدتها.
وإن غاب نور النهار استعيض عنه بضوء اللمبة الوحيدة.
وبدأت فيروز تروي "أحببت منزلنا الصغير، وعملت دائمًا على إبقائه نظيفًا. ما إن أعود من المدرسة حتى أنهمك في الترتيب والكنس والمسح وغسل الأطباق، ورق العجين قبل ذهابي في الصباح. كلما تغلب علَى النعاس واشتد حنيني إلى الراحة غلَّف والدي اللمبة بورق صحيفة قديمة، كي أستطيع النوم ويتمكن هو من متابعة قراءة صحيفته الجديدة. احتوى ذلك المنزل كل طفولتي، لكم أحببته وما زلت أحبه وأحن إليه رغم الحرمان الذي عشته فيه. لم يفرِّط به والدي حتى بعد انتقاله إلى منزل آخر.
لم أعرف اللعب ولا الدمى ولا الحلوى ولا أيًّا من الأشياء التي تجعل عمر الصغار جميلاً. لم أعش صغري. رأيت نفسي منذ صغري مسؤولة عن نظافة المنزل وترتيبه، بينما تولت والدتي أعمال الطهي. أحببت كـل ما صنعت يداها: تبولة، بطاطا مقلية، أما الفاكهة فأحببت منها ما توفر لنا، ولم يتوفر لنا منها الكثير.
لم يكن لدينا راديو، فأسترق السمع إلى راديو جارنا الذي فصلنا عن منزله سقف المطبخ. كنت أطيل عملية غسل الأطباق قدر ما أستطيع، كي يتسنى لي الإصغاء إلى الأغاني وحفظها كلها. وكان لمطبخنا جار آخر يعمل في الليل وينام في النهار، فما أن يحاول الإخلاد
إلى الراحة في بيته، حتى أحتل المطبخ في بيتنا وأسترسل في الغناء، فيقفز من فراشه ثائرًا ويقول بغضب (ما هذا؟ ما هذا الإزعاج؟ لماذا لا تفتحون إذاعة على حسابكم وينتهي الأمر؟).. وما زلت أذكر عن ذلك الجار الطيب أنه جاء إلَى معتذرًا، وقد تقدمت به السن، بعد أن تجاوز صوتي جدران مطبخنا وأصبح لي قسط من الشهرة.
كان حبي لمنزلنا يزداد يومًا بعد يوم، فأحمل إليه باقات من الأزهار البرية كلما تسنى لي الذهاب في نزهة. سرعان ما بلغ أهل الحي ولعي بالأزهار، فأخذت تأتيني ضمات صغيرة يرسلها لي كل من عنده حديقة. وقد بلغ كلفي بالأزهار حدًا جعل والدتي تقول لي دائمًا
"بدك أعطيكي جنيْناتي".
أتقنا، نحن صغار الحوش، الألعاب التي لا تكبد أهلنا نقودًا. اقتصر لعبنا على القفز فوق الحبل أو وراء أحجار الأكس.. وكان لدينا ما أسميناه (العصفورة).. عصفورتنا خشبة سميكة في نصفها، مسنونة عند طرفيها، تضرب بها خشبة أصغر تضعها على الأرض. أوقات اللعب كانت قصيرة العمر، ولم أعرف ما وراء ذلك السور إلا ما سمح لي به والدي. ووالدي عطوف وشديد القبضة معًا، أقام لي في رأسي نواطير كنت وما زلت أخشاها.
أما رحلاتنا فنزهات نادرة ينقلنا فيها الترامواي إلى المنارة.. كم ترقبت إطلالة "الكوع" الكبير الذي يؤدي إلى أبنية
الجامعة الأمريكية، وتلهفت على أن أقابل الهواء بوجهي وشعري، فأصر على الوقوف خارجًا إلى جانب سائق الحافلة. قلما تنعمت بركوب السيارة إلا حين قدوم خالي بسيارته من وقت لآخر ليأخذنا إلى الدبية. واعتاد خالي فضلاً عن تلك النزهات الموسمية القليلة أن يعطيني ليرة كاملة غير منقوصة أحتفظ بها للملمات. والملمات كانت شرائي (قرن نعومه) أتناوله بهدوء ووقار، خوفًا من أن أضحك فتنتابني نوبة سعال من جراء (النعومه) وتسللها إلى خياشيمي. وما زال تحت لساني طعم نوع من الحلوى فيه نكهة جوز الهند، كم أشتاقه الآن، بحثت عنه عبثًا في محالٍ كثيرة. من يدري؟ قد أعود وأعثر عليه
في الدكاكين التي اعتدت ارتيادها وأنا طفلة. أما التفاح الصغير المطلي بالسكر والموضوع في نصفه عود رفيع، فكان أثمن من أن تتسع له ميزانيتي..
كنت أترقب بصبر فارغ ظهور صندوق الدنيا أو "صندوق الفرجة" كما دعوناه دائمًا، فأتشارك مع رفيقة لي أو إحدى بنات الجيران في طاقة صغيرة من طاقاته الثلاثة. كان على كل من يريد النظر من خلال إحداها أن يدفع لصاحب الصندوق فرنكًا بجلال قدره، وبما أن العثور على فرنك بكامله أو على الأصح التفريط بفرنك لم يتوفر لي دائمًا، كنت أدفعه مناصفة وأتقاسم الطاقة مع شريكتي.. تَريْنني لم أستمتع بما في داخل الصندوق لأنني ما رأيت منه
سوى القليل. شاهدت من عنتر أبي الفوارس نصف شاربه فقط، وإحدى عينيه الاثنتين. وأذكر أن المرة الوحيدة التي استدنت فيها، بلغت قيمة ديني ربع ليرة أخذتها من إحدى رفيقاتي، واتفق أن تركت رفيقتي المدرسة بعد ذلك مباشرة، فشغلني الدَّيْن حتى تمكنت من إيصاله لصاحبته.
عشت طفولتي المحرومة ولم أتعرض فيها للأمراض. لعل نصيبي من الفقر و"التعتير" كان أكبر من أن تتسع أيامي للمرض أيضًا، ولو أنني أصبت مرة بيرقان اتبعوا في معالجتي منه الطريقة الشعبية القديمة.. يحيطون المصاب به باللون الأصفر طوال أربعين يومًا لاعتقادهم بأنه العلاج الأمثل..
قيل يومها إن اليرقان سببه لي قط كنت أدربه على القفز، يطيعني طاعةً عمياء، ويقفز فوق حواجز أقيمها له بنفسي. في إحدى ليالي الشتاء الممطرة قطعت الكهرباء عن الحي فحملت القط بيد، وباليد الأخرى صحنًا عليه شمعة مضاءة لأذهب إلى المطبخ، لكن الريح أطفأت الشمعة فجأة، فأفلت القط مني ومر بين رجلي مسرعًا. هلع قلبي من الخوف إذ حسبت القط فأرًا، فرميت الصحن أرضًا وأخذت في الصراخ. استيقظت في اليوم التالي صفراء اللون وقد أُصبت باليرقان. الأيام الطويلة التي أمضيتها في الفراش محاطة بكل ما تلون بالأصفر لم تؤثر على مودتي للقطط. يضحكني شكلها عندما تلتقي كلبًا فتقوس ظهرها
دائمًا تخبئ فيروز ضحكتها لتخفي خجلها حتى على المسرح. الصورة من حوار آخر أجرته مجلة الأسبوع العربي معها. أرشيف سامي رستم
وتستعد للقتال. كما يضحكني شكل قطة تلوح بذيلها في الهواء لتهرب مسرعة. وكم أضحكتني في صغري أبسط الأشياء.
مرحي الفطري جعلني أضحك من أي شيء.. إذا تعثرت قدمي بحصاة ضحكت، وإذا كسرت صحنًا ضحكت، وإذا بدرت مني هفوة ضحكت! وكان لنا جارة عجوز كثيرًا ما ضاقت بنا، نحن أولاد الحوش، فإذا عجزت عن اللحاق بنا نادت والدتي وقالت لها غاضبة (اصنعي لهن للشعانين فساتين من خيش). وما كنا نرتديه لم يكن أصلاً أكثر نعومة وليونة من الخيش.. ما يتعذر علَي فهمه اليوم أنني لم أشته يومًا ما ترتديه رفيقاتي، بل اكتفيت بما تيسر لي
على قلته. كان لدي حذاء واحد أبيض اللون مفتوح من الأمام ومن الخلف كي أستعمله في الصيف والشتاء. أنتعله وأسير كراقصة الباليه لأطيل عمره ما استطعت، أما المعاطف فأمضيت معظم سنوات طفولتي ولم يتوفر لي منها إلا واحد جمع كل الألوان. كنت أرتديه حتى في أيام الصيف لشدة فرحي به.
رافقني حرصي على الأشياء حتى بعد زواجي بسنوات. اتفق لي أن ذهبت برفقة إحدى صديقاتي لشراء معطف من الجوخ الأسود، وسمعت نفسي أقول للبائع بصورة آلية: (هل يخدم هذا القماش طويلاً) فضحكت صديقتي وأشارت من بعيد، خشية أن أطيل نقاشي مع البائع..
فيروز مع عاصي، العقل الموسيقي الذي غير حياتها وحياة تاريخ الموسيقى في لبنان، وقالت عنه "عرف صوتي قبل أن أعرفه".
وكنا مع ذلك عزيزي الجانب، نكتفي بما لدينا ولا نشتهي ما لدى سوانا".
وصل عاصي إلى البيت لحظة كانت فيروز تروي هذه النتف من حياتها.. رحبت بأبي زياد الذي جلس يصغي إليها، ثم قاطعها "لنهاد والد لم ألتق مثله إلا القليل. ما حاول مرة استغلالها في صغرها، ولا بعد ما كبرت وكبر اسمها، فهو خفيف الظل عفيف النفس. ما فرض نفسه مرة. نرجوه أن يحضر حفلاتها فيمتنع، وإن جاء نزولاً عند إلحاح ابنته فللحظات، ثم يختفي دون أن يشعر به أحد.. ليلة افتتاح مسرحية "المحطة" في البيكاديللي شاهد بعض الصحافيين رجلاً مسنًا يقبِّل فيروز باكيًا ثم يسرع في الخروج من غرفتها.
تساءل الصحافيون عمن يكون ذلك الرجل، فقيل لهم إنه والد المطربة الكبيرة، وعندما لحقوا به ليلتقطوا له صورة مع ابنته كان قد توارى عن الأنظار".
تعود فيروز إلى القول "كان والدي حنونًا وشديدًا؛ لم يسمح لنا مرة بالإصغاء إلى ما يرويه ضيوفنا من نكات، بل كنا بإشارة منه نخرج إلى الحوش وندع للكبار مجال الضحك وسرد الأخبار. كنت أنتظر إشارته بفارغ الصبر لأنني كرهت منذ صغري الزيارات التي يغلب عليها طابع الرسميات، فأختلق الحجج لأتهرب منها.
لست أذكر أنني حسدت أحدًا على شيء امتلكه. نَفَسي طويل في انتظار الأشياء
وقد وثقت دائمًا من أنني سأتمكن بالنتيجة من الحصول على ما أريد.. كم عدت في أولى سنوات عملي من منازل كبيرة تضيق بالسجاد أدعى إليها، إلى منزلنا الصغير الذي يغطي أرضه الحصير. لم أتضايق ولم تحز في نفسي الغيرة، وما زلت أحن إلى الحصير حتى اليوم، فلا نكاد نرفع السجاد حتى أمد "حصيرة واسعة في غرفة الطعام.
حكايات فيروز مع جدتها هي حكايات أيامها ولياليها اللبنانية، تلك التي عاشتها في الدبّية بلدة والدتها. عندما نصغي إلى فيروز تغني القرية الصغيرة الحلوة البسيطة، ونلمس الصدق والإخلاص في الصوت الجميل؛ فلأن فيروز -ولم تكن قد أصبحت فيروزًا بعد-
عرفت تلك القرية وأحبتها من أعماقها، وعاشت كل مظاهرها المتواضعة الفطرية المريحة. وتضحك فيروز من أعماقها هذه المرة ضحكة لا يشوبها حزن ولا غصة. تستعذب الرجوع الى أيام من طفولتها عاشتها برفقة والدة والدتها.
أصغيت إليها تقول بحنان "ستي كنت حبها وهي كانت تحبني كتير. كانت من حزبي؛ تخبيلي الأكلات الطيبة.. حنونة حلوة.. قصص الجن والزير وعنتر والشاطر حسن سمعتها منها. كانت جدتي لوالدتي أطيب الناس معي. أخاف عليها من كل شيء؛ من البرد، من الحر، من طول غيابها في قريتها الدبّية. تأتيني مع الأعياد محملة بأكياس لوز تقطفه
وتحمصه وتملحه بيدها.. كانت حلوة الشكل منمنمة القد، متعلمة، اغتربت في وقت ما. ترتدي تنورة طويلة ذات جيوب واسعة..ما أن تدخل إلى منزلنا حتى تتلفت يمينًا ويسارًا، فإن هي لم ترَ أحدًا ضحكت وقالت لي هامسة "تعالي" وتناولني أكياسًا صغيرة ملأى باللوز والتين المجفف.. لي معها حكايات؛ كنت أعد الأيام الأخيرة من السنة المدرسية وأتعجل مجيء جدتي من الدبّية؛ لتصحبني إلى حيث الليل والقنديل والنوم الباكر.. نركب البوسطة مرتين واحدة في الذهاب والثانية عند عودتنا بعد شهر أو أكثر بقليل. يتأكد جيران جدتي من وصولي عندما تقابلهم نظافة المصطبة.. المصطبة- وأهل الجبل
كلهم يعرفونها- هي الشرفة الصغيرة الممتدة أمام المنازل القديمة، التي لم يكن يكسو أرضها البلاط ولا حتى الأسمنت، ولا يغطي سقفها القرميد. كانت جدران تلك البيوت وأرضها تزدهي بالترابة الشقراء اللون ذات الرائحة العطرة. نذوبها في الماء ثم نمرّحها وندلكها بحجر أملس، فتصبح حريرية اللمس حلوة الشكل، ولكن سريعة العطب، على من يسير فوقها أن يخلع حذاءه ويترفق في خطاه كي لا تمتلئ بالحفر الصغيرة ويقتلع الطين من مكانه.
أحاط بمصطبة جدتي مقعد صنع من الحصى الصغيرة التي كنت أكسوها بطبقة سميكة من الطين أدلكه بعناية،
وقد سمي ذلك المقعد إفريزًا. وثمة إفريز ثان اعتدت الاهتمام به، إفريز داخلي تتوسطه عادةً الموقدة، وبرز منه في منزل جدتي عمودان سندًا السقف.. وقد صنع سقف بيوت القرى دائمًا من ألواح خشبية بدائية تدعى الوصائل (الوصالة) علتها طبقات من الأغصان اليابسة والحجارة الصغيرة يغلفها التراب.. كانت جدتي تحدل سقف منزلها [تحدل: تضع التراب على الحجر لمنع تسرب الماء] بنفسها في الشتاء كي لا يتسرب إلى داخله الماء.
قلت إن نظافة المصطبة جعلت جيران جدتي يعلمون دائمًا بخبر مجيئي قبل أن يقع نظر أحدهم علَي، فقد أتقنت دلكها وكنت أمرّح الطين إلى أبعد
ما أستطيع كي تتسع لنا أيام الحر.. أما في الداخل فكانت هناك مقاعد خشبية ومساند أتولى غسل وكي أغطيتها البيضاء. نفرش الأغطية مساء السبت ونرفعها صباح الاثنين كي لا تتسخ وتدركها الشيخوخة.
وربما عاد حبي لجدتي إلى إفراطها في النظافة، وإلى ندرة كلامها وتعففها عن تأنيبي إذا ما بدرت مني هفوة، وهفوات الصغار كثيرة. قلما لجأت إلى تخويفي، بل اقتصر تخويفها لي على محاولتها إصدار أصوات اعتقدت في طيبتها أنها تشبه أصوات الحيوانات البرية. أدركت دائمًا أنها هي مصدر تلك الأصوات، وراقني سماعها ومعرفتي أنها لا تعرف أنني أعرف.
مع أطفالها الأربعة زياد وليال وهلي وريما عاشت فيروز طفولتها التي حرمت منها في الدبية
أتركها تزمجر وأتظاهر بالنوم حتى يغلبني النعاس.
لم يكن في الدبّية على أية حال مفر من النوم باكرًا. الأعمال الثقيلة متوفرة بكثرة، نقوم بها أثناء النهار، فلا يكاد يغلف المنزل الصغير الظلام حتى نَحِن إلى الراحة. يتيح لنا نومًا عميقًا حتى الصباح هدوء لم يكن يعكر صفوه سوى أزيز الزيزان الذي يعلو مع اشتداد الحر، وإذا ما حدث وسمعنا هدير محرك، فيكون ذلك محرك البوسطة التي تعود إلى القرية في المساء، فيتقاطر الجميع لرؤيتها، لمعرفة الأنباء وللتعرف إلى القادمين الجدد.
لم تكن الدبّية قد تعرفت إلى الماء ولا إلى الكهرباء، فالليل ظلام دامس
يطبق على المنازل الترابية القليلة.. يتسلل عبر طيات سواده نور ضئيل من مصابيح شحيحة تنوس باكرًا ثم تنام. والماء يؤتى به من عين ينتابها أيام الصيف شح مزمن، فلا تمتلىء الجرار إلا بصعوبة وبعد طول انتظار.. ننام باكرًا ونستيقظ باكرًا فأحمل الجرة وأذهب إلى العين، لا ألتقي سوى مكارٍ ينقل الماء إلى منازل القرية على ظهر حماره. وحده المكان ووحشته كانتا تحملانني على الغناء، فأطلق صوتي عاليًا وأسترسل على سجيتي دون أن يسمعني أو يطيِّب لي أحد. على طريق العين في الدبّية لم يكن هناك من يصغي إلَي سوى أشجار الصنوبر، ورفوف عصافير، والمكاري الذي ألقاه يقود حماره المحمل ماء
باتجاه منازل القرية.
كم قطعت من المسافات البعيدة سيرًا على القدمين، ما حفلت على صغري بالتعب وكل ما عناني أن أظل ملازمة جدتي.. كنت أحب مرافقتها إلى حيث شاءت. وقفنا مرة ننتظر الترامواي أمام كاتدرائية مار جرجس، لما دنت منا الحافلة صعدت وتبعنى إليها رجل يحمل حصيرًا عريضًا، حال دون صعود جدتي. سار الترامواي فجأة فطار عقلي وصرت أقفز مكاني وأصيح (بدي ستي بدي ستي) فيما أخذت هي تركض وراءنا حتى بلغنا الجران تياتر Grand Théâtre حيث توقف السائق بين ضحك الركاب وشفقتهم.
كنا أيام الصيف نخبز على الصاج
أو على التنور، فأروح أجمع لها إبر الصنوبر والأكواز اليابسة لتلقم بها النار. أتسلق أشجار الصنوبر مهما علت، وأهزها لتسقط الإبر والأكواز فأجمعها في كيس أحمله إلى المنزل.. حاولت مرارًا أن أساعدها في رقِّ العجين [فرده]، لكنني عجزت عن هلّ الرغيف قبل لصقه على الصاج [قلبه على الجانب الآخر]، ولو أنني أحسنت في بيتنا في بيروت رقَّ عجين الفرن. بلغ حب جدتى لي أنها احتفظت سنوات طوال بآخر كيس من الإبر والأكواز جمعته لها، قبل أن يحول عملي دون مرافقتها إلى الدبّية. كانت تخرج الكيس عند بداية الصيف من كل سنة، وتدخله في أوائل الخريف، ولم ترض أبدًا بإحراق ما فيه.
دعوات جدتي رافقتني منذ صغري: (الأرض تطلعلك والسما تنزلك)، (إن مسكتي التراب يصبح ذهب).. أحمد الله على أن دعواتها لاقت في السماء أذنًا صاغية؛ فوفقت في عملي الذي لم يكبدني عذابًا ولا وقتًا طويلاً، وازدادت دعوات جدتي يوم جئتها بالكهرباء إلى بيتها الصغير".
حكاية الفستان
تحكيها فيروز "انتظرنا، جدتى وأنا، بلهفة وصول البوسطة إلى القرية مساء كل يوم سبت، لنستقبل أمي وأبي اللذين كانا يمكثان معنا حتى صباح الاثنين، وقد تعذر عليهما المجيء مرة، فأرسلت لي أمي ثوبًا، جد ما أفرحني، فأبقيته معلقًا فوق مسمار في أحد العمودين
هل عوضتها فساتين الأضواء فستان الأحلام الذي مزقته "فيفي" في الطفولة؟
بانتظار ذهابي إلى الكنيسة صبيحة الأحد، ليكون محط أنظار الجميع.
كان لنا كلبة صغيرة من سلالة فرنسية تدعى فيفي. بعد أن أنهينا عملنا مساء السبت ففرغنا من الغسل والكي، ومد الأغطية البيضاء فوق المقاعد والمساند، ومن حمام فيفي. اضطرت جدتي إلى التغيب عن البيت، وطلبت مني أن أرافقها. أقفلنا الباب وأبقينا فيفي في الداخل. كان خيال الثوب يلازمني ليلاً نهارًا. أعد الساعات والدقائق التي تفصلنا عن موعد ذهابنا إلى الكنيسة. لم تطل غيبتنا كثيرًا كي يقصر عمر الفستان! ما أن فتحت جدتي باب المنزل حتى وقفنا مشدوهتين أمام مشهد تفتت له قلبي، ويبدو أن فيفي ضاقت
بأسرها فجمعت الحصر كيفما حلا لها، وحفرت الأرض ثم أخذت تمزق ثوبي اليتيم حتى لم تبقِ منه سوى الكتفين.
كانت فيفي أسرع منا، لم تنتظر أن نعود من دهشتنا بل تسللت إلى الخارج دون أن نتنبه إليها. حاولت جدتي عبثًا اللحاق بها، فوقفت عند الباب تناديها بأصوات مختلفة كي لا تتعرف الكلبة على صوتها، لكن الحيلة لم تنطلِ على فيفي فطال غيابها يومين. أدركت جدتي مدى حزني على ذلك الفستان فغمرتني بمحبتها، وعوضتني عنه ما استطاعت. شد ما أبكاني ذلك الحادث الذي يضحكني اليوم.
بعد الحرية وعطر الصنوبر في الدبية، كنت أعود إلى الأسر داخل السور
الذي أحاط في بيروت بمنزلنا وبمنازل الجيران".
عاشت فيروز سنوات الصبا الذي يلي الطفولة مباشرة غريبة عن أحلام الصبايا، وعن فرسان تلك الأحلام. تجمدت أمنياتها عند عتبة منزلها. شغلها شاغل واحد انحصر في إيجاد طريقة تمكنها من انتزاع الفقر والفاقة من عائلتها ومعاونة والدها على حمل أعباء الأسرة الصغيرة. ما أن خرجت من الطفولة حتى تحولت دفعة واحدة إلى إنسان يعي الهم والغم كله. مثله في ذلك مثل الفاكهة التي تجعلها شدة الحر تنضج قبل أوانها. واقتنعت فيروز بأن ليس لها نصيب، ولو ضئيل، في الأحلام وفي الأماني،
فإذا ما حدث مستحيل ورافقت أحد أقربائها إلى السينما، أقنعت نفسها بأن مجيئها كان صدفة، والصدفة لا تكون بطبيعة الحال مقصودة ولا مدبرة. كرهت الأرقام يوم لم تكن تلك الأرقام تعني لها أكثر من أشكال جامدة، لا حراك فيها ولا حياة، ويوم عرفت مدى تأثير هذه الأرقام على سير حياة ذويها حرصت عليها حرص من يحتفظ بالقرش الأبيض للأيام السوداء.
تسألها نازك: هل كنت "شاطرة" في المدرسة أم كسولة؟ فتجيب "لم أكن كسولة. كنت شقية في الملعب وهادئة أوقات الدرس، غير أنى كرهت الحساب حتى النهاية. ما تعرضت لعمل وجاءت نتيجته أرقامًا ضخمة إلا وتملكني
شعور بالاختناق، فأشتغل على هذه الأرقام إلى أن يروقني شكلها الهندسي دون التقيد بالقاعدة الحسابية.
حرصت منذ صغري على أن أكون صادقة مع نفسي ومع الآخرين. وأنفت من الغش والاستجداء، فقد كان بإمكاني أن أنقل عن رفيقة جلست بجانبي في الصف حلول المسائل الحسابية، لكنني أبيت وفضلت أن أتصرف بالأرقام حسب طريقتي الغريبة العجيبة على أن أمد عيني إلى ما ليس لي. أدركت التلميذات كرهي الحساب، وأخذن يصفقن لى كلما نلت فيه –صدفة- علامة شبه معقولة، ونادرًا ما وفقت إلى علامة مقبولة. ما اتسع وقتي للصداقات، واقتصرت علاقتي بالآخرين
على رفيقات المدرسة وبنات الجيران. ألقاهن قليلاً ثم أعود إلى معاونة والدتي في شغل البيت.
أخشى من كنت أخشاهم مديرة المدرسة، التي ما أن أستدعى إلى مكتبها حتى ينتابني خوف شديد، وهو شعور قلما عرفته في صغري، إذ كان أبي كلما أراد امتحان شجاعتنا يضع لنا علامة فوق السور ويرسلنا إلى القمة للبحث عنها والعودة بها. لم أتردد مرة في الخروج ليلاً للبحث عما يضعه والدي فوق السور، وترددت دائمًا في الذهاب الى مكتب المديرة. كان الضرب دارجًا، ومسطرة المديرة والمعلمات طويلة، وما حلمت بشيء قدر ما حلمت بأن أصبح بدوري معلمة تخشاني التلميذات،
وبقى هذا الحلم ملازمًا لي بعد أن بدأت الغناء بسنوات.
المهم أنني استدعيت مرة، وكنت قد أطللت على الخامسة عشرة، إلى مكتب المديرة (وقد لازمني خوفي منها حتى بعد زواجي. من يصدق!) اعتقدت بادىء الأمر أن المسطرة ستكون ضيفة الشرف بسبب كسلي في الرياضيات، فإذا بضيف الشرف أحد الأخوين فليفل اعتاد المجيء إلى المدرسة لسماع بعض الأصوات، فإن وجد فيها ما يبشر بخير ألحق أصحابها بالمعهد الموسيقي الوطني. غنيت نشيدًا من أناشيد المدرسة، فراق الأستاذ فليفل صوتي وأعطاني عنوان المعهد، لكن والدي انهمك في تحرياته الخاصة
قبل السماح لي بالالتحاق بالمعهد. وبعد برهة وجيزة أشركني الأخوان فليفل في برامجهما في الإذاعة. لم يكن هناك تسجيلات بل كانت جميع البرامج بثًّا مباشرًا، فشكل الضحك المفاجئ أثناء الغناء مأزقًا حرجًا كثيرا ما كدت أقع فيه، والأشد خطرًا من الضحك ذاته أنني لم أستطع ضبط نفسي مرة إلا بعد أن تكون النوبة التي تنتابني قد انتهت تمامًا.
لم أكن قد انقطعت عن المدرسة بعد. أذهب إليها في النهار وأسرع إلى الإذاعة عند المساء، وسهل علَي تقسيم وقتي على هذا النحو كوني سهلة الحفظ. عملي مع الأخوين فليفل فتح أمامي نافذة واسعة على عالم جديد
حليم الرومي مطربًا يسجل أغنية في أحد ستوديوهات يافا، قبل سنوات من اكتشافه نهاد حداد وتدريبها وتحويلها إلى فيروز.
وجدت فيه مجالًا لتحقيق أمانيَ.
ألحقوني بكورس الإذاعة، وجدّوا في البحث عن اسم فني يكون أكثر ملاءمة من نهاد، وحين اقترح حليم الرومي الخيار بين فيروز وشهرزاد اتفق الجميع على اسم فيروز، وحسنًا فعلوا لأنني لا أتصور نفسي شهرزادًا. لم آلف اسمي الجديد بسهولة، وبقيت وقتًا طويلاً أتلفت حولي لأرى من تكون فيروز هذه، وبعد زواجي كنت أستغرق في الضحك إذا ما ناداني أحدهم قائلاً "مدام"، فيزجرني عاصي بصوت منخفض.
انتظرت على جمر حلول آخر يوم من أيام أول شهر عملت فيه في الإذاعة، كي أتقاضى مرتبي الذي بلغ مئة ليرة بالتمام والكمال. تحرقت على رؤية ورقة نقدية
من فئة المئة ليرة ولم يكن قد سبق لي رؤيتها، وإذ بي أمام مفاجأة غير سارة، فقد اقتطعوا ضريبة الدخل وأعطوني بدل المئة فقط خمسًا وتسعين ليرة. المهم في الأمر أنني ما إن "استوليت" على هذا المبلغ حتى هرعت إلى السوق من أقرب طريق وأخذت في الشراء. اشتريت كل ما كان يزين أحلامنا ويعصى على واقعنا. بلغت منزلنا محملة بأكياسٍ من كل صنف ولون. عزمت منذ ذلك الوقت على أن أعوض أخوتي الحرمان الذي جاء نصيبي منه كبيرًا. أحمد الله على كوني استطعت أن أوفر لهم ما لم يتوفر لي وأنا في مثل سنهم. يتملكني شعور دائم بأن ماضي الفقر والحرمان يتربص بي،
فأقيم لنفسي حواجز تجعلني أقاوم رغباتي وأنسقها، وأضع لها ترتيبًا خاصًا يأتي فيه الأهم قبل المهم.
حلم عذب راودني قبل شروعي في العمل بسنوات، كانت أبسط الأشياء وأرخصها بالنسبة إلينا أحلامًا، هو الحصول على جهاز راديو يغنيني عن إطالة وقوفي في المطبخ للإصغاء إلى راديو الجيران، فكان أول ما جاءنا به والدي بعد عملي مباشرة جهازًا مستعملاً لا أدري أين وقع عليه، وأصبحت أغفو وأستيقظ على صوت الموسيقى. حلم آخر حققته يوم رافقت أمي إلى السوق حيث استطعت اختيار ما أريد، ولكن تحت مراقبتها الشديدة. انتقيت قطعة من القماش الأبيض
طبع عليها باللون الأحمر السلم الموسيقي".
*هل احتفظت بذلك الثوب على سبيل الذكرى؟ تجيب فيروز "لم أحتفظ به لأن أمي، جريًا على عادة العائلات المتواضعة الدخل، حولته من بعدي إلى شقيقتَي، كل بدورها. كم أحببت مرافقتها إلى السوق رغم خجلي. توصيني قبل خروجنا من المنزل بألا أدع البائع يتنبه لرغبتي في شيء يعرضه علينا، كي لا يغالي في الثمن فيجعله مستحيلاً على جيوبنا. حاولت مرارًا أن أتبع نصيحتها ولكن عبثًا. كان البائع يعرف من دهشة عيني رغبتي في ما في يده، فيحاول إقناعها بالشراء وهي مصرة على إعطائه نصف ما طلب.
أيام الصيف نجري التمارين داخل الاستديو والنوافذ مفتوحة مما جعل بعض المطربين يسمعونني، ولم تكن الإذاعة اللبنانية فى حجمها الحالي، وإذ بي أستدعي إلى مكتب مدير الإذاعة، لا مديرة المدرسة هذه المرة، وكان أسعد الأسعد. طلب مني أن أغني بحضور حليم الرومي. أذكر أنني غنيت (يا زهرةً في خيالي) لفريد الأطرش، والشريط الملون ما يزال معقودًا في شعري. كنت أقرب إلى تلميذة مني "إلى مطربة تريد إقناع سامعيها بحلاوة صوتها.
تدخل عاصي في الحديث "تفردت نُهاد في كونها لم تتدرج نحو الشهرة، بل بلغت إليها دفعة واحدة".
جاء كلام عاصي بين قوسين في حديث زوجته، ثم تركها تتابع "تعهدني عاصي، وكانت علاقتي به بادئ الأمر علاقة تلميذة بأستاذها. يساعدني في دروسي. يشرح لي منها ما يتعذر فهمه علَي. نتحلق أوقات الفراغ حول البركة في ساحة السراي الكبير، حيث انهمكت دائمًا في إعداد فروضي المدرسية تحت رعاية عاصي، فإذا ما سألني من وقتٍ لآخر: ألا تنوين الزواج؟
أجبته على الفور: كلا، أريد أن أصبح معلمة مدرسة.
أحببت الوحدة وارتحت لها رغم مرحي، وأخذت علاقتي بعاصي تتحول إلى ما هو أرق من صداقة أستاذ وتلميذة. أخذت أرى الأشياء من خلاله،
ويزداد إعجابي به يومًا بعد يوم، فإذا ما قال لي مثلًا: في الثامنة من مساء البارحة كنت في المطبخ. شهقت من الدهشة ونسيت أن ليس في بيتنا سوى غرفة واحدة يفصلها عن المطبخ أقل من خطوة، فإن لم أكن في المطبخ عند الثامنة، كنت فيه عند الثامنة ودقيقة واحدة أو أقل.
لم يزد عمري في الكورس على سنة واحدة، انتقلت بعدها إلى محطة الشرق الأدنى، وكانت أول أغنية لحنها لي الرحبانيان قصيدة (غروب) للشاعر قبلان مكرزل. جمعني إلى عاصي العمل المشترك والارتباطات الكثيرة، وقد رأيت فيه صلتي الوحيدة بالعالم خارج الإذاعة وخارج بيتنا. كنت غريبة عن كل
ما حولي، ينتهي عالمي عند حدود السور الذي يحيط بمنزلنا. بدأت أعمل وأكسب وبدأ اسمي ينتشر وأنا ما أزال غريبة عما حولي. والواقع أن اسمي سبقني، ولما وعيت أمور الحياة كنت قد أصبحت فيروز.
جابهت الجمهور دون أن أدرك تمامًا ما أنا مقبلة عليه. وكانت الإذاعة السورية –بعد الإذاعة اللبنانية- مدماكًا هامًا في انتشار أغاني الرحبانيين. شعرت دائمًا بأنني هناك في بيتي لوفرة عدد الأصدقاء.. وقفت للمرة الأولى أمام الجمهور الدمشقي، فغنيت قصيدة "بردى" للأخطل الصغير. احتضنني الجمهور السوري احتضان اللبنانيين لي. كانت دمشق رفيقة بي.
ذكريات عزيزة تحلو استعادتها بعد هذه السنوات الطوال. دُعيت إلى دمشق مرة أخرى للغناء برفقة فرقة سيمفونية مؤلفة من خمسين عازفًا، وأنا ما أزال في زي تلميذة. اختاروا لي قصيدة للشاعر عمر أبو ريشة، فتعذر علي حفظها لضيق الوقت. رجوت عاصي والقائمين على الحفلة أن يدعوني أستعين بنص القصيدة، لكنهم رفضوا وأصروا على الرفض رغم إلحاحي. تهيبت الموقف وخشيت أن تخونني ذاكرتي، فطويت الورقة وأطبقت يدي عليها جيدًا. حين "فتشوني" قبل خروجي إلى الجمهور لم يعثروا على شيء، وما أن أفلت من التفتيش واعتليت المسرح حتى أخرجت الورقة
واستعنت بها للغناء.
دعیت مرة للغناء في نادي الضباط أثناء مهرجان نظمته دوحة الأدب. أقيمت خيام شدت بالحبال لرقص السماح الذي كانت تؤديه الفتيات. ارتديت للمناسبة ثوبًا طويلاً كان الأول من نوعه في حياتي، فجلست بعيدًا أصغي إلى الخطباء وإلى الموسيقى، وعندما استدعيت فجأة للغناء أسرعت أنهض من مكاني ولم أتنبه إلى الحبال، فتعثرت قدمي بها وتمزق ذيل الثوب. لملمته كيفما اتفق وشرعت في الغناء، لكن الجمهور لم يعر فستاني الممزق الذيل أي اهتمام، فاستقبلني بالترحاب وشجعني بالاستحسان.
أما في بعلبك فغنيت للمرة الأولى (لبنان يا أخضر حلو) سنة ١٩٧٥.
اعتراني بادىء الأمر شعور بالخوف جعلني أرتجف كالورقة، فاعتقد الجالسون في المقاعد الأمامية أن الهواء يهزني لفرط هزالي".
ويوم زواجك من عاصي؟
يضحك عاصي هذه المرة ثم يقول "تحول عرسنا إلى مهرجان لمحبة الناس لنا. غصت الكنيسة بالمدعوين وبغير المدعوين، وعمت الفوضى. تضايق المطران الذي قام بمراسم الزواج فصار يصلي حينًا و"يسب" حينًا آخر.
تتابع فيروز "مرحي تغلب دائمًا على الخوف. ما عرفت الخوف إلا يوم تعرفت إلى الهموم، وقد حملها لي مجتمعة ثقيلة مرض ابني هلي وكرت بعد ذلك حجارة السبحة".
تزوجت فيروز من عاصي الذي علمها كل شيء وفي المقابل صارت صوته وخلدت موسيقاه، وقال عنها "بعمري قلت لفيروز بحبك لكنها تعرف".
قيل لأم من تؤثرين من أولادك على سواه؟ أجابت: صغيرهم حتى يكبر. بعيدهم حتى يعود. وعليلهم حتى يُشفَى. هَلي، ثاني أولاد فيروز الأربعة. هو حزن عمرها وهم يومها وغدها.. إحدى أعز أمنياتها لديها أن تتمكن من تأمين مصيره، وبعد ذلك "اللي بدو يصير يصير". عز عليها دائمًا أن تحمل من أسفارها لأخوته هدايا كثيرة وتحتار فيما تخصه به، وعند عودتها ينظر إليها عاتبًا.
كان زياد أولى ثمار اقتران الصوت بالموسيقى. تقول أم زياد ساخرة من السذاجة التي كانت عليها يوم رزقت بكر أولادها "رأيت زياد بشعًا كثير البشاعة بادىء الأمر،
لكن الطبيب الفرنسي الذي أشرف على الولادة أكد لي أن شكله يوحي بمستقبل فنان لامع وافر الموهبة".
الضحك والبكاء متقاربان متلازمان. بكت فرحًا وتأثرًا لحظة استقبلها الجمهور بالتصفيق الحاد الطويل في أولى ليالي "المحطة".. أبكاها يقينها من أن هؤلاء جميعًا قلقوا على عاصي قلقها عليه، وجاؤوا ليفرحوا بعودتها إليهم.. تروي تلك الليلة بتأثر يكاد يبلغ حد الدموع "لم أشعر بأنني أمام جمهور جاء فقط ليسمعني أغني، بل أحسست بأني ألقى أهلي وأحبائي بعد طول عذاب وعناء، فغلب علَي البكاء. وكان الحمل قد ثقل علَي كثيرًا لدى مرض عاصي، فتمنيت من ينزع كتفي
فارق كبير بين نظرتها الأولى لزياد، ونظرة الفرحة بالابن الذي عبر بها لاحقًا إلى جانب آخر من الموسيقى
عن جسدي علني أرتاح قبل أن أنوء بما أحمل. الخوف الذي قلتُإ مرارًا أنني لم أعرفه وأنا صغيرة، حمله إلَي مرض ابني هلي، وموت والدتي المبكر، ثم الحادث الذي تعرض له عاصي.
أما هلي فقد ولد طبيعيًّا في صيف العام ١٩٨٥. كانت بيروت آنذاك عابسة مخيفة. تركت الجبل ليلاً وقصدت إلى المستشفى حيث أمضيت الليل وحيدة. عدت إلى منزلي أحتضن طفلاً طبيعيًّا يضحك بشرًا وعافية، ولكن ما أن مضى على ولادته عشرون يومًا حتى أصيب بما دعاه الأطباء اليرقان الحبشي. أقفلت على نفسي وعلى ابني باب الغرفة ولم أبرحها طيلة ستة أشهر حتى عيل صبري من الترقب والانتظار
والسعي وراء الأطباء.
وقفت مرة أنتظر إقلاع الطائرة في مطار لوس أنجلوس في الولايات المتحدة، فشاهدت عن بعد سيدة مقعدة تدفع كرسيها بنفسها، صرخت دون وعي مني: هلي! وأسرعت أسأل السيدة العجوز عمن جهز لها كرسيها. وكنت قد حاولت العثور على ما يوحي لابني بأنه يستطيع التنقل أسوة بأخوته ولم أوفق. قصدت إلى حيث أرشدتني تلك السيدة، وأمضيت نصف النهار أصف لصاحب المحل الحجم واللون اللذين أريدهما للكرسي. لم ينظر إلَي هلي عاتبًا لدى عودتي هذه المرة، بل فرح بالهدية، وزاده فرحًا تجوله في البيت وعلى الشرفات دون مساعدة أحد".
ثانية مراحل آلامها الثلاث كانت وفاة والدتها في الثانية والأربعين من عمرها، بعد سنتين من مرض هلي. تروي الحزن الذي تلا حزنها على ابنها بتأثر يجعلها تنسى من حولها. تقول فيجيء صوتها رجع صدى وجع دفين لم يندمل بعد "جاءت لزيارتي في ذلك المساء ولم ترض بالمبيت عندي، بل أصرت على العودة إلى البيت. قبل أن تتركني، وليتني أدركت أن زيارتها تلك كانت وداعًا وأنني أشاهدها وأسمعها للمرة الاخيرة، قالت: أشعر بدنو أجلي وباقتراب الموت مني.
تضايقت من كلامها واعتصر له قلبي. ولما بلغت الطريق وقفت أمام النافذة أتبعها بنظري، وهي تمازحني
وتسير كأنها مترنحة من السُّكر أو من التعب، ثم تتلفت إلَي ضاحكة. لزمت مكاني قرب النافذة حتى غابت والدتي عني، ولم يبق في الطريق المؤدي إلى منزلي سوی ظل مرورها. وفي اليوم التالي، كنت أستعد لتسجيل قصيدة (يا جارة الوادي)، ١٩٦١، عندما جاءني من يقول إن أبي طلبني في التليفون ثم أقفل الخط عندما قيل له أني داخل الاستديو. ساورني شك ممض في أن تكون أمي قد تعرضت لحادث ما، وإلا لما حاول والدي الاتصال بي، ولم تكن تلك عادته. أسرعت أطلبه في الدكان المجاور لمنزل أهلي، ولم يكن في منزلهم تليفون بعد. أطلعني على مرض والدتي وسعى جهده لتخفيف وقع كلامه علَي.
وحضرت إلى منزلنا برفقة عاصي وألححت في نقل أمي إلى المستشفى. سامح الله الأطباء، فقد كانت مصابة بتضخم في القلب لم يكتشفونه إلا بعد سنوات من تعرضها له، وقد فات أوان المعالجة. اضطررت إلى العودة إلى منزلي، حيث كان علَي أن أستقبل ضيوفًا سبق ودعوناهم إلى العشاء. تحاملت على نفسي وتظاهرت بالمرح.
آويت إلى فراشي بعد انصراف الضيوف مطمئنة إلى وجود أبي بجانب والدتي في المستشفى، وفجأة سمعنا رنين الهاتف فقفزت من سريري وأنا أصرخ: ماتت أمی.. ماتت أمي. وبالفعل فقد كان شقيقي چوزيف يطلبنا ليبلغنا نبأ وفاتها. وقع الخبر علَي وقع المصيبة
التي لا عزاء بعدها، فقد كنت أعتقد أن حبي لأمي سيبعد عنها كل مكروه. شعرت بعد وفاتها بثورة عنيفة، وسألت الله مرارًا: لماذا خصصتني بضربتين قاصمتين وعندك كل هذا الخير الكثير؟".
تواسيها نازك: ربما يأخذ كثيرًا ممن أعطى كثيرًا..
"ولكن عافية والدي وحياة والدتي هما عندي أثمن العطايا.. كان علَي أن أعود بعد أيام قليلة من وفاتها إلى تسجيل قصيدة يا جارة الوادي، وأقول فيها "طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراكِ".. وانتهت ثورتي بالإذعان إلى مشيئته تعالى".
"بياع الخواتم" اختصتها فيروز دون سواها من المسرحيات بأن أطلقت
على صغرى ابنتيها اسم البطلة، وكانت قد دعت ابنتها الكبرى ليال، اسم لم يرد في مسرح الرحبانيين، ولا يمكن أن يرد إلا على لسان شاعر ومطربة. تتابع فيروز "اخترت لصغرى أولادي اسم ريما لأن لمسرحية "بياع الخواتم" عندي مكانة خاصة؛ فإذا ما ناديت خلالها نصري شمس الدين "يا خالي" عدت سنوات إلى الوراء، إلى صغري، إلى طفولتي، إلى خالي الذي أحببته كثيرًا. استهوتني شخصية ريما واسمها، ولو أنني حملت أسماء أخرى كثيرة كعطر الليل وزاد الخير مثلاً، وهما اسمان جميلان. كنت ريما البنت البسيطة الساذجة التي تقول لحبيبها: "تعا ولا تجي" وتتستر على خالها في كذب ليس كذبًا بل "حد الكذب"
فضلاً عن أن "بياع الخواتم" كان نقطة تحول في حياتي الفنية بعد أن مثلته فيلمًا، فقد نقلني من وضع الجمود إلى وضع أوفر عطاء وتحررًا.
وفي هذه المسرحية بالذات نطقت للمرة الأولى بغير الغناء. قلت قبل النهاية بقليل جملة واحدة جعلتني أكسر جليد الخجل الذي أيبسنى زمنًا طويلًا، فقد عانيت منذ صغري ارتباكًا وترددًا كانا يشلانني عن القيام بحركة مهما قصرت. يكفي أن يطلب مني رفع ذراعي في إشارة عابرة حتى يدب في أوصالي الذعر، وأرفض رفضًا باتًا. لم أكن أتصور أنه سيأتي اليوم الذي أستطيع فيه زرع المسرح بخطاي، فتحولت الحركة إلى موضوع نقاش حاد
لم تكرر فيروز تجربة السينما بعد فيلمها "بياع الخواتم" مع يوسف شاهين رغم أنها قالت عنه "يستطيع رؤية الموسيقى"، وقال هو إن موسيقى الرحابنة "معجزة".
ومستمر بين عاصي وبيني.
لما طُلب مني الوقوف أمام الكاميرا ذعرت كعادتي وكان جوابي الرفض. حاول عاصي إقناعي ووعدني بتصوير مشهد واحد يحمض ويعرض علَي، فإذا لم يقنعني بمتابعة العمل عدلوا عن الفكرة من أساسها. وافقت على هذا الشرط ووقفت أمام الكاميرا وأنا أرتعد من الخوف، خوف مرده في معظمه إلى قلقي على فني وخشيتي من أن أفقد بعض ما بلغته، فيوم يتخلى الفنان عن خوفه وترقبه يقفز قفزة كبيرة ولكن إلى أسفل. وعاد المشهد من التحميض فكان علَي أن أشاهده لأبدي رأيي فيه، فأقتنع بمتابعة العمل أو أقنعهم بالعدول عنه. وقد كنا منذ أيام الشرق الأدنى رباعيًا
تألف من عاصي ومنصور وصبري الشريف وأنا. عملنا معًا حتى اضطرت صبري الشريف أعماله الخاصة إلى الانصراف إليها كليًا. أمسكت قلبي بيدي وجلست أنتظر ظهوري على الشاشة. أغمضت عيني طويلاً قبل أن أرى نفسي أتحرك وأغني. لم أرض عما رأيت غير أني قنعت بمتابعة التصوير.
أتاح لي الفيلم مراقبة نفسي، واكتشاف مكمن الضعف في تحركي الذي بدا بطيئًا جدًا. بدوت أشبه بطفل يحاول الوقوف على قدميه وهو بعد متردد يرتجف. وكان أن انتهى تدريبي باندفاعي إلى الحركة. وهذه الحركة لا أقوم بها أثناء التمارين بل أضع الخطوط الرئيسية لتحركي في الحفلات. يوم قدمنا مسرحية
الشخص في دمشق فوجىء الجمهور السوري بي وقد أقلعت عن جمودي، فانقلبت صفحة وبدأت صفحة جديدة.. وأنا على أية حال لا أعتبر نفسي أمثل بالمعنى الكامل للكلمة، بل أقوم بأدوار قريبة من نفسي. كثيرًا ما أعود إلى أدواري في الاسكتشات القديمة وأذكر مدى خجلي وخشيتي من الحركة، فيتأكد لي أن حب الناس هو الذي يفجر في الفنان طاقات لم يكن هو ذاته يتوقعها. الدور كائن حي من الخطأ أن ندعه يتجمد. وبمعنى آخر لا يجوز تأديته ليلة بعد ليلة وكأنه دائرة حديدية تكبل الفنان في داخلها. تنشأ عادة وتنمو صداقة متينة بيني وبين مختلف الشخصيات
التي صورت غناءً وتمثيلاً. سرعان ما آلف طباعها وأمتزج وأكاد أقول ألتصق بها، فتصبح قطعة من حقيقتي.
وقد جاءت كلها إلى حدٍ ما مفصلة لي، بيني وبينها شبه وقرابة ومودة.
قاسيت طويلاً من الماكياج ومن الذين كانوا يتولونه، فإذا ما نظرت في اتجاه المرآة لا أتعرف إلى الواقفة أمامي، أهي أنا أم إنسانة غاضبة أم نائحة باكية؟ ومن هذه الكثيفة الحاجبين التي غرقت عيناها وسط طبقات من الدخان الأسود؟ وهذا ما جعلني أتولى عملية الماكياج بنفسي.
تطورت أدواري مع تطور شخصيتي، وكأن بطلات تلك المسرحيات صديقات سرن معي عبر درب طويل. وما من شك
في أن حب الجمهور واستقباله الدافىء لي قد ساعداني على فك قيد الارتباك، الذي كان إلى وقتٍ قريب يكبلني. ليت الجمهور الذي أبادله حبًا بحب، يدرك مدى المجهود الذي بذلته حتى استطعت أن أدق على الدربكة في "هالة والملك". وقد بلغت مودة الناس لي حدًا جعلهم يغضبون لمصرعي في (جبال الصوان) رغم الاستحسان الذي قابلوا به المسرحية، ورغم علمهم بأني أموت تمثيلاً لا حقيقة، فكلما رماني "فاتك المتسلط" بسهم كان هناك من يصرخ "تنكسر ايدك" . وأنا أشاركهم ضيقهم بالنهايات الحزينة إلا إذا فرضتها القصة".
قاطعها عاصي وقد حان وقته في المقاطعة " وأنا لا أحب
كأنها في هذا الحوار المليء بالذكريات كانت تتعرف إلى نفسها، مثلما تحاول هذه النظرة المتسائلة إلى المرآة.
النهايات السعيدة بل أفضلها حائرة غير ملتزمة لا بالسعادة ولا بالحزن. ريما في بياع الخواتم لم تقنع بالزواج فورًا من ابن راجح، بل أرادت للكذبة أن تبقى كذبة وأن تؤجل العرس إلى الموسم التالي. وفي "صح النوم" أفاق الإنسان الذي سلم الختم لنفسه لكنه لم ينته".
تسأله نازك: وهل يسهل العمل مع فيروز دائمًا؟ فيجيب "يسهل بقدر ما تكون مرتاحة نفسيًّا فتؤدي عند ذلك خير أداء. أما إذا كانت مشوشة الفكر وأعصابها متعبة، فيتعذر العمل معها. سريعة الحفظ تتفهم دورها بعمق وتعطيه من عندها. منضبطة إلا في المواعيد..
تقاطعه فيروز ضاحكة: أحاول أن أنتقم
لنفسي من مواعيد كثيرة ضربتها لي قبل زواجنا وتركتني أنتظر ساعات".
فتسأل نازك فيروز: وهل أتعبت الشهرة البنت "المعتّرة" في طفولتها والخجولة في صباها؟
"الشهرة قفص ذهبي يحجز حرية الفنان فيعيش أسيرًا ضمن قضبانه. ماذا أقول على الشهرة؟ مرها يتغلب على عسلها، غير أن هناك لحظات- أجد نفسي عاجزة عن وصفها- لا يعيشها سوى الفنان حين يعتلي المسرح، ويرى الموسيقيين يعزفون والعيون كلها شاخصة إليه. ينتقل إلى عالم من النشوة والغبطة لا يدانيه سموًا عالم دنيوي آخر. غنيت في الأرز فلفني الضباب وغطى الجمهور فتحول الليل
إلى زمن من أزمنة الجنة. لحظات ما زالت عالمًا غريبًا ولو قيل فيها الكثير. لحظات تنسيني الوحدة التي أفرضها على نفسى، وأنا على كل حال لا أدع نظري يتجمد عند الجمهور؛ لئلا يأخذني عما أنا فيه فتخونني ذاكرتي. أثبت نظري عند نقطة معينة وأبقى مع الجمهور بكل جوارحي دون أن أنقل عيني بين الأفراد. عندما أترك الناس بعد الحفلات يعتريني حزن كالذي ينتابنا ساعة نودع محبًا. وأحزن أيضًا لفراق فستان أرتديه ليالي معدودة ثم أهجره، لهذا الفستان عندي منزلة غير تلك التي لثيابي العادية".
يتدخل عاصي "الفن عالم لا ينتهي، يمتد امتداد عدد النجوم التي
لم يستطع أحد حصرها ضمن أرقام".
تعود فيروز للكلام عن السفر "تسألينني عن رحلاتي؟ من يصدق أني لم أشاهد من البلدان التي زرتها شيئًا. أنزل من الطائرة لأتجه مباشرة إلى غرفتي في الفندق، حيث أحبس نفسي خوفًا من مرضٍ فيتوقف عمل الفرقة بكاملها. أفراد الفرقة يتنزهون -وهذا حقهم- يتعرفون إلى معالم البلاد، وأنا منصرفة إلى مداراة نفسي حتى موعد ظهوري أمام الجمهور، علمًا بأني ممن يحبون الحملقة في الفاترينات والتنقل بينها، لكنني محرومة من هذه اللذة حتى في بيروت.. ولكن من الذكريات ما يخفف طعم قسوة الأسر والوحدة في غرفة من غرف فندق ما. يوم ذهبنا إلى
عمان ١٩٦٣، حضر الحفلة الأولى ما يزيد عن عشرة آلاف شخص، وما أن أطللتُ وقلتُ "أوف" حتى صرخ عشرة آلاف فم دفعة واحدة "أوف" نسيت عندها الوحدة والغرفة المقفلة وسجني ضمن جدران أربعة.
اعتدت أن أقدم لنفسي هدية بعد كل عمل، ومن الطبيعي أن تتناسب الهدية مع نوعية العمل. كنت بعد زواجنا بوقت قصير أحاول سد الثغرات المفتوحة في البيت فأشتري ما يتيسر، وما يتعسر أبقيه إلى أن ييسرها الله. يريحني جو البيت عندما لا يكون جامدًا محنطًا أشبه بالمتاحف. تضايقني الرتابة وتمسك بأنفاسي، فنظري يستهويه التغيير. تبرز الوسادة الحمراء
اليوم وتختفي غدًا أو بعد غد، لتحل محلها الوسادات الزهرية والخضراء والصفراء. أعلق هذا الإطار هنا ثم أنقله إلى مكان آخر لا يكون الأخير. كنت في البدء أفضل البيت على نفسي مرغمة لا بطلة ثم صرت أخص نفسى ببعض الهدايا. أخذت عن والدتي ميلي إلى الحلي كالخواتم والأساور والعقود والحلق، وقد يروقني من آنٍ لآخر شراء حقائب يد أنيقة، غير أن عمليات الشراء لا تتجاوز عندي موازنة أضعها بدقة وأتقيد بها؛ إذ ليس من السهل نسيان فقرٍ كالذي عشته في طفولتي.. يعز علَي أن أرى الثياب تطوى وتوضع في الصناديق، وكأن بعضًا من عمري قد انطوى. وأتساءل هل سيتسنى لي
أن أعايش هذه الشخصيات من جديد. كم أحن إليها الآن وشد ما يمضني الشوق إلى لقياها، وقد آلمني دائمًا أن لا تتاح لي فرصة العودة إليها. يعز علَي فراق تلك الشخصيات، كما يعز علَي رحيل الجمهور بعد انتهاء كل حفلة، فأرى المكان الذي كان قبل قليل ينبض حياةً وترقبًا، مقفرًا عابسًا، وأسمع وقع خطاي ترددها الجدران الصامتة. ليت الفنان ينتهي في إحدى لياليه، فتكون تلك أجمل النهايات".
تتلفت فيروز بين الفينة والأخرى ناحية عاصي، الذي يصغي إلى حين ثم يقاطعها "الجمهور كرفوف السنونو يغط ثم يطير".