لطيفة الزيات: قائدة انتفاضة ١٩٤٦

واجهت البيت والمحتل معاً

لطيفة الزيات: قائدة انتفاضة ١٩٤٦

  • أسبوعي
  • ملفات
  • كتابة

من أين استمدت لطيفة الزيات قوتها لتواجه المحتل والمجتمع معًا، وواصلت لتصوغ وعي جيلها، وتشق طريقها ما بين الجامعة والمعتقل؟ وكيف أسهمت تجربتها في إعادة تعريف موقع المرأة في المجال العام؟

لطيفة الزيات علامة من علامات الجيل الذي ولد بعد ثورة ١٩١٩ وأسهم في تشكيل الحياة المصرية والوعي الثقافي في المجتمع منذ النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي.
تعرفت على لطيفة الزيات للمرة الأولى، مثل كثيرين من أبناء جيلي، من خلال "الباب المفتوح"، فيلمًا في مرحلة الصبا، ثم رواية بعد ذلك، وفي السبعينيات الأولى عرفتها من كتاباتها في مجلة "الطليعة" عندما كانت تشرف على الملف الثقافي بالمجلة، لكن لقائي الفعلي بها للمرة الأولى كان من خلال "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية"، التي تأسست في أعقاب توقيع اتفاقيات

كامب ديڤيد ثم معاهدة السلام عام ١٩٧٩، وانتشار دعوات التطبيع الثقافي، وقد أسهمت لطيفة الزيات في إنشائها وتولت رئاستها لأكثر من ١٧ عامًا، ووضعت هذه اللجنة على كاهلها عبء "مقاومة التطبيع في المجال الثقافي والأكاديمي، والدفاع عن الثقافة المصرية ضد المؤثرات الأجنبية الضارة، لحماية المنطلقات الفكرية التحررية للشخصية الوطنية".
نجحت لجنة الدفاع عن الثقافة القومية برئاسة لطيفة الزيات في التأثير على حركة المثقفين المصريين في مواجهة التطبيع مع إسرائيل، أصبح رفض التطبيع الثقافي والأكاديمي

ارتبط اسم لطيفة الزيات باللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وبتظاهرة يوم الجلاء ٢١ فبراير ١٩٤٦

الموقف الأساسي في الوسط الثقافي والأكاديمي، وما عداه الشذوذ، فاتخذت جميع النقابات الفنية ومعظم النقابات المهنية قرارات برفض التطبيع الثقافي، كما كان هذا موقف معظم نوادي أعضاء هيئات التدريس في الجامعات المصرية. لم يقتصر دور لجنة الدفاع عن الثقافة القومية على التوعية بمخاطر التطبيع الثقافي من خلال ندواتها وبياناتها وإصداراتها، بل خاضت كذلك معارك جماهيرية في الشارع في مواجهة استضافة إسرائيل في معرض الكتاب ثلاث مرات، وقُبض على بعض أعضائها في هذه المعارك.

أدى نشاط اللجنة بقيادة لطيفة الزيات إلى اعتقالها قبيل حملة سبتمبر ١٩٨١ في قضية ملفقة من أجهزة الأمن، وكان آخر لقاء معها قبل اعتقالها بفترة وجيزة في شرفة منزلها بالمهندسين مع بعض أعضاء اللجنة لصياغة بيان باسم اللجنة عن الفتنة الطائفية التي اشتعلت في بعض أحياء القاهرة في صيف ١٩٨١ الساخن؛ ذلك البيان الذي تهكم عليه السادات في خطابه الشهير يوم٥ سبتمبر واعتبر أنه "كلام مكلكع"!
لم تتوقف لطيفة الزيات عن نشاطها في مقاومة التطبيع وغيره من مظاهر مقاومة الفساد بعد الإفراج عنها، بل استمرت في مسيرتها النضالية

حتى أيامها الأخيرة؛ تلك المسيرة التي بدأتها في منتصف أربعينيات القرن الماضي عندما كانت بعد طالبة في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن).
لطيفة قائدة طلابية
ارتبط اسم لطيفة الزيات باللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وبتظاهرة يوم الجلاء ٢١ فبراير ١٩٤٦، ولهذا اليوم أهمية بين أحداث النضال الوطني في تاريخنا الحديث عامة، وفي تاريخ الحركة الطلابية على وجه الخصوص، ذلك اليوم الذي أصبح يومًا عالميًّا للتضامن مع كفاح طلاب مصر وطلاب المستعمرات إحياء لذكري شهداء

شهدت مصر عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في صيف ١٩٤٥ تصاعدًا في الحراك السياسي المطالب بالجلاء التام للإنجليز عن مصر والسودان

التظاهرات الشعبية ضد الاحتلال البريطاني التي قادها طلاب في كل من مصر والهند.
لهذا اليوم بالطبع أحداث سبقته، وجذور بعيدة مهدت له، فمنذ مطلع القرن العشرين ولدت الحركة الطلابية المصرية واتخذت مسارين متجاورين ومتشابكين عادة، مسار الحركة المطلبية التي يسعى خلالها الطلاب لتعديل لوائح الدراسة ونظم التعليم، وأخرى سياسية ذات أبعاد وطنية وديموقراطية تطالب بالجلاء والدستور، ومع اندلاع ثورة ١٩١٩لعب الطلاب دورًا متعاظمًا في النضال الوطني وفي الدفاع عن الحريات العامة والحفاظ على الدستور.

ومثلما تفجرت ثورة ١٩١٩ مع نهاية الحرب العالمية الأولى، فقد شهدت مصر عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في صيف ١٩٤٥ تصاعدًا في الحراك السياسي المطالب بالجلاء التام للإنجليز عن مصر والسودان، وكانت فترة الحرب العالمية الثانية شهدت تحولات في الخريطة السياسية للأحزاب المصرية، فقد شهد حزب الوفد، حزب الأغلبية الذي كان يحظى بتأييد شعبي حقيقي انقسامات جديدة مؤثرة بانشقاق مكرم عبيد باشا وتأسيسه حزب الكتلة الوفدية، كما شهد الحزب استقطابًا داخليًّا بين الجناح المحافظ الذي يعبر عن مصالح كبار الملاك، والجناح الداعي إلى إصلاحات

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

منذ طفولتها تسعى إلى هذه اللحظة: أن ترفع صوتها طلبًا للحرية من البيت ومن المحتل-في الصورة تلقي لطيفة الزيات خطبة بين حشود الطلبة والعمال في انتفاضة ١٩٤٦ -أرشيف مدينة الرقمي.

اجتماعية واقتصادية، الذي عُرف بالطليعة الوفدية، وضم كثيرًا من الطلبة الوفديين، وقاده مفكرون ومثقفون من ذوي الميول اليسارية مثل الدكتور محمد مندور، وفي الوقت نفسه تصاعد نفوذ الأحزاب والحركات الجديدة التي تستند إلى مرجعيات دينية أو فكرية مثل جماعة الإخوان المسلمين، ومصر الفتاة، والتنظيمات الشيوعية المتعددة، وأصبح لهذه القوى الجديدة مع الطليعة الوفدية النفوذ الأكبر في وسط الحركة السياسية للطلاب.
وسط هذه الأجواء بدأت الحكومة المصرية التي كان يرأسها محمود فهمي النقراشي باشا اتخاذ خطوات

نحو العودة بالبلاد للأوضاع الطبيعية، فأُلغيت الرقابة على الصحف وأُبيحت الاجتماعات العامة، ومُنع الاعتقال في يونيو ١٩٤٥، وفي أكتوبر ألغيت الأحكام العرفية تمامًا. ومع بداية عام دراسي جديد نشطت الحركة الطلابية مجددًا مناديةً بتحقيق الجلاء الكامل للقوات البريطانية عن مصر، وظهر البعد الاجتماعي في الموجة الجديدة من موجات الحركة الطلابية، فظهرت مطالب العدالة الاجتماعية جنبًا إلى جنب مع مطالب الاستقلال الوطني والديموقراطية. وفي تلك الفترة تعالت دعوات التضامن مع الحركة الوطنية في فلسطين ومع حركة المطالبة بالاستقلال

في إندونيسيا، وتشكَّلت اللجان الطلابية المختلفة التي تولت قيادة الحراك الطلابي ومنها اللجنة الوطنية للطلبة. في الوقت نفسه طالبت الحكومة في ديسمبر ١٩٤٥ بريطانيا بالدخول في مفاوضات لتعديل اتفاقية ١٩٣٦، وجاء الرد البريطاني سلبيًّا في ٢٦ يناير ١٩٤٦، ليؤكد على صلاحية معاهدة ١٩٤٦ للاستمرار، مع مماطلة واضحة في إمكانية تعديل بعض شروطها، وكان هذا الرد السلبي كفيلاً بتفجير الغضب الشعبي ضد الوجود البريطاني في مصر والسودان، وانطلقت الشرارة من الجامعة؛ فتصاعدت الأحداث بسرعة ووصلت ذروتها في فبراير ١٩٤٦،

انطلقت الشرارة من الجامعة؛ فتصاعدت الأحداث بسرعة ووصلت ذروتها في فبراير ١٩٤٦، انتفاضة طلابية يقودها طلاب الوفد وطلاب منتمون إلى الحركة الشيوعية

انتفاضة طلابية يقودها طلاب الوفد وطلاب منتمون إلى الحركة الشيوعية، فخلال الأسبوعين التاليين للرد البريطاني السلبي تصاعدت حركة الاحتجاج وسط طلاب الجامعة، ووصلت الأمور إلى مداها يوم السبت ٩ فبراير ١٩٤٦ عندما خرج الطلاب في تظاهرات حاشدة من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) قاصدين قصر عابدين؛ مقر الملك، وهم يهتفون مطالبين بالجلاء، وعند كوبري عباس (الجيزة حاليًا) تصدت قوات الأمن للتظاهرة لمنعها من العبور إلى القاهرة، وفتحت الكوبري لمنع التظاهرة من العبور إلى القاهرة، وتواصلت التظاهرات في اليوم التالي

في القاهرة وفي عدد من المدن المصرية، وسقط فيها شهداء وجرحى من الطلاب فاضطر رئيس الوزراء إلى الاستقالة.
كانت لطيفة الزيات الطالبة بكلية الآداب قد انتمت إلى الحركة الطلابية وإلى تنظيمات اليسار المصري، وبرز اسمها كقيادة من قيادة انتفاضة ١٩٤٦، فبعد أيام من تظاهرات ٩ و١٠ فبراير، اتجه الطلاب الشيوعيون والوفديون إلى بناء تحالف بين الحركة العمالية والحركة الطلابية، وتشكلت بينهما اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، لتحل محل اللجنة الوطنية للطلبة في قيادة الحركة، وكان من أبرز قادتها صفوف اليسار الماركسي والطليعة الوفدية

بعنف شديد واجهت القوات البريطانية الطلاب المصريين المنتفضين من أجل الاستقلال. الصورة من IWM

بعنف شديد واجهت القوات البريطانية الطلاب المصريين المنتفضين من أجل الاستقلال. الصورة من IWM

لطيفة الزيات وثريا أدهم وعصام الدين جلال وفؤاد محيي الدين ومصطفى موسى وعبد المحسن حمودة.
دعت اللجنة إلى تظاهرة كبرى في ٢١ فبراير ١٩٤٦ وأطلقت على اليوم يوم الجلاء، وكان ذلك اليوم الحدث الأكبر الذي ارتبط بانتفاضة فبراير ٤٦، وقد شارك في هذه التظاهرة المطالبة بالجلاء عشرات الألوف، وعندما وصلت إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليًا) أطلقت عليها القوات البريطانية الرصاص الحي من ثكنات قصر النيل، وسقط عشرات الشهداء، وقد دعت اللجنة إلى تظاهرات يوم ٤ مارس احتجاجًا على جريمة الاحتلال،

وأطلقوا على الحدث يوم الشهداء.
أثمرت انتفاضة ١٩٤٦ بعد شهور قليلة انسحاب القوات البريطانية من المدن المصرية وتركزها في منطقة القناة، وفي الوقت نفسه كان من نتائجها سلسلة من حملات الاعتقال ضد أعضاء التنظيمات الشيوعية ويسار الوفد الذي عُرف بالطليعة الوفدية وبعض الكتاب والمثقفين التقدميين، وفي واحدة من هذه الحملات اعتُقلت لطيفة الزيات وصدر الحكم بحبسها مع إيقاف التنفيذ.

أول الوعي
لكن كيف تفتح وعي لطيفة الزيات السياسي؟ ومتى؟
هنا أترك المجال للدكتورة لطيفة نفسها لتصف كيف تكون لديها الحس الوطني وهي بعد صبية في الحادية عشر من عمرها، في سنة ١٩٣٤ من خلال كتابها "حملة تفتيش ـ أوراق شخصية"، الصادر سنة ١٩٩٢، تقول لطيفة الزيات: "كان ذلك في يوم من أيام ١٩٣٤ ورئيس الوزراء يرفض السماح لمصطفى النحاس، زعيم حزب الوفد والأغلبية بالقيام بزيارة للأقاليم تتضمن زيارة المنصورة، يوقف حركة القطارات، ويأتي موكب النحاس في السيارات،

وأنا أدخل باب الالتزام الوطني من أقسى وأعنف أبوابه، يضنيني الرجوع ولو قليلاً عنه، ويحملني هذا الرجوع الشعور بالإثم

تحيل بلدية المنصورة شارعنا وبقية الشوارع الرئيسية إلى مجموعة متتالية من الخنادق لتحول دون موكب النحاس والتقدم. والشوارع تعج بألوف المتظاهرين، وشارعنا يتقدم منه البعض بعد البعض يحمل سيارة النحاس باشا على أكتافه، يتجاوز بها خندقًا بعد خندق في شارعنا، والموكب يتقدم رغم كل شيء، وصيحات انتصار عارمة، انتصار إرادة الجماهير، وبنادق سوداء كابية تصنع حدًا نهائيًّا للموكب والتظاهرة... ومع الدم كما النافورة فار أحمر قانيًا فوق رؤس الكتلة البشرية المتخبطة وانحسر مع الهدير المنتصر

للجماهير وقد اغتيل، وموجة من البشر تنحسر بعد موجة، مع أزرار نحاسية تضوي في أشعة الشمس مع بنادق طويلة سوداء كابية، مع قذائف الطوب تنهال على رجال البوليس مع الأجساد تتعرى للرصاص، والملابس تتحول إلى مشاعل توقد شعلة العشق، الموت، مع أربعة عشر قتيلاً بعد قتيل وعدتهم الصبية قتيلاً بعد قتيل وعربة الإسعاف في كل مرة تنطلق مع شارع العباسي في مدينة المنصورة في يوم من أيام ١٩٣٤ وقد تفجرت أحشاؤه وانطرح، وحفنة من رجال البوليس، ودم لم يعد يفور كما النافورة أحمر قانيًا،

كانت لطيفة دائمًا في صدارة المواقف، والعيون معلقة بها في كل مكان.<br>مجلة "الجيل" مجلد سنة 1957 - أرشيف مدينة الرقمي

كانت لطيفة دائمًا في صدارة المواقف، والعيون معلقة بها في كل مكان.
مجلة "الجيل" مجلد سنة 1957 - أرشيف مدينة الرقمي

ينزلق قطرة قطرة مختلطًا بطين الشارع، ينحبس أسود مفحمًا. تحولت الطفلة إلى الصبية تتعرف الشر مجسدًا على مستوى الدولة".
ملابسات اليوم الذي تحكي عنه وسياقه التاريخي بدأت في صيف ١٩٣٠، عندما قدم مصطفى النحاس استقالة حكومته في ١٧ يونيو ١٩٣٠، وأكد فيها أن سببها عدم تمكنه من تنفيذ برنامجه، واتجه النحاس باشا إلى مجلس النواب وأعلن أن الوزارة قدمت استقالتها وحدد أسباب الاستقالة، وغادر البرلمان، إلا أن المجلس قرر بعد مناقشة قصيرة تجديد الثقة بالحكومة، لكن الملك فؤاد

قبل استقالة الوزارة يوم ١٩ يونيو، وفي اليوم التالي كلف إسماعيل باشا صدقي بتشكيل الوزارة لينفذ نية الملك المبيتة بالتعدي على دستور الأمة ويغتال حقوقها التي اكتسبتها عبر نضال طويل، وفي غضون أربعة أشهر من تشكيل حكومة صدقي، كان الرجل قد نفذ ما دبر له الملك ورجاله، فألغى دستور ١٩٢٣ وأصدر بدلًا منه في ٢٢ أكتوبر ١٩٣٠ دستورًا جديدًا مشوهًا معيبًا، وطال الانقلاب الدستوري وامتد لخمس سنوات وعدة أسابيع، كانت سنوات صعبة عرفت مصر خلالها طريق الاستبداد كما عرفت طريقها إلى الحرية.

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

لم يكن السجن نفسه عائقًا أمام أحلام لطيفة التي لا سقف لها. - مجلة "الجيل" مجلدسنة ١٩٦٤ - أرشيف مدينة الرقمي

قاد الوفد بزعامة النحاس باشا حركة المقاومة، وكانت المشاهد التي روتها لطيفة الزيات جزءًا من هذه المقاومة التي تواصلت حتى خريف ١٩٣٥، عندما اشتعلت "ثورة الشباب" في نوفمبر ١٩٣٥ ونجحت بعد عدة أسابيع، وتحديدًا في يوم ١٢ ديسمبر في إرغام الملك على إعادة دستور ١٩٢٣، وكان من بين قادة الحركة في ١٩٣٥ المعيدة بكلية الآداب سهير القلماوي.
نعود إلى حملة لطيفة الزيات للتفتيش في ذاكرتها وأوراقها، وهي تصف مشاعرها في ذلك اليوم؛ تقول: "لا أجد في حضن أمي الملاذ من شرور الدنيا

وأنا في الحادية عشر من عمري، أطل من شرفة بيتنا في شارع العباسي بالمنصورة، لا أحد يجيرني، لا أحد يملك أن يجيرني، لا أبي يحاول انتزاعي من الشرفة حتى لا أرى ولا أسمع، ولا أمي تبكي بلا صوت، وأنا أنتفض بالشعور بالعجز بالأسى بالقهر، ورصاص البوليس يردي أربعة عشر قتيلاً من بين المتظاهرين ذلك اليوم، وأنا أصرخ بعجزي عن الفعل، بعجزي عن النزول إلى الشارع لإيقاف الرصاص ينطلق من البنادق السوداء، أسقط الطفلة عني، والصبية تبلغ قبل أوان البلوغ مثخنة بمعرفة تتعدى حدود البيت لتشمل

الوطن في كليته، ومصيري المستقبلي يتحدد في التو واللحظة وأنا أدخل باب الالتزام الوطني من أقسى وأعنف أبوابه، يضنيني الرجوع ولو قليلاً عنه، ويحملني هذا الرجوع الشعور بالإثم، ويعذبني اختناق صوتي حين نختنق، ويحدوني رجاء لا يبين أن أظل قادرة على قولة: لا لكل مظالم الدنيا".
وقد ظلت لطيفة الزيات بالفعل تقاوم كل مظالم الدنيا وتقول لا حتى رحيلها عنا.
تعرضت لطيفة الزيات للاعتقال في شبابها في الأربعينيات، وتعرضت للاعتقال في شيخوختها في مطلع الثمانينيات، لكنها لم تتوقف عن العطاء

وقد ظلت لطيفة الزيات بالفعل تقاوم كل مظالم الدنيا وتقول: "لا" حتى رحيلها عنا

للوطن في المجال الأكاديمي حيث عملت في تدريس الأدب الإنجليزي في جامعة عين شمس، أو في المجال العام من خلال كتاباتها في الصحف والمجلات، أو من خلال إبداعها الأدبي، أو من خلال مشاركتها في النشاط السياسي، وخلفت وراءها إسهامًا بارزًا في بناء الثقافة المصرية، وتراثًا من العطاء للوطن، من خلال أعمالها النقدية والإبداعية، ومن خلال دورها البارز في النضال الوطني والديموقراطي منذ الأربعينيات وحتى رحيلها. لقد وهبت لطيفة حياتها لهذا الوطن، للدفاع عن حريته واستقلاله، للدفاع عن ثقافته وكل ما فيها من قيم إيجابية.

لطيفة الزيات.. رحلة من قيادة التظاهرات إلى قاعات الجامعة. أرشيف مدينة الرقمي.

لطيفة الزيات.. رحلة من قيادة التظاهرات إلى قاعات الجامعة. أرشيف مدينة الرقمي.

التقيت الدكتورة لطيفة الزيات في الشهور الأخيرة من حياتها، بعد أن علمت بمرضها، ونحن نعمل على إنجاز "موسوعة الكاتبة العربية ذاكرة للمستقبل" التي كانت ترأس تحريرها، يومها رأيت فيها نموذجًا للقوة الإنسانية في مواجهة الموت، شغلها الشاغل كيف تنظم وقتها فيما بقى لها من أسابيع تعيشها لكي تضع أولويات إتمام أعمال بدأتها. ورأيت فيها كما كتبت وأنا أنعاها تجسيدًا حيًّا لثقافة الإنسان المصري الذي يتحدى الموت، رأيت فيها عبارة عالم المصريات چيمس هنري بريستد التي يصف فيها إبداع المصري القديم لمتون الأهرام بأنه:

"الاحتجاج الملح بل الاحتجاج الحماسي ضد الموت... والثورة ضد الظلمة والسكون العظيمين".. كانت لطيفة الزيات هرمًا من أهرام الثقافة المصرية لذلك ستظل ذكراها باقية ما بقيت الأهرام.

اقرأ أيضاً

رسالة من المغنية إلى زعيمة النسوية

رسالة من المغنية إلى زعيمة النسوية

غرام بلا انتقام والأم تقود المعركة

غرام بلا انتقام والأم تقود المعركة

المذكرات الكاملة للمطربة فاطمة سري

المذكرات الكاملة للمطربة فاطمة سري

جمال عبد الناصر سوبر ستار

جمال عبد الناصر سوبر ستار

من القاهرة إلى غزة بدون طابع بوستة

من القاهرة إلى غزة بدون طابع بوستة

محمود عزمي: رجل العالم في مصر

محمود عزمي: رجل العالم في مصر