كان فوز الروائي عبد الرزاق قرنة/جرنة/قرنح.. إلخ بنوبل للآداب مفاجأة فجرتها الجائزة، وفتحت بابًا دوارًا من الأسئلة الموسمية!
ذات يوم، قبل زمان بعيد من بدء المشكلات، هرب دون أن يخبر أحدًا بشيء، ولم يعد. وذات يوم آخر، وبعد 43 عامًا، انهار أمام باب منزله في بلدة إنجليزية صغيرة. في آخر ذاك النهار، كان عائدًا إلى المنزل من العمل. أهمل كل شيء لفترة طويلة، ولا يوجد هناك من يوجه إليه اللوم إلا نفسه. شعر بأن الانهيار يقترب، لا بخوف من الهلاك طالما تغافل عنه، بل بسبب الشعور بأن شيئًا ما ثقيلاً وراسخًا يثقله. لم تكن ضربة من العدم، بل كأن وحشًا قد أدار رأسه ببطء نحوه، وتعرف إليه، ثم مد يديه ليخنقه. كانت أفكاره واضحة للغاية بعد أن استنزف الضعف جسده،
غلاف رواية الهدية الأخيرة
اعتقد بوضوح وطريقة عبثية، أن هذا يجب أن يكون شعورًا بالجوع، أو بالتجمد حتى الموت، أو كأن صخرة تسحق أنفاسك. جعلته المقارنة يتوتر رغم قلقه: أترى ما يمكن أن يسببه التعب؟ عندما غادر عمله كان يشعر بالإرهاق، هذا النوع من الإرهاق الذي يحل به أحيانًا لسبب غير مفهوم في نهاية اليوم، في السنوات الأخيرة أكثر من ذي قبل، مما جعله يتمنى أن يتمكن من الجلوس وعدم القيام بأي شيء حتى يخف الإرهاق. أو حتى تأتي ذراعان قويتان لتلتقطانه وتأخذانه إلى المنزل. تقدم في السن الآن، وهذه الرغبة مجرد ذكرى، كأنه كان يتذكر فعلاً أنه يوجد
شخص ما يفعل ذلك منذ فترة طويلة؛ نعم، شخص يصحبه إلى المنزل. لكنه لم يعتقد أنها ذكرى، فكلما تقدم في السن، تصير رغباته أكثر طفولية أحيانًا. كلما تقدم في السن أكثر، اقتربت منه طفولته، وبدت كأنها ليست خيالات بعيدة تخص حياة شخص آخر. في الباص، حاول معرفة سبب إرهاقه. لا يزال يفعل ذلك بعد كل هذه السنوات، يحاول فهم الأشياء، وبحث عن تفسيرات من شأنها أن تقلل الخوف مما تسمح الحياة بحدوثه.
في نهاية كل يوم يرصد خطواته، حتى يجد تلك المجموعة الحوادث التي تتركه ضعيفًا جدًا في النهاية، كأن هذه المعرفة
(إذا كانت معرفة حقًّا) قد تخفف فعلاً من محنته.
الشيخوخة، هي ما قد تكون البداية، اهتراء الأجزاء التي لا يمكن تعويضها. ربما يكون الإسراع إلى العمل في الصباح عندما لم يكترث أحد، أو الشعور بالاضطراب إذا تأخر لبضع دقائق، وأحيانًا كان الجهد والإرهاق يتركانه عاجزًا عن التنفس، أو شاعرًا بحرقة في المعدة لبقية اليوم. أو ربما هو كوب شاي رديء صنعه بنفسه في مطبخ الموظفين جعل أمعائه تنفجر بالإسهال، لقد تركوا الحليب مكشوفًا في الإبريق طول اليوم، ليجمع الغبار والعفن الذي جلبوه جيئة وذهابًا، وهو يعرف أن من
هذا الحليب، لكنه لا يستطيع مقاومة إغراء رشفة من الشاي. أو أنه ببساطة بذل الكثير من الجهد غير الضروري، في دفع ورفع أشياء كان يجب أن يتجاهلها، أو ربما يكون حزنًا..
لم يستطع قط معرفة متى سيحدث ذلك، أو أين أو إلى متى. لكن وهو جالس في الباص، عرف أن شيئًا غير عادي يحدث له، عجز كبير، وإحساس بالضعف جعله يئن بشكل لا إرادي، كان جسده يسخن ويتقلص ويحل مكانه فراغ غير مألوف. حدث ذلك بتمهل؛ تغير تنفسه، وارتعش، وعرق، ورأى نفسه ينهار ذاك التداعي المعتاد نتيجة الإهمال البشري، حينها يتوقع
الجسد الألم ثم يتداعى. راقب نفسه، مذعورًا قليلاً من الانحلال الخبيث الذي لا يقاوم لقفصه الصدري ومفاصل وركه وعموده الفقري، كأن الجسد والعقل منفصلان. شعر بطعنة حادة في مثانته، وأدرك أن تنفسه كان سريعًا ومرتجفًا. ماذا تفعل؟ هل تعاني من نوبة؟
قال لنفسه “كفى هستيريا، تنفس بعمق.. تنفس بعمق”. نزل من الباص إلى هواء فبراير، في يوم برد مفاجئ، مرتجفًا وضعيفًا، يتنفس بعمق كما أمر نفسه. لم يكن يرتدي ملابس تناسب هذا الجو، والناس من حوله يرتدون معاطف صوفية ثقيلة وقفازات وأوشحة، كأنهم يعرفون بفعل التعود
مدى برودة الجو، وهو ما لم يفعله، على الرغم من أنه يعيش هنا منذ سنوات عديدة. أو ربما هم على عكسه، استمعوا إلى تقارير الطقس على التليفزيون أو الراديو، لذلك كانوا سعداء للغاية بارتداء الملابس الثقيلة التي احتفظوا بها في دواليبهم لمثل هذه الأغراض. هو يرتدي المعطف الذي كان يرتديه معظم شهور السنة، وهو ما يكفي لتجنب المطر والبرد، ولكن لا يدفئ عندما يكون الطقس باردًا. لم يكن قادرًا على الإطلاق على تكديس الملابس والأحذية في الدولاب من أجل المناسبات والمواسم. كانت عادة التقشف الذي لم يعد بحاجة إلى
ممارستها، لكنه لم يكن قادرًا على كسرها.
هو يحب ارتداء الملابس التي يرتديها، ويحب أن يعتقد أنه إذا رأى نفسه يقترب فسوف يتعرف على نفسه من الملابس التي يرتديها. وفي ذلك المساء البارد من شهر فبراير، كان يدفع ثمن امتناعه عن ممارسة الجنس، أو ضيق ذات اليد، أو الزهد، أو أي شيء كان. ربما القلق عادة عقلية لشخص غريب لا يتوافق مع محيطه، يرتدي ملابس خفيفة كي يتمكن من التخلص من معطفه بسرعة عندما يحين الوقت للهرب. كان هذا ما اعتقده؛ يرتدي ملابس غير مناسبة لأسباب غبية خاصة.
والبرد يجعله يرتجف بشدة، أحس بارتعاش داخلي أشعره أن عظامه على وشك أن تتلاشى. وقف في محطة الباص، في حيرة من أمره، لا يدري ماذا يفعل، سمع نفسه يتأوه، وفهم أنه بدأ يفقد مسار الأحداث، كأنه نام للحظة واستيقظ مرة أخرى. عندما أجبر نفسه على الحركة، شعر بذراعيه ورجليه كأنها منزوعة العظام، يتنفس بصعوبة، ويتنهد تنهدات قصيرة وثقيلة. وقدماه مخدرتان كأنهما من الرصاص، تهجمان على شقوق من اللحم المتجمد. ربما عليه أن يجلس وينتظر زوال ذلك التشنج. لكن لا، سيضطر إلى الجلوس على الرصيف وسيُترك مهملاً..
وقد لا يتمكن أبدًا من النهوض مرة أخرى. لذا أجبر نفسه على المضي قدمًا، قاطعًا الخطوة الشاقة تلو الأخرى. من المهم الآن العودة إلى المنزل قبل أن تنفد قوته، قبل أن يسقط في هذا الشارع ليتفتت جسده ويتناثر.
عادة ما يستغرق المشي من محطة الباص إلى منزله سبع دقائق، خمسمئة خطوة أو نحو ذلك. كان أحيانًا يحصي الخطوات، ليبعد الأفكار عن رأسه. لكن في ذلك المساء لا بد أن الأمر استغرق وقتًا أطول. شعر بالفعل كأنه استغرق وقتًا أطول. لم يكن متأكدًا حتى لو أنه سيستطيع التحمل حتى يصل. كان يعتقد أنه تجاوز الناس، وفي بعض
الأحيان يترنح ويضطر إلى الاتكاء على الحائط لبضع دقائق أو ثوانٍ. لم يعد من الممكن معرفة ذلك بدقة. حين وصل إلى الباب وجد أسنانه تصطك، ويتصبب عرقًا، وبعد أن دخل وارتمى في الصالة، تاركًا الحرارة والدوار يغمرانه، لم يستطع تذكر أي شيء لفترة.
اسمه عباس، مع أنه لا يدري به الآن، فإن دخوله كان صاخبًا. سمعته زوجته مريم يعبث بالمفاتيح، ثم يقرع الباب ويغلقه، عادةً ما يدخل بهدوء. أحيانًا لم تكن مريم تدرك أنه في المنزل حتى يقف أمامها مبتسمًا لأنه فاجأها مرة أخرى. كانت مزحاته المتكررة تلك بسبب أنها لم تسمعه يدخل تجعلها
تقفز دائمًا، في ذلك المساء، سمعت دوشة المفاتيح في الباب، وشعرت بالسرور المعتاد لوصوله. أغلق الباب بقوة وسمعته يتأوه. وعندما خرجت إلى الرواق، رأته جالسًا على الأرض أمام الباب، وساقاه مفتوحتان أمامه. وجهه مبلل بالعرق، ويلهث لالتقاط أنفاسه، وعيناه تنفتحان وتغلقان في ارتباك. ركعت بجانبه قائلةً “آه، لا يا عباس.. ماذا بك يا عباس؟”. أخذت يده المبللة الساخنة في يدها. وبمجرد أن لمسته أغلق عينيه. كان فمه مفتوحًا ويكافح ليتنفس، ورأت أن الأجزاء الداخلية من قدميه مبللة. قالت “سأتصل بالإسعاف”. وشعرت أن يده مشدودة
قليلاً على يدها. بعد لحظة قال بصوت هامس وهو يئن “لا.. دعيني أرتاح فقط”. جلست على كعبيها وانتظرت بجانبه، خائفة من انهياره، لا تدري ما ينبغي عليها أن تفعله. جسده متشنج في نوبة من الألم أو الغثيان، نادته باسمه مرة أخرى، وشددت قبضتها على يده. ثم بعد فترة قصيرة بدأت تشعر بتشنجه ينحسر، فسألت بهدوء وهي تغمغم لنفسها، وتغمغم له “”ماذا فعلت؟ ماذا فعلت بنفسك؟”. عندما شعرت أنه يحاول الوقوف على قدميه، وضعت ذراعه على كتفها وساعدته على صعود الدرج. وقبل أن يصلا إلى غرفة النوم ارتجف مرة أخرى، تحملت مريم
ثقله، وأجبرته على المشي لبضع خطوات أخرى حتى السرير. أخلعته ثيابه على عجل، ونظفت ما اتسخ من جسده، ثم غطته. لم تفكر في سبب ضرورة تجريده من ملابسه وتنظيفه أولاً قبل تغطيته. ربما مجرد غريزة حول كرامة الجسد، كياسة مفرطة لم تفكر فيها مليًّا. ثم استلقت بجانبه فوق الأغطية وهو يرتجف ويئن، ويبكي بصوت عالٍ ويقول مرارًا وتكرارًا “لا، لا”.
عندما توقف عباس عن الارتعاش والبكاء، وبدا وكأنه ينام، عادت مريم إلى الطابق السفلي، واتصلت برقم طوارئ المركز الطبي. جاءت الطبيبة في غضون دقائق من اتصالها، وهو ما لم
تتوقعه على الإطلاق. الطبيبة شابة لم ترها مريم في المركز الطبي من قبل. أسرعت إلى الداخل، مبتسمة وودودة، كأنه لا يوجد شيء مخيف. تبعت مريم إلى الطابق العلوي، ونظرت إلى عباس، ثم نظرت حولها بحثًا عن مكان تضع فيه حقيبتها. بالنظر إلى كل حركاتها كان يبدو أنها تحاول أن تخبر مريم أن تطمئن، وألا تنزعج، وشعرت أنها أصبحت أكثر هدوءًا الآن بعد أن جاءت الطبيبة.
فحصت الطبيبة عباس، وقاست نبضه وتنفسه بواسطة سماعة الطبيب، وفحصت ضغط دمه، وسلَّطت الضوء إلى عينيه، وأخذت منه عينة بول،
ووضعت فيها صبغة عباد الشمس فيها. سألته عما حدث، ثم كررت أسئلتها عدة مرات حتى أجاب عليها إجابات مُرضية. صوتها وأسلوبها مهذب ومهتم أكثر منه قلق، بل إنها وجدت الوقت لمشاركة الابتسامة مع مريم في أثناء مناقشة ما يجب القيام به بعد ذلك، أسنانها تتلألأ بالأبيض وشعرها الأشقر الداكن يتوهج في ضوء غرفة النوم. تساءلت مريم “كيف يعلمونهم أن يفعلوا ذلك؟ كيف يعلمونهم التعامل مع الجرحى بهذه الطمأنينة؟ كأنها تتعامل مع راديو مكسور”! استدعت الطبيبة سيارة إسعاف، وفي المستشفى أخبروا مريم أن عباس عانى من أزمة
سكر، لم تصل إلى غيبوبة، لكنها خطيرة. أخبروها أنه نوع من مرض السكر، الذي يحدث للأشخاص مع تقدمهم في السن. هو عادةً قابل للعلاج، ولكن لأنه لم يكن يعلم أنه مصاب به، ولم يتلق أي علاج أصيب بأزمة. من السابق لأوانه تحديد الضرر الذي تسببت به هذه الأزمة. هل يوجد تاريخ مرضي لمرض السكر في عائلته؟ عند والديه أو أعمامه أو خالاته؟ قال عباس إنه لا يعرف. وعندما فحصه الطبيب المختص في اليوم التالي، قال إن مرض السكر لا يهدد حياته، ولكن بناءً على استجاباته الحركية، ربما يكون قد عانى من بعض تلف في الدماغ. لا داعي للقلق!
قد يستعيد بعض الوظائف المفقودة وقد لا يستعيدها. الوقت كفيل بإخبارنا. كما أنه أصيب بسكتة دماغية خفيفة، وستوضح الفحوصات المنتظمة حالته وعلاجه، لكن في غضون ذلك سيبقى تحت المراقبة في المستشفى ليوم آخر، وإذا لم تحدث أي مضاعفات يمكنه العودة إلى المنزل.
صدرت له قائمة طويلة من المحظورات، وكتبت له الأدوية، ونصح بأخذ إجازة مرضية من العمل. كان حينها يبلغ من العمر ثلاثة وستين عامًا، مع أن هذا لم يكن كل ما في الأمر. اتصلت مريم بابنيها حنة وجمال، وأخبرتهما بما حدث، وأمعنت في طمأنتهما لمنعهما من
القدوم إلى المنزل. أخبرتهما أنه إذا لم تحدث مضاعفات أخرى، فسيعود إلى المنزل غدًا. سألتها حنة “ماذا تقصدين بمضاعفات؟”، ردت مريم “هذا ما قاله الطبيب، إذا لم تحدث مضاعفات أخرى”. تكلمت مثلما فعل طاقم المستشفى، الذين بدا أنهم يريدون الحفاظ على هدوء كل شيء، ربما ذلك أفضل لعباس. وإسراع حنة وجمال إلى المنزل سيوتره وهذا غير مطلوب بالطبع. لقد عملت في مستشفى من قبل، وتعرف أن الناس في بعض الأحيان يثيرون ضجة كبيرة بشأن أقاربهم المرضى “إنهم يعالجونه الآن.. يقولون إنه مستقر.. لا، لا داعي للتسرع.. إنه لن
يذهب إلى أي مكان. بالطبع يمكنك القدوم لرؤيته في أي وقت، لكن لا داعي للاستعجال. تعالى عندما تريد.. إنه بخير الآن. وهم يتعاملون مع حالته.. لا، لن يحتاج للحقن كل يوم يا جمال.. في الوقت الحالي، ليس لفترة أطول.. سيتناول الدواء ويتبع نظامًا غذائيًّا خاصًا، وستكون هناك أشياء مختلفة يجب أن أتفحصها بانتظام. مثل ماذا؟ أوه، جروح وخدوش في قدميه وقياس سكر الدم وأشياء أخرى.. سيُعلموني كل شيء عنها.. سيكون بخير. سيستغرق بعض الوقت ليتعافى مرة أخرى.. لا تقلق، سيكون بخير. نعم، نعم، تعال لتراه قريبًا”.
ترك المرض عباس منهكًا؛ حتى إن المجهود القليل يجعله يرتجف ويتعرق وينتحب من الإحباط. لم يستطع حتى الجلوس دون مساعدة. دائمًا جائع، لكن الطعام يجعله يشعر بالغثيان. طعم لعابه سام ورائحة فمه مثل مياه الصرف. عندما أجبر نفسه على ابتلاع الطعام، تقيأ وتقيأ. وحضرت ممرضة من فريق السكر بالمستشفى لزيارته وشرحت له (ولمريم) كيف يحتاج إلى الاعتناء بنفسه. وقبل أن تنصرف وضعت القواعد، وأعطتهم كتيبات ونصائح. عباس أكثر إرهاقًا بعد مغادرتها. وبعد عدة أيام لا يزال غير قادر حتى على السير لخطوات لقليلة
إلى الحمام دون مساعدة، وعندما غادرت المنزل، كان على مريم أن تحضر له دلوًا بلاستيكيًا وتضعه بجانب السرير في حالة الطوارئ. عليه أن يستخدمه مرة واحدة، وجلس على هذا الدلو كطفل رضيع، يئن ويتأوه بينما جسده يبصق وينثر فضلاته، ويشعره بالعار، بعد حياة من الهدر والأكاذيب. وعندما انتهى، لم يستطع تنظيف نفسه بشكل صحيح، ولم يستطع أن يغتسل كما يفعل عادة. لم يعتد قط على تنظيف نفسه بالمناديل الورقية، ولا يزال يشعر بالتلوث بعد ذلك، والآن عليه أن يعود إلى السرير وهو يشعر كأن مؤخرته مغطاة بالفضلات الجافة.
أحيانًا في نومه ينجرف بعيدًا عن مراسيه، إلى أماكن صامتة عميقة لم يستطع العودة إليها، ويكره العودة إليها. حتى في حالات هذيانه، يعلم أنه ترك كل الأشياء لفترة طويلة جدًا، يعرف أنها سنوات عديدة، وهناك الكثير الذي يجب أن يقوله، لكنه سمح للصمت أن يطول حتى أصبح راسخًا. هناك أوقات اعتقد فيها أنه قد رحل بالفعل، وأنه بعيد المنال، متعلقًا بحبل رفيع ينفك من بكرة، بينما يتداعى ببطء. لكنه لم يرحل، واستيقظ مرة أخرى، وتذكر حلمًا حلم به أحيانًا وهو يعمل في البحر، يتعلق بقطعة من الحبل بينما يهوي جسده مندفعًا نحو الماء الهادر.
عندما بدأ يتحسن، أصبح سريع الغضب بسهولة، خاصةً مع ضعفه، وظهر ذلك في الكلمات السخيفة التي يوجهها إلى مريم. صحيح أن الكلمات تؤذيها، لكنها كانت أمرًا خارجًا عن إرادته. أحيانًا لم يستطع أن يتحمل وجودها في الغرفة، تثرثر معه، أو تفتش في الدولاب أو في سريرها، عم تبحث؟ تضع راحة يدها على جبهته، وترفعه لتبديل وسادته، وتجلب له الراديو من المطبخ “اتركيني وحدي. توقفي عن مضايقتي”.
وفي أحيان أخرى لم يستطع أن يتحمل عدم وجودها هناك، وأن تكون في مكان آخر بينما تنزلق دموع الشفقة على الذات وكراهية الذات على وجهه.
لا أستطيع تحمل هذا. لا أستطيع تحمل هذا بعد الآن. هو المسافر الآثم الذي مرض في أرض غريبة، بعد حياة عديمة الفائدة. الحديث يؤذيه، يؤلم صدره، وهو متعب جدًا من الشرح. كلماته ليست منطقية، بإمكانه رؤية ذلك في عدم الفهم في وجهها. لم يستطع أن يجعل نفسه يقول كلمات ذات معنى. أراد أن يُترك وحيدًا، وعندما حاول أن يخبر مريم بذلك، نطق بكلمات عبثية مؤذية، ولم يستطع منع نفسه من البكاء. لكنه يتعافى، يمكنه الآن النزول بمفرده، والعودة إلى الطابق العلوي عندما يحتاج إلى ذلك، على الرغم من أن ذلك يستغرق وقتًا أطول.
كان قادرًا على تناول الطعام وفقًا للنظام الغذائي الجديد، الذي لم يجده شاقًا، باستثناء افتقاده للملح والسكر. وأخبر مريم أنه قادر على الاعتناء بنفسه. وأن وقت عودتها إلى العمل قد حان. ليس معاقًا، هو فقط ضعيفًا بعض الشيء. وعندما يستريح لفترة كافية سيكون بخير. شعرت مريم بالارتياح وعادت إلى العمل بعد ثلاثة أسابيع، على الرغم من أن ذلك يعني تركه ليوم طويل صامت بمفرده. حاول القراءة لكن تركيزه كان ضعيفًا، وحتى محاولة حمل كتاب كانت متعبة. كان يتعافى، وعندما تتحسن صحته، سيخبر مريم بكل الأشياء التي أخفاها عنها.
تعمل مريم في المستشفى، لكنها لم تقدم شيئًا مجيدًا أو منقذًا للحياة. عملت في كانتين الموظفين والزائرين، وتعلم أنها إذا بقيت بعيدًا لفترة أطول في البيت فستفقد وظيفتها، هذا ما أخبرها به بلطف مدير الكانتين، عندما اتصلت هاتفيًّا لتطلب إجازة لأسبوعين آخرين. كويس! لم تتوقع أن تحصل على أجرها، تحتاج فقط إلى أسبوعين إضافيين للتأكد من أن عباس يستطيع أن يعتني بنفسه حقًا، لكن المدير قال “لا، أنا آسف”، يعانون نقصًا في عدد الموظفين. ومريم تعمل هناك لفترة طويلة، مثلها مثل مدير الكانتين، لكن الأوقات صعبة، والوظائف ليست وفيرة.
لا مدير الكانتين ولا هي يستطيعان الذهاب إلى أي مكان. ليس كأن مريم مؤهلة لفعل أي شيء آخر؛ لقد عملت في تلك المستشفى لمدة عشرين عامًا؛ في البداية عاملة نظافة، حتى جاء الطفلان، عندها قررا أن تبقى في المنزل لرعايتهما، ثم عندما كبرا بما يكفي، وجدت وظيفة في كانتين المستشفى. غالبًاما اعتقدت مريم أنها يجب أن تفعل شيئًا آخر، أمرًا أكثر تحديًا يجعلها تشعر بتحسن تجاه نفسها، ومن المحتمل جدًا أن تجد عملاً يدفع لها أفضل، لكنها لم تشرع قط في البحث عنه. عندما ذكرت الفكرة لعباس، أومأ، أو أصدر أصواتًا موافقة، لكنه لم يشجعها.
ليست لديها أي فكرة عما قد يكون هذا العمل الآخر المليء بالتحديات، وربما لا يمتلئ به. هذا هو نوع العمل الذي تقوم به دائمًا، وهي تعرف الكثير من الأشخاص في المستشفى. الناس يجيئون ويذهبون، لكن مجموعة صغيرة منهم بقيت هناك لفترة طويلة. لم ترغب في أن تفقد وظيفتها، ليس في هذا الوقت، خصوصًا في ظروف عباس هذه. ليس كأن بإمكانها أن تقول لمدير الكانتين إنها ستترك وظيفتك البائسة “أنا أكرهها على أي حال، وسأذهب لأجد لنفسي عملاً آخر في أحد البنوك”. لا يوجد شيء آخر يمكنها فعله، فقد اعتادت أيضًا على الطريقة التي تملأ بها
الوظيفة حياتها. هذا هو الوضع طول حياتها، ودائمًا ما قبلت بالقليل، وفعلت ما هو الأفضل، وفات الأوان الآن للشعور بأنها خرقاء ومجازفة؛ ليس لديها هذا النوع من القوة. في تلك الأيام القليلة الأولى بعد عودتها إلى العمل، شعرت مرة أخرى بصدمة ما حدث لعباس، الذي لم تسؤ حالته، لكنه أصبح الآن ضعيفًا ومرتبكًا وغاضبًا للغاية، لذلك سرعان ما تنفجر في البكاء والنحيب دون سبب..
الأكثر إثارة للصدمة بالنسبة لها أن تفكر فيه على هذا النحو عندما تكون بعيدة عنه. بطريقة ما عندما كان هناك أمامها، يمكن أن تنسى نفسها في تفاصيل
ما يجب القيام به، حتى بدا للاقتراب منه أحيانًا أمرًا شاقًا. لكن وهي بعيدة تفكرت في الأمر تفصيليًّا، إنها حادثة مروعة لم تستطع إخراجها من عقلها. سألها أصدقاؤها في العمل، وأخبرتهم بإيجاز، واستفادت بجولاتها في عنابر المرضى. ساعدتها الجولات على تقليل صدمتها، وتحويلها إلى شيء أكثر عادية، تشبه ما يحدث في تلك الدراما المألوفة. من منا لا يعرف أبًا أو أختًا أو زوجًا أو جارًا عانى من مرض مزمن أو ينتظر عملية جراحية كبرى؟ بعد جولاتها، استمعت إلى أصدقائها الذين حكوا عن مآسيهم، بإلقاء اللوم على الأطباء، أو على القدر، أو حتى على نحسهم..
هذا أفضل، فلم يكونوا من هذا النوع من الأصدقاء التي يمكن أن تفتح لها قلبها. ليس لديها هذا النوع من الأصدقاء أصلاً، باستثناء عباس. هي خائفة من أنها إذا تحدثت بصراحة، فإنها ستتلقى سيلاً من التعاطف الفارغ، الذي خمنت أنه سيكون أفضل ما يمكن لأصدقائها في العمل تقديمه.
ربما هذا أيضًا أفضل ما يمكن أن تقدمه إذا فتح أحدهم قلبه لها. يكفي أن تشعر بالتعاطف البشري دون استجداء، هذا يكفي. لو أن هناك أي شيء، فهي لا تريد أن تفكر كيف هو الآن. لم ترغب في التفكير في ذلك لبضع ساعات فقط في اليوم. لم تستطع التعامل معه،
ليس من الصواب تركه بمفرده طوال اليوم، لكن الطبيبة قالت إنه يتحسن، وإن الأمر يستحق المحاولة “الدواء يؤتي ثماره، وسيكون بخير.. لا تضايقيه طول الوقت، دعيه يعتني بنفسه قليلاً، دعيه يتعلم”. أما هو فيردد “توقفي عن مضايقتي”، تعلم أنه يريدها أن تخرج من المنزل كي يجلس وحيدًا مع صمته، لكن ليس من الصواب تركه قبل أن يستطع تدبر أمره، لا يزال يسكب الأشياء، ويوسخ نفسه، ويجلس ليبكي طول اليوم في وحدته.
آلمها أنه يتحدث معها بقسوة، خصوصًا وأن هذه لم تكن طريقته، لكن عليها أن تعتاد على ذلك، فهو ليس على ما يرام..
وعلى أي حال، ستقلق إذا أرادت، ما الذي يفترض أن تفعله أيضًا!
طبيبتهم المعتادة، الدكتورة منديز، هي من طلبت ألا تهتم به مريم طول الوقت، وأن تدعه يعتني بنفسه، كأنها ليست بطلة التذمر. هي حازمة جدًا مع مريم، كما كانت دائمًا منذ أن أخذت مريم الطفلين إليها للمرة الأولى منذ سنوات. ينبغي إطاعة تعليماتها بالكامل، وغالبًا ما يحمل تشخيصها نبرة لوم، كأنها تحمِّل مريم الخطأ. الدكتورة منديز طبيبة إسبانية، عنيدة للغاية، في رأي مريم. تقترب من عمر مريم، وهي طبيبتهم لسنوات، وتبدو مثل مصارعة، كلما كبرت وزاد وزنها.
ربما أخطأت مريم في أنها لم تجد طريقة لمنع الدكتورة منديز من تقريعها والتنمر عليها، فلطالما تحدثت إليها وكأنها تهمل نفسها. وبعد تشخيصه بمرض السكر، ألقت على عباس محاضرة عن إهماله أيضًا. وقالت إن الرجال المسنين لا يذهبون إلى الطبيب حتى يحدث لهم شيء فظيع، ومن ثم يصبحوا مصدر إزعاج للجميع. ورجل في مثل عمره ينبغي عليه أن يخضع لفحوصات دم منتظمة، ولو فعل لاستطاعوا تشخيص مرض السكر منذ سنوات، وللاحظوا مشكلات القلب أيضًا. الآن، حتى الأطفال يجب أن يخضعوا لفحوصات دم على الأقل مرة كل عام.
وقالت الطبيبة إن هذه الأمراض تنتقل وراثيًّا.
عباس ضعيف جدًا. وسواء طبيبة أو لا، لم يكن ليقبل بنبرة الصوت تلك منها وهو بصحته. في أثناء محاضرة الطبيبة الإسبانية العنيدة، اعتقدت مريم أنها رأت عباس يبتسم لثوان، وفضلت أن تعتقد أنها ابتسامته الشقية، وأنه يدخر بعض السخرية ليشاكسها لاحقًا، عندما يستعيد عافيته. حينها تذكرته به كما كان من قبل، عندما قابلته كل تلك السنوات الماضية في إكستر. غالبًا ما تذكرته على هذا النحو منذ مرضه، الرجل الذي قابلته وهي في السابعة عشرة من عمرها، ليس بدافع المقارنة
أو الحزن لأنه لم يعد كذلك، بل من أجل المتعة، كذكرى أتت إليها من تلقاء نفسها وجعلتها تبتسم، ربما من الحزن أيضًا على تلك السهولة التي أصبحت الآن من الماضي البعيد. رأته للمرة الأولى في متجر بووتس في إكستر، منذ وقت طويل، في حياة شبه خيالية.. كانا يقفان في طابور، ثم ابتسم لها. ليس من المعتاد أن يبتسم الناس دائمًا بهذه الطريقة عندما يرونها، أو لم تعتقد هي أنهم قد يفعلوا ذلك على أي حال. في كثير من الأحيان تنظر بعيدًا قبل أن تتمكن من قراءة ما في عيونهم، لذلك ربما كانوا يبتسمون بعد أن ينقطع الاتصال بالعينين..
لكنها كانت في تلك الأيام تخاف من نظرتهم المزدرية الساخرة ووجوههم الغاضبة، وفضلت ألا تعرف. وكان عباس رجلاً نحيلاً وقويًّا وداكنًا، يرتدي تيشرت بولو ذا ياقة بنية فاتحة وجاكيت من الجينز. متقدم عليها في قائمة الانتظار، ولديها الوقت لإلقاء نظرة فاحصة عليه وهو ينظر إليها بهذه الطريقة بينما هو ينتظر دوره. ثم نظر إلى الوراء ورآها، فنظر مرة أخرى وابتسم. جعلتها ابتسامته تشعر بالرضا، كأنه شخص تعرفه، كأنهما جزء من شيء يعرفانه هما الاثنان ولا يعرفه شخص آخر سواهما. لم تتفاجأ عندما عرفت لاحقًا أنه يعمل بحارًا. تلك هي الطريقة
التي رأته بها، كشخص زار أماكن كثيرة ولديه تجارب، شخص عرف الحرية. لقد ولدت في إكستر، ولم تذهب إلى أي مكان آخر، ولم تفعل أي شيء. حينها كانت تعيش مع فيروز وفيجاي، وتلك الحياة تزداد صعوبة. جعلها تذكر في فيروز وفيجاي تجفل قليلاً، كما كان يحدث دائمًا حتى بعد كل هذه السنوات، فمدت كتفيها ورقبتها، وكأنها تنفض عنها تلك الذكرى.
تعرف، بمجرد النظر إليه، ودون حتى أن تعرف عنه شيئًا، أنه صاحب تجارب. لديه نظرة معينة في عينيه؛ نظرة لئيمة، تقول: لا أتعامل مع الحياة بسهولة، مهما كان ما يدور بذهنك.
عليها أن تقول إنها نظرة لئيمة. لكنها عندما عرفته بشكل أفضل، رأت أن تلك النظرة لم يكن في عينيه طوال الوقت. تظهر فقط عندما يحدث شيء لا يعجبه، شيء ما سمعه أو رآه، أو عندما يشتبه في أنه يُعامل بقلة احترام. طول حياته لم يستطع تحمل عدم الاحترام، بشكل مبالغ فيه. في بعض الأحيان كانت تلك النظرة تبدو وكأنها شيء يحترق، تتوهج عيناه، ويصبح وجهه غاضبًا ومصممًا، كأن عقله قد أخذه إلى مكان آخر. وعندما لا يكون على وشك الانفجار بهذه الطريقة، تكون عيناه هادئتين وكبيرتين، مثل شخص يحب أن يرى، وعندما قابلته للمرة الأولى
اعتقدت أنه شخص يحب أن يرضيه الآخرون. نعم، هكذا تتذكره دائمًا، بينما تستمر الذاكرة، ذلك الرجل النحيف الذي لا يهدأ، الذي التقت به في الصيف الأول بعد عامها الأخير في المدرسة. في ذلك الوقت كانت تعمل في مقهى.. حينها كانت لا تزال تفعل الشيء نفسه طول حياتها. ولاحقًا فكرت أنها إذ استطاعت كسب ما يكفي من المال، فستنتقل من شقة فيروز وفيجاي إلى السكن مع إحدى صديقاتها من العمل. لكن الراتب ضعيف، والعمل شاق، مع أنها تحب زملاءها، فأن تكون في صحبة أشخاص تنسجم معهم يساعد على جعل الأمور أفضل..
خصوصًا عندما يكون كل شيء صعبًا للغاية، كان زملاؤها أشخاصًا ضحكوا على كل شيء كأن حياتهم كلها عبارة عن مزحة غبية.
لاحقًا حصلت على وظيفة بأجر أفضل في مصنع، حيث عملت عندما رأت عباس مرة أخرى.
كانت لا تزال تذهب للمقهى أحيانًا لشرب كوب من الشاي وتلتقي زملائها السابقين، وتحصل على كعكة الكريمة على حساب المقهى.
هذا هو المكان الذي رأته فيه للمرة الثانية. نظر إليها وتعرف عليها، وتردد للحظة، وعندما ابتسمت له اقترب، تمايل قليلاً وهو يحمل طبقه..
ثم جلس.. وقال مبتسمًا: “بووتس؟”. قالت “إنه لمن دواعي سروري مقابلتك يا سيد بوتس”.
ضحكا وتجاذبا أطراف الحديث لبعض الوقت.
ثم قال "إلى اللقاء.. أراك مرة أخرى". أخبرها باسمه، وقال إنه يعمل على باخرة. أخبرته باسمها أيضًا، وقالت إنها تعمل في مصنع.
حتى تبادل المعلومات البسيطة هذا بدا لطيفًا للغاية. وكانت تعرف، دون أن تدري كيف، أنها ستقابله مرة أخرى.
لم تستطع تذكر الكثير مما قاله أو ماقالته في المقابل، فقط بقي الشعور به، ولم تكن متأكدة ما إذا كان بإمكانها
تسميته: الإثارة والترقب.
تذكرت الطريقة التي نظر بها إليها، والسعادة التي رأتها في عينيه، والطريقة التي جعلها تشعر بها.