رسالة في رثاء صديقة قديمة، جمعتها مع الكاتب حياة تخللها كل شيء: ضحك، ولعب، وحزن، وفضفضة، وزعل، وجفاء، وتبريكات، وتطمينات، وأسئلة وأجوبة، وغيابات وحضور.
مهارات استقبال الكوارث
بعد أكثر من ثلاث سنوات خارج العراق، نَمَتْ لي قناعة بضرورة تطوير وسائل دفاع نفسية لمجابهة آثار الأخبار السيئة الواردة عن أهلي وأصحابي في الداخل. ذلك لأنني معرض لتلقي أسوأ الأخبار عنهم في أي لحظة، بسبب ظروف البلاد القاهرة. إلا أن محاولات إدراك هذا الهدف ليست بالأمر السهل أبدًا، لأن شلال أخبار العراق السيئة لا نهاية له. ومما يضاعف التعاسة أيضًا هو معرفة ضرورة تجنّب مصدر الأذى، دون القدرة على ذلك.
لست الوحيد في هذه الدولاب، بل هذا واقع عراقيين مغتربين كثر مثلي، من الأجيال الجديدة. لا زالت حياتنا تتأرجح
بين عنادين: عناد البلد الذي يلفظ أبناءه إلى المهالك بلا رحمة، حتى صار العيش فيه مستحيلاً. وعناد بلدان أخرى نلاحقها كسراب يستحيل بلوغه. ومن بين «المدولبين» الكثر في المنافي، لي صديق أخذت حياته منعطفًا لم يكن في حسبانه، حتى فقد الشعور بالجدوى. وأصبحت معاني الحياة التي قاتل من أجلها سابقًا مجرد ترهات. وذلك بعد سماعه خبر فقدان فرد من عائلته لم يره منذ سبع سنوات، مات بإهمال طبي. يحاول صديقي هذا تجاوز أزمة الفقد الصادم بالفن والتأمل الصامت، فلا حيلة اخرى له. حتى إنه أطلق على وسائل التواصل التي لا تنقل سوى الأخبار السيئة اسم «صقر فويلح»،
الذي يرمي على بيت أصحابه الأفاعي، بينما ترمي بقية الصقور على بيوت أصحابها الأرانب والغزلان.
في ليلة السادس عشر من يونيو المنصرم، لطمني خبر عن حريق هايبر ماركت في مدينة الكوت، مركز محافظة واسط، محافظتي وسكنى الكثير من أصحابي ومعارفي. وبعد المراقبة والتصفح هدأت مخاوفي، حين اطلعت على تصريح رسمي للمحافظ، يقر خلاله بالسيطرة على الحريق دون وقوع أي ضحايا. وهكذا تمكنت من النوم مطمئنًا ليلتها.
لكن الصبح كان يحمل أخبارًا أخرى. حين عرفت أن الحريق كان قد تطور بإهمال أمني صلف، وقضى فيه العشرات حرقًا واختناقًا، من ضمنهم
عائلات كاملة. بل إن المحافظ كان يراقب الحريق من بعيد، واضعًا ساق على أخرى، دون أي اكتراث. في مشهد يشبه ما يُشاع عن نيرون الذي كان يستمتع بمحارق روما.
محاولاً فهم تفاصيل الحادثة، كنت في اتصال مع أهلي، حين وردتني رسالة من صديق من داخل العراق تخبرني بأن صديقتنا «سين» من بين من فقدوا حياتهم في الحريق. جزعتُ وأنا أحاول إنكار الخبر، ولكن كل محاولاتي هذه لم تغيِّر من الحقيقة المفجعة، التي بقيت أواجهها بالأرق وشعور الحيف والغضب الصامت.
حتى فتحت أخيرًا محادثة التلجرام بيني وبين «سين» وكتبت لها الرسالة التالية
لأشرح فيها سوء حالتي بعد معرفة خبر موتها المأساوي، منتظرًا منها مواساة أو مساعدة مثلما اعتدت منها دائمًا.
الرسالة
مازلت بين لحظة وأخرى أدخل محادثتنا وأشعر أنكِ موجودة، ولا زال ظهوركِ قريبًا، واسمكِ ينبض في الرسائل، وقلبي يشرب الضحك من نكاتكِ الذكية، عمر محادثاتنا عشر سنوات، وصداقتنا كذلك، وهو عمر يكبر فيه الطفل، ويتعلّم النطق، والمشي، والقراءة، والكتابة، والسباحة، وربما أكثر من لغتين. عشر سنوات هي عمر تخلله كل شيء: ضحك، ولعب، وحزن، وفضفضة، وزعل، وجفاء، وتبريكات، وتطمينات، وأسئلة وأجوبة، وغيابات وحضور،
وقلق وبرود، وفتور وحماسة.
يا إلهي، عشر سنوات! لم أنتبه لهذا الرقم سوى الآن، كأن كل لحظة فيها كانت تستحق مني انتباها أكثر. كيف كانت البداية؟ لا أتذكر، كأنها حدثت في حلم بعيد، لكن ويا للأسف أعرف النهاية، وهي نهاية لم يقترحها أسوأ الكوابيس، نهاية جاءت لتؤكد أن الحياة ليست سوى براحًا بين عدمين والمعنى ليس شرطا لها.
أنا لا أصدق رحيلكِ، ولن تجعلني كل صور النعي، ولا كل منشورات الرثاء، ولا حتى صور التوابيت الخارجة من بيتكم، لن يجعلني كل ذلك أصدق أنكِ لم تعودي موجودة هنا، في هذه الورطة الوجودية المسماة ظلمًا «حياة».
أنا بعيد هنا، وأنتِ موجودة هناك في الكوت، هذا ما تحيطه حدود استيعابي، وفي مثل هذه الخطوب اعتدت أن أحادثكِ، وأجد منكِ جوابًا ما.
أذكر الآن حين أخبرتكِ عن موت سارة ولورا، البعيدتين عني، أخبرتِني وقتها أن أعتبر موتهما "كذّابي"، وأن عليّ ألا أصدق رحيلهما، وحين أفتقدهما فليس لي سوى أن أكتب لهما دون انتظار رد، وها أنا الآن أفعل الشيء ذاته معكِ، أكذّب الجميع وأصدّقكِ، موتك كذّابي وسأظل أكتب لكِ.
«الكارثة تلتفت»
– ضباب في عز القيظ.. أنا قلق، وبصري مشوّش. ماذا ترين أنتِ؟
– أرى أنكَ ستنجح
لم تتركيني لهواجسي، هذا ما أشهد لكِ به، كانت يدكِ راحة قلبي الخائف، وكلماتكِ تنزل ندى باردًا على حرائق قلقي، ونحن ننتظر نتائجي، لم تتركيني وحدي، رافقتِني في تلك الصباحات الصائفة حتى آنستِ اعتدال نبضاتي وجريان دمي بإيقاع آمن، كانت المسافة من كلية الهندسة إلى الآداب أغنية لا تكتمل، ونحن نوائم خطواتنا حتى نبدد احتمالات الجفاء. عيناكِ وهما تعلنان نجاحكِ الأولى في كليتكِ- أو بتاريخ كليتكِ أجمع- منحاني أول شعور فخرٍ أحببته مع نفسي، وفرحت أنكِ أخيرًا في مكان شبه صحيح بعد أماكن كثيرة خاطئة.. في المكتبة كان كرّار ينتظرنا، أو كنا ننتظره ليفتح لنا النهار،
وتحت ظله الطويل كنا نجلس متذمرين من أذى يونيو/ تموز ونشتم هبة الوجود، إلا أنني أرى الآن تلك اللحظات صافية، يكنس شعاع الصداقة فيها كل شوائب الحياة ومكدّراتها، التقطتِ لي صورة هناك كمن يصنع الخلود بلمسة طرافة، وقلتِ عنها "هذه صورتكَ وأنت شاعر"، وأنا ما زلت في تلك الصورة شاعرًا أكثر من أي مكان آخر.
نعم كانت الحياة ضنينة، لكنها منحتنا بعضنا، وقتها كنا متعاهدين على حماية أحدنا الآخر، وكان من أبعد المستحيلات توقّع أنكِ ستكونين الأسرع وصولاً بيننا إلى فم المأساة، نبأ رحيلكِ طحن قلوب محبيكِ، وفجع جماعة بشرية لم تتفق
على شيء سوى أنكِ روح أرق من الوجود، ولا تستحقين سوى حب شاسع لا تحدّه حدود، ولا تقيده شروط.. لا أنسى حين قررتِ الدوام لأجل أمر ما، في يوم لم يذهب فيه إلى الجامعة أي طالب سواكِ، غنيتُ لكِ وقتها ساخرًا: «يا مداوم وحدك»، وضحكنا كثيرًا، حتى التعب.
لم أكن أعرف أنكِ خدشتِ الغيب حين قلتِ: «لن أصل الثلاثين، أشعر أنني سأموت قبل ذلك»، بل اعتبرتها مزحة ثقيلة الدم منكِ، وأخبرتكِ بأنكِ ستصلين إلى عمر التسعين، كنتُ أكثر سذاجة من أن ألاحظ نفاذ بصيرتكِ إلى حد ملامسة المجهول، إلى حد التحديق في الموت وهو يعبر بيننا.
– آني جاي الأربعاء، تريدين شي أجيبلِك؟
– جيبلياك.
يا إلهي، كم كنتِ شاعرة! محاط أنا الآن بانتباهات ذكية منكِ، غيرتِ عندي طعم أغنيات كثيرة كنت أعرفها سابقًا بطعم مختلف، أتذكر الآن إشارتكِ إلى أن الندْب هو ما يجعل كريم منصور وتوم ويتس يغنيان بحنجرة واحدة، وأن شعور الفقد يآخي صوتين بينهما أشرس معاني المسافة.. ياه! لم أكن أتخيل أن الأغنيات التي ترثي جمالاً ميتًا سترتبط بكِ، وأن قصيدة لي عن الموت كنتِ تحبينها كثيرًا ستكون ويا لفقدي، مرثاتكِ.
"الموتُ قربَ تلِّ نعمان"
نَعرِفُ الأيام الطالحة
بارتِباكِ صَباحاتِها
ورَجْفَةِ صَوتِ المُؤذِّنِ،
حِينَ يَفْتَحُ المسْجِدُ فَمَهُ بِاسْمِ مَوتٍ قادِمٍ
وتَنْغَلِقُ أبْوابُ البُيوتِ على حُزنِ النِّساءِ،
يَنْظُرُ أَحَدُنا إلى رُعْبِ الآخَرِ
وأَفْواهُنا مَخْتومةٌ بالسُّكوتِ.
خُطوةً خُطوةً
يَجِيءُ تابوتٌ مِن بَعيدٍ..
نَتَعلَّمُ مِنهُ الوَداعَ
ونَأْلَفُ إِثْرَهُ وَحْشَةَ الجَنائِزِ.
دَمْعَةً دَمْعَةً
نَتْلُو الفاتِحَةَ
ومَحاسِنَ المَرْحومِ
ثُمَّ نَرْفَعُ أَلَمَنا مَشاعِلَ نارٍ
ونَضْرِبُ الطُّبولَ بأيدٍ مَكْرُوبَةٍ
حَتّى تَهْتَزَّ الغُيومُ مِن نَشِيجِنا العالي
وتُلَبِّدَنا الأرضُ برَمادِها.
هكذا عَرَفْنا الموتَ:
ضَيْفًا أَكْرَمْناهُ
فَكَرَّرَ زيارتَهُ.
قَبْلَ الدَّفْنِ
واختِفاءِ وَجْهِ المَيِّتِ في طَيَّةِ قُماشٍ
نَلْمِسُ حَجَرَ العُيونِ
ونَرْثي نَظَراتِهِ السّابِقَةَ
ونَكْتُبُ بِعُودِ الوَردِ
اسْمَ غائِبِنا الجَديدِ
كَيْ لا يَهْجُرَهُ النَّدى
ثُمَّ نُصَلِّي أَمامَ ارْتِفاعِ الشّاهِدَةِ
ونَعودُ
لِنَفْتَحَ صَفْحَةَ صَبْرٍ جَديدَةً.
كنتِ تصدقين الشعر كنبوءةٍ واضِحةٍ أحيانًا، وتنكرينَ حقيقته أحيانًا أخرى كأنه سراب، لكنه يبقى لذيذًا للحواس، أتذكر هذا الآن ولا أعرف أي هبة جعلتكِ تقولين ما قلتِ.. هل كان لسانكِ يغرف من بحيرة أنوار؟ لأن كلماتكِ تضيء الآن مسائي الكئيب وتقترح للحداد نكاتًا وأغنيات وقصائد، إلا أن تواريكِ الصادم هذا سيجعل كل ما سببته من سعادات شعورًا أسيفًا بالخسارة.
– إني رح أتأخر.
– بطّل قلق.
– بيش الساعة؟
– الساعة صفر، ماكو زمن.
هكذا كانت تجري على لسانكِ مزحات بيكيت، هل كنتِ تتعمدين جعل كل لحظة ذكرى جميلة؟ حتى الزعل كانَ شيئًا لم تأخذيه على محمل الجد، وقلتِ إننا سنكبر من دونه، تلك اللفتات البسيطة هي ما تجعل الهواء ثقيلاً عليّ الآن، أجفُل وأنا أتخيلكِ تتعثرين مثل "ڤيرونيكا" في حلمٍ أخضر داكن، أبكي وأنا أستمع لقائمة أغنياتكِ على ساوند كلاود وأنتبه كم صارت أخيرًا ذائقتكِ جنائزية، أضحك وأنا أتذكر ألقابًا
ظريفة أطلقتِها عليّ، وأنهار بعد ذلك كله من وطأة ذكرياتك. علقم يربط لساني حين أتذكر أن في غرفتك نباتات ستعطش، ودمى ستشعر بالخوف وحدها من دونكِ، ويرجف دمي الآن وأنا أتذكر كيف حطّت على يدك فراشة منهكة، كأنها تسكن روع نفسها بلقائكِ، كم ستذبل من بعدكِ عيون عشاق ومغرمين، وتضغط أضلاعهم آهات مكتومة في ليلٍ يكره بكاء الرجال، وكم سيشتاق للطفكِ أصدقاء وصديقات سينسون أنفسهم لوهلة وتغالبهم دموعهم في مكان عام، وكم سيسأل عنكِ معارف بعيدون لم يروا منكِ إلا أبهج حضور وأخف طلة، وفؤاد كم من ذويكِ ستنطفئ فيه جدوى الحياة
برحيلك.. يا سعة نكبتنا بكِ.
أنا غاضب وأدين حتى شروق الشمس في صباحٍ دُفِنتِ فيه، وأدين صمت الناس وعجزهم، وأدين كل من كتم تنهيدة تذم من سرق ويسرق منا أعمارنا، أنا غاضب وأدين كل من تعامل معهم، وكل من استسلم لوجودهم. أنا غاضب وأدين كل من مكّنهم منا من عمائم وعُقُل ومثقفين، وأدين كل من صلّى تحت راياتهم وهتف لهم طواعية أو بإكراه، أنا غاضب وأعرف أنهم جميعًا قتلة، وأننا قتلاهم القادمون.
لكِ في سماء الكوت قمرٌ منطفئ، وفي وجدان كل من عرفكِ ندبة خالدة، إلا أنني لا حيلة لي سوى أن أحزن من بعيد، وأنتظر يومًا أزور فيه النجف
وأعتذر لكِ عن حياة ارتكبت في حقكِ قسوة لا تستحقينها، قد أشعل لك شمعة أو عود بخور، وأظل أستمع إلى أغنية تحبينها، سأحرص أن تكون أغنية لا تنتهي، حتى أغسل بدموعي اسمكِ الغريب عن مقبرة وادي السلام، ليس لي إلا أن أقول لكِ، بأقل درجة من الشعر، كما كنتِ تطلبين مني دائمًا، إنني تعبان من موت لا أصدّقه.