القاهرة: من حافة إلى حافة

صنع الله إبراهيم يبحث عن سر المدينة

القاهرة: من حافة إلى حافة

  • أسبوعي
  • نص
  • كتابة

يكتب صنع الله إبراهيم عن تاريخه الشخصي، وتطور علاقته بالقاهرة، المدينة التي لعنها، وغادرها مرات عديدة، ولكنه في كل مرة كان يعود مرة أخرى... دون أن يعرف سرها.

ألف المصريون أن يقولوا عندما تضرب أمورهم أو عندما يمرون بإحدى المحن أن السبب فيما تعرضوا له يرجع إلى أن من بنى مصر في الأصل كان حلوانيًّا. والمقصود بمصر هنا القاهرة، أما الحلواني فقد تعددت بشأنه التفسيرات؛ بعضها مهذب للغاية يعتمد على المعنى المباشر للكلمة، وهو صانع الحلوى التي تقاس جودتها بقدر ما تتميز به من هشاشة، والبعض الآخر يستند إلى استعمال مختلف للكلمة في بلاد المغرب العربي التي جاء منها بناة المدينة، حيث تطلق على من يتميز برقة بالغة في الطباع، ورهافة في الحس، وليونة في الحركة، والبعض الثالث عصري للغاية يشير إلى خفة اليد والشطارة والفهلوة.

صنع الله إبراهيم مع أبيه ؛كانا في حالة تنقل مستمر من بيت إلى بيت ومن حي إلى حي.

صنع الله إبراهيم مع أبيه ؛كانا في حالة تنقل مستمر من بيت إلى بيت ومن حي إلى حي.

لكن كتب التاريخ تنفي هذه الصفات عن جوهر الصقلي، القائد العسكري الفخم الذي فتح مصر باسم سيده الخليفة الفاطمي العظيم المعز لدين الله. فقد كان ذا جلدٍ، متفانيًا في عمله، ولم تكن أمانته أبدًا محل شك.
دخل جوهر الإسكندرية دون قتال ثم زحف جنوبًا إلى عاصمة ذلك الزمان -التي أقامها ابن طولون قبل مئة سنة بالضبط عند سفح جبل المقطم- فعسكر شمالها وفي الليلة نفسها وضع أساس المدينة التي قرر إنشاءها باسم «المنصورية» نسبة إلى أبي الخليفة الذي سرعان ما انتقل إليها واستقر بها وعدل اسمها إلى الاسم الذي حملته بعد ذلك أكثر من ألف عام.

قيلت قصص كثيرة بشأن هذه التسمية، أقربُها إلى التصديق أن المعز وهو يعطي قائده الأمر بالسير إلى مصر أمره أيضًا أن يبني بها «مدينة تقهر الدنيا».. لكن القاهرة لم تقهر أحدًا غير أهلها؛ إذ تتابع عليها الغزاة من كل الأنحاء والأجناس.. وفيما يبدو لم يؤثر ذلك على قدرتها على الاستمرار وعلى النمو حتى أصبحت واحدة من كبرى مدن العالم.. ومن أكثرها صعوبة في الحياة.
إنها الآن مدينة صاخبة لا تهدأ بالنهار والليل وتتميز بحيوية شوارعها التي يصنعها قرابة ۱۲ مليونًا من القاطنين، يصبحون بالنهار ١٦ مليونًا، يشكلون قرابة ربع سكان مصر كلها، يتحركون مكتئبين وسط السيارات المتلاحمة

والباصات المكدسة والزمامير الحادة، أسفل كَبَارٍ علوية بين أبراج سكنية ضخمة تعلوها الدشات، ومقابر سكنية تبرز منها هوائيات التلفزيون، دكاكين شعبية تحمل أسماء أجنبية، ديسكوهات يرقص فيها الشباب على إيقاع أحدث الأغاني الغربية، وحمامات بلدية يستخرج فيها العمالقة العراة طبقة الجلد الخارجية في خيوط طويلة سوداء، إلى جوار كنائس ومساجد ذات مآذن عالية مزودة بميكروفونات تصم الآذان تطل على أسطح تغطيها شتى أنواع المخلفات، أو على ناس يطهون في الهواء الطلق وسط أكوام القمامة، أو يقلبون بينها بحثًا عن شيء يوازنون به دخولهم المتواضعة، وآخرون يخوضون

صنع الله إبراهيم في طفولته قبل قليل من فقدان أمه

صنع الله إبراهيم في طفولته قبل قليل من فقدان أمه

وبعد أن أصبح أديباً يشارك بفعاليه في النقاشات قبل أن يفضل العزلة في سنواته الأخيرة، مع الأديبة سلوى بكر

وبعد أن أصبح أديباً يشارك بفعاليه في النقاشات قبل أن يفضل العزلة في سنواته الأخيرة، مع الأديبة سلوى بكر

في مخلفات متعفنة بينما يتحدثون إلى تليفونات محمولة.
ويتزايد سكانها بمعدل مائة ألف في الشهر، تفتك الأمراض والتلوث بأعداد كبيرة منهم. مليونا شقة مغلقة. وتعيش الغالبية تحت خط الفقر بينما ترتفع نفقات المعيشة يوميًا في خط موازٍ لخطوات تنفيذ طلبات التكيف الهيكلي لصندوق النقد الدولي.
هناك طبعًا مصانع جديدة في ضواحي المدينة: بطاريات ومنتجات ألومنيوم وملابس جاهزة وأدوات زينة وسيراميك ولبان ومياه غازية ومناديل ورق ومنظفات. وتطلق الميديا على ذلك تعبير الانطلاق الاقتصادي. لكن المصريين يستيقظون على منبهات

يابانية، ويغتسلون بصابون فرنسي، ويحلقون بأمواس إنجليزية، ويغسلون أسنانهم بمعاجين أمريكية، ويأكلون أجبانًا دانمركية ويدخنون مارلبورو ويشربون الكولا، ويكتبون بأقلام فرنسية على ورق فنلندي، ويستمعون إلى راديوهات يابانية أو تايوانية، ويركبون أتوبيسات ألمانية، ويتفرجون على تلفزيونات كورية.
منذ ۲۰۰ سنة، لاحظ علماء الحملة الفرنسية أنه لا توجد بالقاهرة شوارع بالمعنى المفهوم، وإنما هناك مجموعة من الحواري التي تشكل دوائر ومنعطفات توالدت فيها الأبنية بشكل سرطاني، وتفضح الخطوط المتعرجة للشوارع ما تعرضت له تلك الشوارع

كان يتحتم عليَّ أن أقبع ساكنًا إلى أن ينتهي أبي من سماع نشرة أنباء الظهيرة من راديو أسود اللون؛ كي أنطلق بعدها بسيارتي الحمراء الصغيرة جيئةً وذهابًا بين باب الحمام وباب غرفة الطعام.

كان يتحتم عليَّ أن أقبع ساكنًا إلى أن ينتهي أبي من سماع نشرة أنباء الظهيرة من راديو أسود اللون؛ كي أنطلق بعدها بسيارتي الحمراء الصغيرة جيئةً وذهابًا بين باب الحمام وباب غرفة الطعام.

الصغيرة من انتهابات. فكل واحد كان يختار على هواه رقعة الأرض التي سيبني فوقها دون أن يعنيه ما إن كان ذلك يسد الشارع أو لا. وتمخض عن ذلك العديد من الأزقة.
كذلك كانت حركة المرور في الشوارع بالغة الصعوبة. وتحدث الرحالة الأوربيون عن «صرخات الحمَّارين والمارة» و«أجراس السقائين» و«الأطفال المعرضين للدهس وسط كل هذا الزحام».
وتبدو القاهرة اليوم وكأنها لم تغادر تلك اللحظة رغم مظاهر الحداثة. فالمرور في فوضى وتبدو شرطته في عجز كامل، وهم يحاولون إيقاف السيارات بأيديهم، بعد أن فشلت المصابيح

الحمراء في ذلك، الأرصفة تحتلها معارض السيارات وأكشاك الباعة. المشاة لا يجدون أماكن للعبور، وإذا وجدوها فإن أحدًا لا يحترمها. الاختناقات متكررة ولا تقتصر على ساعات الذروة أو المواسم والأعياد ولا بدَّ أن تصطدم السيارات بسبب ضيق الشوارع وانتظار السيارات صفين وثلاثة، وبسبب عدم وجود أماكن للانتظار، وبسبب اضطراب الإشارات وعدم احترام أحد لها، وبسبب الأضواء المبهرة التي يستخدمها الجميع طول الوقت، وبسبب سائقي الباصات المرهقين المحبطين الضائقين بالركاب والمارة والحياة نفسها، وبسبب قادة الباصات الصغيرة (الميكروباص) الذين يستعينون بالمخدرات على تحمل

نجيب محفوظ على المقهى- كان يخصص يوما أسبوعيا لأصدقائه ومحبيه - أرشيف مدينة

نجيب محفوظ على المقهى- كان يخصص يوما أسبوعيا لأصدقائه ومحبيه - أرشيف مدينة

الضغوط، فيقودون بتهور ويتوقفون في أي مكان، وبسبب الشبان الصغار الذين أعطيت لهم سيارات يقودونها بنفس التهور -وربما لنفس السبب- دون أن يعبؤوا بما قد يصيبها لأنهم ليسوا هم الذين سددوا أثمانها.
على أن أكثر ما يدعو إلى العجب هو موقف سكانها الذين يبدون غير مبالين، وعازفين عن التدخل لوقف التطور العشوائي في المدينة، أو للمحافظة على نظامها ونظافتها. يرجع البعض هذا إلى خصوصية مصرية، ليست القذارة أو التلاحة، وإنما المركزية الشديدة منذ القدم نتيجة النيل والري. فالري مرادف للتنظيم المركزي الذي يخضع فيه الجميع طواعية لسلطة عامة مطلقة،

هي وحدها التي تملك زمام المبادرة وإمكانيات العمل. وخلق هذا الوضع شيئًا من روح التواكل والتكاسل والسلبية وخنق ملكات المبادأة وحوافز المبادرة.
وعندما قامت ثورة ٥٢ واصلت الدولة احتكارها للمبادأة، وبادرت بوضع خطط متكاملة للتنمية الشاملة. لكن الجار المشارك في السامية لم يكن راضيًا عن هذه الخطط، وبادر بإجهاضها بالقوة المسلحة. واضطرت البلاد إلى تأجيل كثير من المشروعات السكنية والخدمية، وهجر مئات الألوف مدنهم المدمرة وتزاحموا في الوادي الضيق الذي يشكل 3% فقط من أرض مصر، بينما يضم ٩٦% من سكانها.

وكانت القاهرة هي وجهتهم المفضلة؛ لأن كل شيء مركزٌ بها: نصف الكم الصناعي الوطني جميعًا، وربع أطباء مصر، وأكثر من ثلث صيدليات، وقرابة الثلثين من مجموع وسائل النقل والمواصلات السلكية واللاسلكية والتلفزيون ودور السينما الراقية والمسارح.
ثم جاء الانفتاح الذي سادت فيه فوضى كاملة. وبدت النخبة عاجزة، بل وغير راغبة في مواجهة الأمر. كان من الممكن مثلًا تشجيع القاهريين على استخدام الدرَّاجات إلى جانب المواصلات العامة، لكنهم بدلًا من ذلك يدفعون بمئات السيارات الخاصة إلى الشوارع كل يوم دون أن يعبؤوا بمستوى التلوث بالعادم

 أمر المعز لدين الله قائده أن يبني «مدينة تقهر الدنيا».. لكن القاهرة لم تقهر أحدًا غير أهلها

الذي وصل إلى مستواه في مدينة المكسيك، الأعلى في العالم. ويلجؤون إلى حلول قصيرة الأجل تستهلك أموالًا ضخمة: كَبَارٍ علوية بمنازل ومطالع ضيقة من وإلى شوارع ضيقة، خطوط جديدة لمترو الأنفاق، توسعات في شبكات المياه والصرف الصحي، وسرعان ما تصبح هذه الحلول والتوسعات غير كافية، فيجري العمل في مزيد من التوسعات بمساعدة المزيد من القروض الخارجية والداخلية. حلقة مفرغة لا تنتهي ولا تُحدث أثرًا؛ لأن المدينة العتيدة وصلت إلى نقطة تعجز فيها أية مشاريع عن حل مشكلتها، بل تضاعف منها وتحير الخبراء بأنواعهم؛ المكتبيون ذوو النظرة العملية على طريقة البنك

الدولي الذين يدعون إلى تجريدها من عنصر الجذب الأول بها، عن طريق نقل العاصمة الإدارية، والرومانسيون الذين يرفضون التخلي عن العاصمة التاريخية ويدعون بدلًا من ذلك إلى ضبط المدينة وإغلاقها، ثم تخليصها من نصف سكانها على الأقل.
يفضل كثيرون اعتبار الانفتاح الاقتصادي مسئولًا عما تعاني منه القاهرة من سلبيات، بل وعما طرأ على المجتمع المصري كله من تحولات في السنوات الأخيرة. ففي ظله جرت أكبر عملية نهب لثروة البلاد، اشترك فيها كبار التكنوقراطيين مع المغامرين والمقاولين والسماسرة، وبفضلها ارتفعت ديونها الخارجية بأرقام فلكية -وهي نفس

كنت أتسلل إلى سينمات الدرجة الثالثة خفية لأستمتع بأفلام ليلى مراد - الصورة من أرشيف مدينة الرقمي.

كنت أتسلل إلى سينمات الدرجة الثالثة خفية لأستمتع بأفلام ليلى مراد - الصورة من أرشيف مدينة الرقمي.

أرقام المبالغ التي أودعتها النخبة في بنوك سويسرا- واتسعت الهوة بين الطبقات، وتدهور التعليم، كما تدهورت الخدمات، وتعدل سلم القيم وعاد الهيروين إلى البلاد بعد انقطاع دام منذ الحرب العالمية الثانية. وتبين إحصائيات عام ٩٥ أن في مصر عدة مليارديرات وألف مليونير ومليوني متعطل، وطبقة تمثل 2 في المائة من عدد السكان (٦٢ مليونًا) تأكل "جلاس وزبادي مستوردين" يكفي ثمن القطعة الواحدة منهما لإطعام أسرة فقيرة لمدة أسبوع، وتركب سيارات فارهة يكفي ثمن الواحدة لشراء ثلاثة أتوبيسات للنقل العام، وبناء أربعة آلاف وحدة سكنية اقتصادية، كما يكفى ثمن طفاية

السجائر فيها لإطعام ۱٤۰۰ مصري بوجبة إفطار مكونة من ۲۸۰۰ سندوتش فول -طعامهم الشعبي المفضل-. وبالمقابل استهلكت البلاد في عام ۹۳ وحده ما قيمته ۲۰۰ مليون دولار من المخدرات البيضاء.
لكن هناك مثل (الدكتور جلال أمين) من ينقبون أعمق من هذا ويصلون إلى تعليل آخر، يتمثل فيما يسميه علماء الاجتماع -في كناية مهذبة عن استخدام السلم في اتجاهين- بالحراك الاجتماعي بين الطبقات الذي بدأ في نهاية الأربعينيات، ثم تسارعت خطواته في العقدين الأخيرين بدرجة لم يسبق لها مثيل، في التاريخ الحديث للبلاد على الأقل.

وطبقًا لهم فإن هذا الحراك جاء نتيجة التوسع في التعليم، الذي أدى إلى تفكك الحواجز بين الطبقات، ثم تلقى دفعة مهمة بقوانين الإصلاح الزراعي وإجراءات التأميم والحراسة ومشروعات التنمية الزراعية والصناعية، فتدهورت أوضاع الأرستقراطية الزراعية والرأسمالية الكبيرة في الصناعة وتجارة الاستيراد والتصدير التي ورثتها الدولة، وبالمقابل تحسنت أوضاع طوائف واسعة من مستأجري الأراضي الزراعية وصغار الملاك والعمال الصناعيين والحرفيين، وتسارعت هذه العملية في السبعينيات نتيجة الانفتاح والهجرة الداخلية والخارجية على السواء.
وكما فعل المهاجرون من الريف إلى

تعيش الغالبية من سكان القاهرة تحت خط الفقر بينما ترتفع نفقات المعيشة يوميًا في خط مواز لخطوات تنفيذ طلبات صندوق النقد الدولي

المدينة، حمل الصاعدون الجدد معهم أنماط حياتهم وسلوكهم وعاداتهم؛ فساروا في شوارع المدينة بجلاليب يتدلى منها التليفون المحمول، واقتنوا أحدث السيارات، وبذلوا جهدهم للتشبه بالطبقات المندثرة، وسيطروا على المدينة بأموالهم وفرضوا عليها أغانيهم. أتعجب إذن إذا كانت النخبة -التي تمثلهم- عاجزة عن ضبط المدينة غير راغبة في تنظيمها ولا تشعر بقذارتها!
من أي نقطة في القاهرة يمكن رؤيتها ولو من خلال غلالة من الأتربة والعوادم، فلا يمكن أن تخطئ العين المئذنتين الرشيقتين والقبة التي تتوسطهما. لكن المسجد ليس إلا قمة جبل الثلج للمجموعة المعمارية

الفريدة التي شيدت على مدى عدة قرون، فارتبط تاريخها بتاريخ القاهرة وأصبحت رمزها الدال.
أقدم أجزاء القلعة شيد منذ ثمانية قرون بواسطة صلاح الدين الأيوبي، الذي صار بانتصاراته على الصليبيين رمزًا لمقاومة التدخل الأجنبي، لكن البناء الفعلي تم بإشراف أحد أعوانه المسمى «قراقوش» والذي صار رمزًا للاستبداد الغبي: ربما جمع الاثنان بذلك خلاصة التاريخ المصري.
سجلت القلعة أيضًا بداية عصر فريد، انعقدت فيه السلطة طوال خمسة قرون ونصف قرن لسلالات من المماليك -العبيد الذين صاروا فرسانًا وأمراء- المستوردين من آسيا الصغرى ووسط

أما الترام، فكنا نأخذه عند العصاري في رحلة ممتعة - الصورة من أرشيف مدينة الرقمي

أما الترام، فكنا نأخذه عند العصاري في رحلة ممتعة - الصورة من أرشيف مدينة الرقمي

أوروبا، كما سجلت أيضًا نهايتهم على يد محمد علي الشهير، أول حاكم يختاره المصريون بأنفسهم ويفرضونه على السلطان العثماني في إستامبول.
فبعد مواجهات دامية قضت على الكثيرين منهم، دعا محمد علي من تبقى منهم: ٢٤ من الأمراء والبكوات و٤٠٠ من أتباعهم وأعوانهم وخلصائهم، إلى حفل فخم بالقلعة في أول مارس ۱۸۱۱م، شهده عدة آلاف من علية القوم. وبعد أن شربوا القهوة ودخنوا النارجيلة واستمعوا إلى الموسيقى استعدوا للانصراف. نهضوا وقوفًا وحيوا محمد علي ثم أخذوا أماكنهم في موكب المنصرفين بين كتيبتين من الجنود.
انحدر الموكب من القلعة في ممر ضيق

يؤدى إلى باب العزب، اجتازت الطليعة الباب وتبعها رئيس الشرطة ثم المحافظ ومن معه. وهنا توقفت الموسيقى عن العزف، وعلى حين غرة ارتج باب العزب الكبير وأقفل من الخارج في وجه المماليك بينما تسلق الجنود الصخور المطلة على الممر واتخذوا أماكنهم على الأسوار والحيطان المشرفة عليه، ولم يلبث الرصاص أن انهال دفعة واحدة على المحاصرين من الأعلى ومن الخلف.
كانت مذبحة شاملة لم ينج منها أحد..
أضاف محمد علي إلى مباني القلعة قصرًا ومسجدًا وثكنات عسكرية ومخازن. وصار هذا ديدن من خلفوه من الحكام. فبنى الإنجليز -آخر من احتل مصر من القوى الأجنبية لمدة قصيرة

(٧٤ سنة فقط!)- سجنًا حربيًا داخلها، ظل يستقبل النزلاء من الثوريين والسياسيين حتى بعد جلاء آخر جندي بريطاني من مصر سنة ١٩٥٦ على يد جمال عبد الناصر أول حاكم مصري تعرفه البلاد منذ ألفي سنة. وكان آخر نزلاء هذا السجن الصغير قتلة السادات في ۱۹۸۱، وبعد ذلك أغلق في ۱۹۸۳، وحُوِّل إلى متحف للشرطة.
السجن سلسلة من الزنازين الصغيرة التي شيدت على جانبي ممرين مفتوحين، وفى أربعة منها توجد الآن مانيكانات تمثل سجناء من عهود مختلفة، تميزها ملابسها واللافتات المثبتة إلى جوار الأبواب. وتمثل الإشارة إلى عهود المماليك والعثمانيين

انحدر الموكب من القلعة في ممر ضيق يؤدى إلى باب العزب، اجتازت الطليعة الباب وتبعها رئيس الشرطة ثم المحافظ ومن معه. وهنا توقفت الموسيقى عن العزف، وعلى حين غرة ارتج الباب الكبير - تصوير كريم بدر

انحدر الموكب من القلعة في ممر ضيق يؤدى إلى باب العزب، اجتازت الطليعة الباب وتبعها رئيس الشرطة ثم المحافظ ومن معه. وهنا توقفت الموسيقى عن العزف، وعلى حين غرة ارتج الباب الكبير - تصوير كريم بدر

سجن القلعة بعد أن تحول إلى مزار سياحي - تصوير كريم بدر

سجن القلعة بعد أن تحول إلى مزار سياحي - تصوير كريم بدر

ومحمد علي مغالطة تاريخية لأن السجن لم يشيد إلا في ثمانينيات القرن الماضي. لافتة واحدة أصابت الحقيقة التاريخية هي التي أعلنت عن سجين من العصر الحديث «وضمت مانيكانًا يرتدى الملابس العصرية ويضع على عينيه نظارة طبية ويمسك كتابًا». وهي نفس الزنزانة التي دخلتها ذات يوم.
كان ذلك بعد سنتين من رحيل آخر جندي إنجليزي من مصر. عندما صعدنا في بهيم الليل إلى القلعة التي كان من يستولي عليها يحكم مصر كلها. لكننا لم نكن غزاة منتصرين أو متآمرين مهزومين، ولا كنا سواحًا أو متطفلين، وإنما دخلنا واحدًا بعد الآخر من فتحة صغيرة في بوابة خشبية ضخمة،

لعلها تكون باب العزب العتيد، ثم توزعنا على الزنازين.
لم تكن هذه سوى الافتتاحية، فالمدينة الكبيرة لا تنقصها السجون والليمانات، أحدها على بعد أقدام ويحمل، أو كان يحمل لأنه أزيل في السبعينيات، اسما دالًا هو «سجن مصر» والأخرى موزعة في أطرافها الشمالية والجنوبية وهي تقدم لنزلائها من المشتغلين بالأمور السياسية «استقبالات» حافلة تعد بعناية ويشترك في إخراجها كثير من المتخصصين ويشهدها كبار ممثلي الدولة الذين يجلسون عادة خلف طاولة مستطيلة تشرف على الفناء الخارجي للسجن الذي ينتظر الضيوف في طرفه. ثم تبدأ مراسم الاستقبال

ويقترب الضيوف بين صفين من الجنود المسلحين بعصى تتدرج أحجامها إلى أن تبلغ درجة الهراوة الثقيلة؛ وهي الدرجة التي يكون فيها الضيف قد أصبح عاريًا مثخنًا بالجراح أو فاقدًا الصواب وفى أحيانٍ كثيرة الحياة.
بجوار السجن تراس كبير يطل على القاهرة يبدو منه مشهد حافل من خلال الغبار الذي يغلفها: إلى اليسار بقايا الفسطاط، النواة الأولى للمدينة التي بناها العرب عقب فتح مصر في سنة ٦٣٩، إلى الأمام مباشرة وشمالًا تمتد المدينة القديمة بمآذنها الألف المتعددة الأشكال معلنة -إلى جانب مواقيت الصلاة- عن العصور المختلفة التي تعاقبت على المدينة من فاطمية

القاهرة مدينة صاخبة لا تهدأ بالنهار والليل ويتزايد سكانها بمعدل مائة ألف في الشهر، تفتك الأمراض والتلوث بأعداد كبيرة منهم

ومملوكية وعثمانية.
أقدم مئذنة تعود إلى عام ۸۷۷ وتتميز بشكلها المخروطي وسلالمها الخارجية على غرار مئذنة جامع سامراء في العراق التي جاء منها صاحبها أحمد بن طولون. وأغلب المآذن تنتمي إلى العصر المملوكي بزخارفها المتنوعة، أما المئذنتان الرفيعتان كحربتين لمسجد محمد على في القلعة فهما على الطراز التركي الجاف، وهناك مئذنتان رشيقتان ترتفعان -منذ ٥٦٠ سنة- لا فوق مسجد، وإنما فوق باب زويلة أحد أبواب القاهرة القديمة رغم أنهما تابعتان لمسجد رحب المساحة ذي قبة حجرية شاهقة، هو مسجد «المؤيد» الشهير الذي يمكن أن تلخص قصته

إلى أن ظهرت ذات يوم وفى صحبتها امرأة أخرى أصغر منها سنًّا تحيط جسدها بالملاءة السوداء المعهودة، وتضع على وجهها البرقع التقليدي الذي يكشف العينين ويستند إلى أسطوانة لامعة من النحاس فوق الأنف ثم يغطي الفم بنسيج شبكي- الصورة من أرشيف مدينة الرقمي

إلى أن ظهرت ذات يوم وفى صحبتها امرأة أخرى أصغر منها سنًّا تحيط جسدها بالملاءة السوداء المعهودة، وتضع على وجهها البرقع التقليدي الذي يكشف العينين ويستند إلى أسطوانة لامعة من النحاس فوق الأنف ثم يغطي الفم بنسيج شبكي- الصورة من أرشيف مدينة الرقمي

العهد المملوكي برمته.
فمثل بقية المماليك أحضر تجار الرقيق «المؤيد» إلى مصر، وهو بعد صبي في الثانية عشرة من عمره حيث بيع في أسواقها واشتراه السلطان المملوكي برقوق؛ فعلمه القراءة والفقه والفروسية والمصارعة واشترك في الصراعات الدائرة بين أمراء المماليك. هكذا انتهى به الأمر إلى سجن ملاصق لباب زويلة، فوضع في حفرة قذرة وقيدت يداه وساقاه وعنقه إلى جدرانها بسلاسل حديدية مثبتة فيها.
وأثناء هذه المحنة نذر لله إن تيسر له ملك مصر أن يجعل مكان السجن مسجدًا ومدرسة.
وفيما يبدو استجاب الله الدعاء،

كان المنزل التركي يقع قرب ميدان السيدة زينب صاحبة المولد الشهير، ولصيق سينما صيفية تعلمت كيف أتسلل إلى درجتها الثالثة خفية لأستمتع بالأفلام

كان المنزل التركي يقع قرب ميدان السيدة زينب صاحبة المولد الشهير، ولصيق سينما صيفية تعلمت كيف أتسلل إلى درجتها الثالثة خفية لأستمتع بالأفلام

نادٍ للأعضاء في مبنى صغير من طابقين تحيط به حديقة صغيرة. وبه عدة قاعات لعرض الفنون التشكيلية وممارسة الموسيقى أو الرسم تستخدم أكبرها لندوة أسبوعية أدبية

نادٍ للأعضاء في مبنى صغير من طابقين تحيط به حديقة صغيرة. وبه عدة قاعات لعرض الفنون التشكيلية وممارسة الموسيقى أو الرسم تستخدم أكبرها لندوة أسبوعية أدبية

إذ تولى السلطة في سنة ١٤١٢م، ولم تمض ثلاث سنوات حتى شرع في تنفيذ النذر. بدأ بهدم السجن ثم انقض رجاله على بيوت الأهالي يخلعون منها الرخام اللازم لبناء المسجد إلى أن اكتمل بناؤه.
اكتملت القصة كلها بعد خمس سنوات بنهاية مألوفة. إذ نمى إلى علمه أن الأمراء يرغبون في تولية ابنه بدلًا منه. فدس له السم في الحلوى ولم تنقض السنة إلا ولحق بابنه ودفن إلى جواره تحت القبة، في ظل باب زويلة العتيق، الذي لا يقل تاريخه دموية. فقد كان بمثابة الصرة للقاهرة القديمة ومركز الحياة والموت بها: تعلق فوقه جثث المصلوبين من اللصوص والعصاة المتمردين وتدق فيه العاقرات المسامير

المدينة العتيدة وصلت إلى نقطة تعجز فيها أية مشاريع عن حل مشكلتها، بل تُضاعف منها وتحير الخبراء بأنواعهم

كي يرزقهن الله بحمل.
ربما كانت نظرية الحراك الاجتماعي أكثر النظريات قدرة على تفسير التغيرات التي طرأت على أحياء القاهرة، وما أصاب بعضها من تدهور أو صعود في أعقاب الانتقال المستمر لسكانها بين صاعدين وهابطين: شبرا التي قامت حول قصور محمد علي فقدت رونقها، وتهاوت تحت تأثير الزحام، ولم تلبث أن التحمت بالمناطق العمالية شمالها. العباسية الشرقية التي التحمت هي الأخرى بأزقة القاهرة القديمة. جزيرة الزمالك التي غزتها الحوانيت والسيارات والقاذورات وغطتها الكباري العلوية. الدقي التي توسعت في الأراضي الزراعية المحيطة بها خالقة حيًّا جديدًا صار رمزًا

للأثرياء الجدد وطلاب اللهو والمنتجات المستوردة، شوارع سرة المدينة الحديثة التي كانت في الأربعينيات والخمسينيات أكثر الشوارع أناقة وثراءً، ثم تدهور أمرها وفقدت رونقها، بينما انتقلت الأناقة والثراء إلى الضواحي الغنية في المهندسين ومصر الجديدة ومدينة نصر والمعادي.
وقد تكون هذه النظرية قادرة أيضًا على إلقاء الضوء على ما تعرضتُ له في طفولتي ومراهقتي من تجارب حادة متلاحقة، طوحت بي في أحد أبعادها من شرق القاهرة إلى غربها عبر قلبها القديم، ثم أعادتني -بعد عدة عقود- من غربها إلى أقصى شرقها، سوى أني كنت دائمًا -طوال هذا «الحراك»-

عند «الحافة» لا أتجاوزها.
كانت أمي زوجة في الثامنة عشرة من عمرها، لأب في الستين، ومن مستوى اجتماعي أدنى منه، إذ كانت الممرضة الخاصة لزوجته الأولى وربما كان فارق السن الكبير بينهما، وتدنيها الشديد في الوقت نفسه، فضلًا عن استعداد طبيعي، هو ما دفع بها سريعًا، وأنا بعد في السادسة إلى الانفصال عن عالمنا قبل الانفصال عن الأسرة.
وحتى سن المراهقة كنا -أنا وأبي- في حالة تنقل مستمر من بيت إلى بيت ومن حي إلى آخر، في بحث لا يكل عن شكل من أشكال الاستقرار، يرتبط أيضًا بالتدهور المستمر في قوتنا الشرائية.
هكذا تدحرجنا معًا من العباسية

بادرت ثورة يوليو بوضع خطط متكاملة للتنمية، لكن الجار المشارك في السامية لم يكن راضيًا عن هذه الخطط، وبادر بإجهاضها بالقوة المسلحة

الشرقية ذات الطابع البرجوازي وحيث كان يسكن الموظفون الحكوميون المحترمون إلى الحافة القريبة من أحد أبوابها القديمة وهو باب الفتوح، كان منزلنا على الحافة تمامًا عند نهاية مخزن للترام، أمام مدرسة يهودية تتلوها مدرسة راهبات بها صالة للباتيناج، ثم تبدأ منطقة غامضة كانت تؤدى إلى معسكرات جيش الاحتلال ودير الدومينيكان -معقل الأب قنواتي إحدى الشخصيات الفريدة في التاريخ المصري الحديث- وساحة تستخدم في الاحتفال بمولد النبي محمد. وعلى بعد خطوات من منزلنا بائع ورد، ثم ميدان يحمل اسم الملك الذي كان يمر في بعض المناسبات في سيارة حمراء اللون،

 وهو اللون المقصور عليه.
والأهم من الملك في هذا الميدان، هو عرابي صاحب المقهى الشهير في مدخل الحسينية، وكان أحد الفتوات المشهورين في أوائل القرن، قبل أن يتقاعد ويؤسس مقهى خاصًّا للنارجيلة، ارتاده علية القوم ومنهم نجيب محفوظ، الذي ربما بدأ رحلة صعوده هنا، وهي رحلة طويلة قادته إلى مقهى الفيشاوي في قلب القاهرة الفاطمية، ثم مقهى الأوبرا على حافتها قبل أن ينتقل إلى مقاهي سرة المدينة الحديثة.
أما سرة المدينة القديمة، فكانت تبدأ بعد مسيرة في شارع الحسينية الضيق عند باب الفتوح، فبينه وبين باب زويلة

كان يمتد مركز النشاط الاقتصادي والتجاري للمدينة طوال العهد العثماني.
لكن الحسينية لم تكن هامشية الدور أبدًا، وقد قام هذا الدور منذ القرن الثامن عشر على دعامتين من السكان: المتصوفة من أتباع إحدى الطرق الصوفية التي تأسست حول مسجد الشيخ البيومي بعد موته سنة ۱۷۷٠ والجزارين الذين توطن عدد كبير منهم بالحي عقب إنشاء سلخانة جديدة في شماله. والذين أهلتهم المهنة وأسلحتها لقيادة المقاومة أثناء الاحتلال الفرنسي.
على حافة هذا الحي عرفت لحظات عديدة من الأسى في الطفولة: عندما يتحتم عليَّ أن أقبع ساكنًا إلى أن ينتهي أبي من سماع نشرة أنباء الظهيرة

هذا هو السبب في أنه صار كناية عن ثرثرة المثقفين التي "لا تودي ولا تجيب"

هذا هو السبب في أنه صار كناية عن ثرثرة المثقفين التي "لا تودي ولا تجيب"

من أي نقطة في القاهرة يمكن رؤيتها ولو من خلال غلالة من الأتربة والعوادم

من أي نقطة في القاهرة يمكن رؤيتها ولو من خلال غلالة من الأتربة والعوادم

من راديو أسود اللون؛ كي أنطلق بعدها بسيارتي الحمراء الصغيرة جيئةً وذهابًا بين باب الحمام وباب غرفة الطعام. ويوم اختفت فيه هذه السيارة، وعندما يفرد الحاوي بضاعته ويبدأ بإطلاق النار من فمه ثم يدور بالرق ليجمع قروش المتفرجين واعدًا باستكمال ألاعيبه، ثم يعلن أن ما جمعه لا يكفي، ويجمع بضاعته وينصرف دون أن يرينا كيف يخرج الثعبان من البيضة (وهو موقف كان يتكرر دائمًا حتى إني لم أشهد هذه الأعجوبة حتى اليوم).
لم تكن سيارتي الحمراء هي أول أو آخر ما اختفى من منزلنا، وصارت العادة أن أكتشف عند العودة من المدرسة -اختفاء إحدى قطع الأثاث إلى أن

اختفت بالكامل غرفة الصالون- أو «المسافرين» -كما كانت تسمى- التي كانت تنام بها الخادمة وأنا معها. أحيانًا أنصت إلى حكايات أمنا الغولة والشاطر حسن، والتي تعلمت بها ألعاب الخيال فوق نقوش البساط بأدوات لا تتعدى عيدان الثقاب وأوراق الصحف: من الأولى أصنع قطارات وسيارات، ومن الثانية القوارب والسفن والأساطيل.
أما الترام، فكنا نأخذه عند العصاري في رحلة ممتعة من الميدان إلى شارع الظاهر الهادئ الذي تحف بجانبيه الأشجار وتتعانق أغصانها فوقه. تشق سنجة الترام فروع الأشجار. ثم ينتهي الشارع وينحني الترام دالفًا إلى الميدان الواسع، ويبطئ من سرعته ثم يتوقف

أمام مسجد الظاهر بيبرس الشهير. المؤسس الحقيقي لدولة المماليك، الذي كسر شوكة التتار والصليبيين، وحيكت حول سيرته الأساطير. وخلال الأقواس الحجرية الكبيرة في جدران المسجد تظهر الأردية الحمراء والزرقاء للأولاد والبنات الذين يلعبون في حديقته الواطئة، ثم يعاود الترام السير ويدور حول المسجد لينطلق في الشارع الضيق الذي كان في يوم من الأيام أحد فروع النيل، والحدود الغربية للقاهرة الفاطمية.
وعند العودة من نفس الطريق، نعبر شارع الخليج، ثم ينحرف الترام فجأة إلى اليمين ويختفى صف المنازل الذي كان يجري معنا على اليسار، وينبسط أمامنا

ربما كانت نظرية الحراك الاجتماعي أكثر النظريات قدرة على تفسير التغيرات التي طرأت على أحياء القاهرة

فضاء واسع مظلم أخاف أن أقع فيه، فأتشبث بأبي ويمسك هو بركبتي العارية بيده الدافئة. وبعد لحظات تألف عيناي الظلام، فأتبين الميدان الكبير وكتلة المسجد وسطه. ويدور الترام حول المسجد ثم يندفع في شارع الظاهر وأسند رأسي إلى الحاجز الخشبي خلفي لأستمتع بسرعته الخارقة، بينما يغلق أبي عينيه في مواجهة الهواء، ويضع يده على طربوشه حتى لا يطير.
ولم تمض بضع سنوات حتى كنت أسابق الترام على قدميَّ مجربًا القفز إليه من اليسار لإثبات القدرة على الهرب من المحصل، معرضًا لمخاطر الانزلاق تحته أو الاصطدام بالترام القادم من الاتجاه الآخر. وكان ذلك عندما حط بنا الترحال

من السهل تشمم أفخر العطور داخل المدرجات وخارجها وخصوصًا في بوفيه كلية الآداب. وفيما عدا ذلك كانت الجامعة تبعث على الملل وتدفع إلى الهرب

من السهل تشمم أفخر العطور داخل المدرجات وخارجها وخصوصًا في بوفيه كلية الآداب. وفيما عدا ذلك كانت الجامعة تبعث على الملل وتدفع إلى الهرب

البداية الطبيعية لأي يوم للكاتب هي أن يمسك بورقة أو قلم، أو يقوم بتشغيل الكمبيوتر، إذا كان -مثلي- عصريًّا للغاية. لكن الكثير من الكتاب القاهريين يفضلون بداية أخرى.

البداية الطبيعية لأي يوم للكاتب هي أن يمسك بورقة أو قلم، أو يقوم بتشغيل الكمبيوتر، إذا كان -مثلي- عصريًّا للغاية. لكن الكثير من الكتاب القاهريين يفضلون بداية أخرى.

في منزل قديم مكون من طابقين تملكه سيدة تركية تزوجها أبي لبعض الوقت، كنا نواصل الهبوط ونتوقف دائمًا عند الحافة؛ فقد كان المنزل التركي يقع قرب ميدان السيدة زينب صاحبة المولد الشهير، ولصيق سينما صيفية تعلمت كيف أتسلل إلى درجتها الثالثة خفية لأستمتع بأفلام ليلى مراد وصباح ومحمد فوزي وأنور وجدي وإسماعيل ياسين وطرزان وإستر وليامز ولوريل وهاردي.
كان الانتقال في اتجاه الجنوب الغربي إلى حافة السيدة زينب قصير الأجل، فلم نلبث أن اتجهنا شمالًا في خط مستقيم (هل كنا نحاول العودة إلى نقطة البداية؟) إلى الأزبكية وكلوت بك.

كان هذا المقهى اليوناني الطابع والملكية منذ الستينيات مركزًا للمثقفين. في الصباح الباكر يؤمه المتقاعدون والهاربون من تكشيرة زوجاتهم

الحي الذي انحدر في ظل الاحتلال الإنجليزي من موئل الأثرياء إلى مركز
البغاء العلني (حتى سنة ٤٩ على الأقل عندما ألغي البغاء رسميًا) مؤكدًا العلاقة الوثيقة التي تربط بين شريحتين لهما شأن بين شرائح المجتمع. وكالعادة توقفنا عند الحافة التي تطل هذه المرة على حي محترم هو حي الفجالة، حيث الكنائس الجميلة والمطابع والمكتبات. لكننا كنا قد تورطنا تمامًا، فالمنزل الذي سكنته كان في حارة، والحارة نفسها كانت تسمى «بين الحارات» ومنازلها ضيقة ومظلمة لا تدخلها الكهرباء، فتستخدم مصابيح الزيت والجاز.
لكن حافة الحسينية هي المكان الذي تعرفت فيه على روائح الحياة، دخان

المواقد والأفران في الصباح الباكر يصلني وأنا أخطو بغير حماس في الطريق إلى المدرسة، فوق رصيف مفروش بالحصى الملون الذي أجده أيضًا في ممرات حديقة الأزبكية وحديقة الحيوان. زهر البرتقال والياسمين المدلى من أسوار الفيلات.. المسك والعنبر في الخليط الذي يعده شيخ متسربل بقفطان من القصب ويغمس به قلمًا من البوص لينقش حروفًا غامضة أسفل مصباح زيتي في محاولة يائسة لقراءة المستقبل. ورائحة الكتب القديمة التي مازالت تهز أعطافي حتى الآن إذا ما تذكرتها أو شممت شبيهًا لها، والتي كنت أتتبعها من شارع إلى آخر بحثًا عن حانوت مغمور يبيع مخلفات الأشياء ومن بينها

روايات الجيب (الحافلة بأبطال المرحلة: المجرمين الشرفاء واللصوص الظرفاء الذين يأخذون من الأغنياء ليعطوا الفقراء).
ثم عطر المرأة.
لا بدَّ أني كنت في الخامسة أو السادسة، وكانت هناك طباخة سمراء متقدمة في العمر تحيط جبهتها بعصابة بيضاء، ولا تترك السيجارة من يدها، ويسمح لها أبي بأن تدخن في حضرته، ويبدو أنه يتعمد التبسط معها -مما كان يثير ضيقي- إلى أن ظهرت ذات يوم وفى صحبتها امرأة أخرى أصغر منها سنًّا تحيط جسدها بالملاءة السوداء المعهودة، ، وتضع على وجهها البرقع التقليدي الذي يكشف العينين ويستند إلى أسطوانة لامعة من

جاء الانفتاح الذي سادت فيه فوضى كاملة. وبدت النخبة عاجزة، بل وغير راغبة في مواجهة الأمر

النحاس فوق الأنف ثم يغطي الفم بنسيج شبكي. وكان ثمة عطر غامض وأنثوي وجميل ينبعث منها. كانت معها زجاجة "سواردي باري" الداكنة الزرقة، أم كانت هذه الزجاجة من مخلفات أمي؟ هناك حديث غامض يجرى بين الثلاثة، تخلله الكشف عن فخذ المرأة الأبيض المتماسك حتى نهايته العليا الملساء المنتوفة الشعر، الغريب في الأمر أنى لا أتذكر تفاصيل وجهها لكني أتذكر فخذها بينما أعبث في بقايا كتب ممزقة -مزقتها أنا في الغالب- منها رواية ذات غلاف ملون يبعث على الرعب. الحديث يزعجني لأمر ما، هل هو اهتمام خاص يبديه أبى بالزائرة وبما حدث من كشف؟

لكني أذكر كيف صحبتها في الطريق بأمر من أبي (فوجود طفل صغير مع المرأة يكفى لإضفاء المشروعية على تحركاتها) إلى قرب منزلها داخل الحسينية سعيدًا بالمهمة ومستمتعًا بعطرها الغامض الذي يتضوع حولها وقد غطت وجهها بالبرقع وأحكمت لف الملاءة السوداء التقليدية حول جسدها مؤكدة استدارته، وأنا أسرع إلى جانبها حريصًا على الالتصاق بها كي أحصل على أكبر قدر من عبقها، هكذا أتيحت لي إحدى المرات القليلة التي توغلت فيها داخل الحسينية خلال شبكة من الحواري الضيقة مازالت ببعضها آثار البوابات القديمة أو المصاطب الحجرية المبنية أمام الدكاكين بعرض متر ليجلس

عليها أصحابها يصرِّفون شئون عملائهم، لكن هذه المرة تميزت بأن روائح الطين والعفن ومعاصر الزيوت بددتها رائحة مرافقتي.
رافقتني هذه الرائحة طويلًا خلال رحلة الهبوط التي لم تتوقف، وحملتني إلى الغرب حيث عبرنا النيل لأول مرة لنكون قريبين من الجامعة. هنا أيضًا كنا على الحافة مباشرة. فالمنزل الذي أقمنا به كانت له حديقة واسعة وفى شارع امتلأ بفيلات مماثلة. لكن الأمر لم يكن يتعدى الواجهة المضللة فالجانب الخلفي للمنزل كان يطل مباشرة على مقهى شعبي في قلب شارع عرف باسم «داير الناحية»، وهو الاسم الذي يطلق دائمًا على الشارع الرئيسي في القرى

كانت أمي زوجة في الثامنة عشرة من عمرها، لأب في الستين، ومن مستوى اجتماعي أدنى منه، هو ما دفع بها سريعًا إلى الانفصال عن عالمنا

المصرية. ذلك أن المدينة كانت قد بدأت زحفها وصارت تقتطع من الريف. من هذه الناحية كانت تأتى روائح العفن والذباب والطين والشواء الذي كان يقوم به بائع كفتة تحت نافذة حجرة نومنا مباشرة، لكن الواجهة الأمامية كانت تقود إلى حديقة الأورمان الحافلة بالنباتات والزهور ثم إلى الجامعة. هكذا كان من الممكن التزود بباقة من الروائح تنتشر من حديقة الأورمان إلى مدرجات الجامعة المواجهة. ففي ذلك الوقت قبل ثورة ٥٢ بعام، كانت فتيات الأسر البورجوازية هن في الأغلب من يستطعن مواصلة التعليم الجامعي، وكان من السهل تشمم أفخر العطور داخل المدرجات وخارجها وخصوصًا في

بوفيه كلية الآداب.
وفيما عدا ذلك كانت الجامعة تبعث على الملل وتدفع إلى الهرب. ومن بوفيه كلية الآداب كان الطريق معبدًا إلى عالم الكبار المثير وبالتالي إلى سجن القلعة الشهير، بعد عبور النيل في الاتجاه المضاد بالطبع.
أمام الباب الرئيسي للجامعة كان -ومازال- يمتد شارع عريض تحف به أشجار حديقتي الأورمان والحيوان على الناحيتين ويؤدي في خط مستقيم إلى شاطئ النيل. وكان هذا الشاطئ يتميز برصيف عريض تتخلله أحواض الزهور ويطل على بضع عوامات قليلة، ينتشر في ثناياه باعة الفول السوداني والترمس والذرة المشوية ويطوف به باعة عقود

إلى الأزبكية وكلوت بك؛ الحي الذي انحدر في ظل الاحتلال الإنجليزي وأصبح مركز الدعارة - الصورة من مقتنيات متحف فيكتوريا بلندن

إلى الأزبكية وكلوت بك؛ الحي الذي انحدر في ظل الاحتلال الإنجليزي وأصبح مركز الدعارة - الصورة من مقتنيات متحف فيكتوريا بلندن

الياسمين ليشتريها العاشقون بينما يتردد من راديو بعيد صوت أم كلثوم أو محمد عبد الوهاب ثم عبد الحليم حافظ في مرحلة متقدمة. وقد اختفى كل ذلك الآن وتحول هذا الشاطئ الجميل إلى مرفأ للبواخر السياحية والرصيف إلى جراج للسيارات الخاصة، وصوت عبد الحليم وأم كلثوم إلى موسيقى صاخبة سريعة الإيقاع مصحوبة بكلمات سطحية تكاد تخلو من أي معنى، أما العشاق فإما صعدوا إلى ردهات الفنادق الكبرى أو هبطوا إلى الشوارع الخلفية وفي الحالتين هجروا اللعبة الرومانسية لصالح الاعتبارات العملية.
كم مرة ذرعت هذا الرصيف، والحزن

يعتصرني، ويتجاوب معي عبد الحليم حافظ في أغاني الغرام الحافلة بالعذاب والإحباط والأشواق الغامضة التي تنبعث أغلبها من رغبة حارقة في الصعود أو تأس بالغ على ما حدث من هبوط.
ولم يكن للاثنين، الصعود أو الهبوط علاقة، بانتقالي منذ ربع قرن -عبر توقف قصير في جزيرة الزمالك- إلى أقصى شرق القاهرة، الضاحية التي يطلق عليها اسم هليوبوليس والتي أقيمت على حافة أقدم مدينة فرعونية في مصر «أون». فمازلت عند الحافة لم أبرحها، عند نقطة التماس بين حي شعبي قديم تبدو أصوله القروية من الأزقة المتشابكة، وحي برجوازي بشوارع

مخططة تحف بجوانبها الأشجار والفيلات أو المنازل التي لا يزيد ارتفاعها عن ثلاثة طوابق أو أربعة.
حملت هذه الضاحية اسمًا آخر هو «مصر الجديدة». لأنها «كانت» فعلًا جديدة في كل شيء؛ فقد حرص البارون البلجيكي إمبان الذي وضع تخطيطها في مطلع القرن على تلافي عيوب القاهرة القديمة؛ فالشوارع رحبة والخضرة وافرة والمواصلات متوافرة، على رأسها ترام أنيق كان يلقب بالترام الأبيض، يبدأ رحلته من نهاية العباسية عبر شارع الخليفة المأمون، فينساب كالنسيم على الجانب الأيمن من الشارع العريض المظلل الذي كانت تطل عليه معسكرات الجيش الإنجليزي.

حتى سن المراهقة كنا -أنا وأبي- في حالة تنقل مستمر من بيت إلى بيت، في بحث عن شكل من أشكال الاستقرار، يرتبط بالتدهور المستمر في قوتنا الشرائية

عند وصولي كان الترام الأبيض قد اختفى وذهب الإنجليز وبدأت الهجرة الداخلية تتسارع وتوسعت الضاحية في ثلاث اتجاهات بخطوط ثلاثة لترام أطلق عليه اسم المترو من باب التفخيم. وطوال السنوات التالية كنت أتابع مروعًا الاعتداء المستمر على حدائقها وأرصفتها لصالح أكشاك مختلفة الأغراض أو لإفساح مكان للسيارات المتكاثرة، وعلى الطوابق الأولى في منازلها القديمة الرحبة ذات الطابع المميز لصالح دكاكين سوبر لتصفيف الشعر وتقليم الأظافر ودكورة الشقق وتنظيف الملابس والأموال. ظللت أرقب مرعوبًا هذا الإعصار الجامح وهو يقترب رويدًا من منطقة سكناي.

عالم مثلث الرعب ليس جادًا دائمًا بهذه الصورة، فهناك مساحة للترفيه والمتعة.الصورة- صنع الله مع الدكتور غالي شكري والأديب محمود الورداني

عالم مثلث الرعب ليس جادًا دائمًا بهذه الصورة، فهناك مساحة للترفيه والمتعة.الصورة- صنع الله مع الدكتور غالي شكري والأديب محمود الورداني

يقتاد الكثيرون إلى المعتقل أو السجن بسبب كلمة أو نادرة أو نكتة سجلها تقرير سري أو بلاغ، كتب غالبًا على مائدة مجاورة.

يقتاد الكثيرون إلى المعتقل أو السجن بسبب كلمة أو نادرة أو نكتة سجلها تقرير سري أو بلاغ، كتب غالبًا على مائدة مجاورة.

في الشارع العمودي على شارعي كانت هناك فيلا قديمة متواضعة من طابقين يسكنها عجوزان مع ابن كسول قارب الأربعين دون مهنة واضحة. وألفت أن أرى العجوزين في العصاري والأمسيات مستكينين في شرفتهما يتأملان الرائح والغادي من خلال أغصان شجرة بانسيانا. كانت هذه عادتهما اليومية إلى أن وقع المحظور ووقعت عين أحد الصقور على الفيلا الصغيرة.
رفض العجوزان التخلي عن المنزل وصمدا أمام إغراء المال الذي تزايد بسرعة صاروخية حتى أصبح يتألف من سبعة أرقام، ثم جاء اليوم الذي شاهدنا فيه الابن يحضر سيارة نقل ويحمل أبويه إليها عنوة وفي اليوم التالي رأيناه

صعدنا إلى القلعة، لم نكن غزاة أو متآمرين، ولا كنا سواحًا، وإنما دخلنا واحدًا بعد الآخر من فتحة صغيرة في بوابة خشبية ضخمة، ثم توزعنا على الزنازين

يقود سيارة جديدة فارهة. ولم تمض أيام إلا وكانت الفيلا قد تم هدمها وبدأ دق الأساس لعمارة ضخمة. وقبل أن يكتمل البناء أحيط الطابق الأول بحوائط زجاجية وتحول إلى مطعم للوجبات السريعة من سلسلة أمريكية مشهورة. وسرعان ما كان شبان الحي يصعدون الدرجات العشر المؤدية إليه ليتناولوا الوصفة المعهودة من البرجر والكولا وهم يتطلعون من خلف ألواح الزجاج إلى المارة ببلاهة سعداء بما حققوه من صعود وبمساهمتهم في تحديث البلاد. وفعلًا لم تمض أيام حتى انضم إليهم -كما هو متوقع- موزعو المخدرات البيضاء.
كانت هذه إشارة الانطلاق: فسرعان ما

تحول الطابق الأول لفيلا أخرى في نفس الشارع إلى دكان لألعاب الفيديو، وظهرت في الطابق الثاني للفيلا المجاورة لافتة كبيرة تعلن عن شركة لاستيراد الديشات والتليفونات المحمولة وازدحم الشارع بالسيارات المركونة في صف ثانٍ وثالثٍ، وتكومت القاذورات والمخلفات تحتها. وتتابع وفود الصاعدين. انقض أحدهم على الطابق الأول من منزل قديم تشي رحابته ومتانته بأنه من صنع البارون البلجيكي. أغلق باب إحدى شقتيه بالإسمنت دون أن يعبأ حتى بطلائه. ثم حطم جدران إحدى الغرف المطلة على الشارع وزرع فيها بابًا وضع فوقه لافتة كبيرة بالنيون تعلن عن مطعم للأسماك باسم مناسب هو

ميدان التحرير في الخمسينيات. أهميته ليست أنه محاط بمبانٍ ذات أهمية إستراتيجية مثل المتحف المصري ؛ لكن لأن نجيب محفوظ يرتاد كل يوم مقهي يقرأ فيه صحف الصبح- من أرشيف مدينة الرقمي

ميدان التحرير في الخمسينيات. أهميته ليست أنه محاط بمبانٍ ذات أهمية إستراتيجية مثل المتحف المصري ؛ لكن لأن نجيب محفوظ يرتاد كل يوم مقهي يقرأ فيه صحف الصبح- من أرشيف مدينة الرقمي

"القرش". ومدَّ أسلاكًا بالمصابيح الملونة حتى نهاية الشارع ليلفت النظر إلى ما حققه من إبداع. وتطلبت هذه الأضواء (فضلًا عن أجهزة التكييف والثلاجات الضخمة) موتورًا كهربائيًا خاصًا يعمل ليلًا ونهارًا. كما انضمت روائح الأسماك والقلى والشي إلى ريبرتوار روائحي بحضور طاغٍ بحكم قدرتها على تخلل الشعر والملابس والأثاث.
أكثر المتضررين كان بالطبع ساكن الشقة التي تعلو المطعم، بحكم قوانين الصعود الفيزيائية عندما تطبق على الروائح والأصوات. وهو رجل عجوز كان مؤلفًا للمعاجم والموسوعات؛ ولهذا فهو -بحكم المهنة- من الهابطين. نجح الرجل في استصدار حكم قضائي بإغلاق

المطعم، فتنفسنا جميعًا الصعداء. لكن لم ينصرم أسبوع إلا وكان «القرش» قد نجح في استصدار حكم آخر يلغى الحكم الأول. وتكررت هذه المهزلة عدة مرات إلى أن استصدر صاحب المطعم حكمًا نهائيًا لصالحه. منذ ذلك اليوم ألفنا أن نشهد المؤلف العجوز يغادر مسكنه كل ليلة مرتديًا روب دی شامبر حریريًّا ورديَ اللون، به بقايا لمعان قديم، فوق بيجامة بيضاء وصندل، فيمشي ببطء وهو يتأمل الأرض ساهمًا حتى يبلغ نهاية الشارع ثم يختفي. ولم يعرف أحد أبدًا متى يعود إلى مسكنه إذ لا يرى مرة أخرى إلا وهو يغادر منزله في مساء اليوم التالي.
البداية الطبيعية لأي يوم بالنسبة

للكاتب هي أن يمسك بورقة أو قلم، أو يقوم بتشغيل الكمبيوتر، إذا كان -مثلي- عصريًّا للغاية. لكن الكثير من الكتاب القاهريين يفضلون بداية أخرى أكثر عملية، قادرة على حفز ملكات الخلق الإبداعي تنطلق من ميدان «التحرير».
ولا تعود أهمية هذا الميدان إلى أنه يمثل نقطة المركز بالنسبة لمدينة القاهرة، أو أنه محاط بعدة مبانٍ ذات أهمية إستراتيجية مثل فندق «هيلتون» والمتحف المصري والمجمع الحكومي (الذي يضم ١٤٠٠ غرفة يشغلها ٣٠ ألف موظف ويتردد عليها ٦٠ ألف زائر في اليوم) والجامعة الأمريكية، أو أن بوسطه قاعدة تمثال شيدت منذ ربع

ومنذ ذلك اليوم ألفنا أن نشهد المؤلف العجوز يخرج من مسكنه بالروب دي شامبر يتأمل الأرض ساهماً ثم يختفي.

ومنذ ذلك اليوم ألفنا أن نشهد المؤلف العجوز يخرج من مسكنه بالروب دي شامبر يتأمل الأرض ساهماً ثم يختفي.

مبنى المدرسة اليهودية بالعباسية وهو حاليا مدرسة تعليم صناعي

مبنى المدرسة اليهودية بالعباسية وهو حاليا مدرسة تعليم صناعي

قرن، عقب وفاة جمال عبد الناصر، ولم يستقر المصريون بعد على اختيار الشخص الذي يوضع تمثاله فوقها، أو أنها الساحة التي يستخدمها رئيس الوزراء لتوزيع ميزانية الدولة، وفقًا لنكتة شائعة، استهدفت أساسًا أحد الملوك العرب، بأن يقف في المنتصف ويقذف بالميزانية إلى أعلى، فما يقع منها على الأرض يأخذه لنفسه، وما يبقى في الهواء يذهب إلى الشعب.
أهمية هذا الميدان تتمثل في أنه يضم، على بعد خطوات من أحد مخارج المترو السفلى، المقهى الذي اعتاد «نجیب محفوظ» الكاتب النوبلي، أن يجلس فيه صباح كل يوم ليقرأ الصحف ويشرب القهوة. وهو أيضًا المقهى

الوحيد بهذه المنطقة الذي خصص ركنًا مظلمًا ذا ساتر، يمكنك أن تشرب فيه زجاجة بيرة.
وعلى مبعدة خطوات منه يبدأ أو ينتهى، حسبما يكون اتجاه السير، شارع عريق خططه أيام الخديو إسماعيل منذ أكثر من مائة وثلاثين سنة، نفس المهندس الذي خطط شوارع باريس، وشهد في عهد الملكية جنود المحتل الإنجليزي وحلفاءه السكارى، ونوادي الباشوات والوزراء، وفاتنات المجتمع وسيداته، وأفخم حوانيت الملابس والأثاث والمجوهرات، قبل أن ينتهى به الحال لأن يحمل اسم "طلعت حرب"، رائد محاولات التصنيع الوطني في الثلاثينيات والأربعينيات، بينما

الحوانيت المنتشرة على جانبيه تضم زبالة الأسواق الأجنبية من سلع، إلى جوار منتجات محلية بائسة هي ثمرة محاولات تنظيف أموال المخدرات. لكنه أيضًا الشارع الذي يضم أو كان يضم مقهى «ریش».
كان هذا المقهى اليوناني الطابع والملكية منذ الستينيات مركزًا للمثقفين. في الصباح الباكر يؤمه المتقاعدون من القضاة وكبار موظفي الدولة، الهاربون من بيوتهم ومن تكشيرة زوجات يقمن كل صباح بعملية جرد للسنوات الضائعة، ليتناولوا فنجان قهوة وكعكة، ويقومون هم أيضًا بعملية جرد لسنواتهم الضائعة.
وتتكرر طقوس الإفطار في منتصف

الكثير من الكتاب القاهريين يفضلون بداية أخرى أكثر عملية، قادرة على حفز ملكات الخلق الإبداعي تنطلق من ميدان «التحرير»

النهار عندما يستيقظ الصحفيون والفنانون، وفى المساء تظهر زجاجات البيرة وكؤوس البراندي المصري، ويبلغ الزحام أقصاه، خاصة في يوم معين من كل أسبوع خصصه «نجيب محفوظ» لندوة منتظمة مع أصدقائه ومعجبيه أو كان يخصصه.
ذلك أننا نتحدث عن هذا المقهى في عصره الذهبي بالستينيات والسبعينيات عندما كانت تدور فيه النقاشات حول أخطر القضايا الأدبية: الالتزام والواقعية الاشتراكية والعبثية. وتطبخ فوق موائده مجلات صغيرة بعضها لم ير النور، والبعض الآخر رآه مرات معدودة، وتناقش حولها سيناريوهات أفلام ومسرحيات، ومنه بالنتيجة، يقتاد

الكثيرون إلى المعتقل أو السجن بسبب كلمة أو نادرة أو نكتة سجلها تقرير سري أو بلاغ، كتب غالبًا على مائدة مجاورة. هذا هو السبب في أنه صار كناية عن ثرثرة المثقفين التي "لا تودي ولا تجيب". وعكس الشاعر فؤاد نجم هذه الصفة في قصيدة مشهورة مطلعها:
يعيش المثقف على مقهى ريش
يعيش يعيش يعيش
محفلط مزغلط
كثير الكلام
بكام كلمة فاضية وكام اصطلاح
يفبرك حلول المشاكل قوام
ولعله السبب أيضًا في أنه اليوم، ومنذ أكثر من عشر سنوات، محاط بجدران خشبية وتجرى به تعديلات معقدة لم

«الأتيليه» هو مركز مثلث الرعب الذي لم يكن قدم كاتب أو فنان أو مثقف لم تطأه-في الصورة مع صنع الله يظهر الأديب عبده جبير

«الأتيليه» هو مركز مثلث الرعب الذي لم يكن قدم كاتب أو فنان أو مثقف لم تطأه-في الصورة مع صنع الله يظهر الأديب عبده جبير

تنته بعد، ولا أحد يعرف الهدف منها وتعددت بشأنها الشائعات. واضطر نجيب محفوظ إلى الانتقال بمحبيه ورواده ومعجبيه إلى كازينو على النيل في الجزيرة القريبة، يشرف عليه أسدان من البرونز، هما أهم ما تبقى من محاولات تحديث مصر على يد الخديو إسماعيل. أما الرواد الآخرون، وقد شق على أغلبهم عبور ميدان التحرير إلى الكازينو المذكور، أو ارتفاع أسعاره، أو انضمام الإسرائيليين إلى ندوة الكاتب النوبلي طيب القلب واسع الصدر، فإنهم تراجعوا إلى الوراء، إلى زقاق صغير خلف مقهى ریش، حيث يوجد مقهى شعبي يحمل اسم «البستان»، يرتاده السائقون والبوابون وباعة الحوانيت

المجاورة، ثم انتشروا في أنحاء ما أصبح يعرف باسم مثلث الرعب.
يبدأ هذا المثلث من مقهى «البستان» بضلع شمالي ينتهي عند مطعم «الجريون» القديم الذي ظلت أموره تتدهور إلى أن تولى أمره عراقي ذو حيوية، طرده القصف الأمريكي لبغداد، فجدده وحول حديقته إلى كافتيريا أنيقة مغطاة تقدم البيرة بأسعار مقهى ريش، وسرعان ما أصبح المكان المختار لمجموعات من الكتاب والرسامين والصحفيين. من هذا المطعم يمتد الضلع الثاني بصورة مستقيمة شرقًا حتى بار "الأوديون" فوق سطح فندق، والذي يملك إمكانية السهر حتى الصباح بحيث يتمكن المسرحيون من ارتياده. ومن

هذه النقطة يبدأ الضلع الأخير رحلة العودة إلى مقهى البستان حاضرًا بينه وبين الضلعين السابقين المركز الرئيسي للمثلث الشهير وأعني بذلك "الأتيليه".
الاسم الكامل هو "أتيليه الكتاب والفنانين". وهو نادٍ للأعضاء في مبنى صغير من طابقين تحيط به حديقة صغيرة. وبه عدة قاعات لعرض الفنون التشكيلية وممارسة الموسيقى أو الرسم تستخدم أكبرها لندوة أسبوعية أدبية، يقوم فيها أحد النقاد بتقريظ ديوان لأحد الشعراء فيضمن لنفسه مساحة ثابتة بأجرٍ متميزٍ في الصفحة الأدبية التي يشرف عليها هذا الشاعر في إحدى الصحف اليومية، أو على الأقل تغطية خبرية دائمة لنشاطاته وإصداراته.

عندما فتحت لي السيدة الباب لم أعرفها للوهلة الأولى، تطلعت إلى رقم المسكن ثم إلى وجهها، عندئذ تبينت ملامحها وقد أوشكت أن تختفي خلف تلافيف الحجاب المعهودة

شهد هذا المكان- الذي لا توجد قدم لكاتب أو فنان مصري أو عربي لم تطأه- أيامًا مجيدة في الستينيات والسبعينيات، وقبل أن يلغي الكحوليات من قائمة مشروباته تحت ضغط التيار الديني. ومع ذلك فإن اختفاء المشروبات الكحولية لم يؤثر على مصداقية المكان الذي شهد مناسبات تاريخية في السنوات الأخيرة، آخرها عندما احتشد به قرابة الألف من المثقفين في أعقاب محاولة اغتيال نجيب محفوظ وقرروا الخروج في مسيرة احتجاج لم تتم لأن الشرطة، اليقظة دائمًا، حاصرتهم واعتقلت بعضهم وفرقت صفوف الباقين.
من أي نقطة يبدأ بها الكاتب اختراقه

للمثلث المذكور، يجد نفسه على الفور وسط العواصف والنيران الملتهبة التي التي أعطت للمثلث الوصف الذي عرف به، والذى يخدمه جهاز بث في قوة C.N.N، ويعمل مثلها على مدار اليوم، مغطيًا أخبار المعارك الأدبية والفنية والصفقات الملازمة، فضلًا عن خلاصة أنباء اليوم، أي ما لم تنشره ولا حتى صحف المعارضة من خفايا الأحداث السياسية وفضائح الحكام وصفقاتهم المهولة ومشروعاتهم الماكرة، بالإضافة إلى التوابل الضرورية من خيانات زوجية، ووقائع جنسية، ويتلقى هذا الجهاز الدعم القوي من شبكة بريد سريع خفية. فيمكن أن تبدأ رحلتك من مقهى «البستان» وعندما تصل بعد

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

صحبتها في الطريق بأمر من أبي إلى قرب منزلها داخل الحسينية سعيدًا بالمهمة ومستمتعًا بعطرها الغامض الذي يتضوع حولهاقد غطت وجهها بالبرقع وأحكمت لف الملاءة السوداء التقليدية حول جسدها مؤكدة استدارته - الصورة من مجموعة صور ماتسون عن نساء القاهرة.

دقائق إلى مركز آخر من مراكز المثلث تجد في انتظارك زميلًا ثائرًا وعلى استعداد للقتال دفاعًا عن شرفه، بعد أن بلغه ما قلته بشأنه قبل قليل بخصوص انعدام أمانته الأدبية أو انعدام أمانة زوجته -الأدبية أيضًا-، إذ إن «الأدب» في اللغة العربية يعني شيئين مختلفين، لا يتفقان غالبًا: الكتابة والأخلاق!
على أن عالم مثلث الرعب ليس جادًا دائمًا بهذه الصورة، فهناك مساحة للترفيه والمتعة. ولا أقصد بذلك احتساء بضع كؤوس، أو الاشتراك في نميمة غير مؤذية ومسلية. ففي جو المثلث حمى جنسية لا تهدأ. والذين يحملون مخطوطاتهم أو نميماتهم من أجل عرضها للنقاش والتعليق، يسعون أيضًا

وراء الهدف الأزلي الذي قد لا يتجاوز الاستماع، من الجنس الآخر أو نفس الجنس، إلى حديث مطول عن أحدث نظريات علم الجمال، كفيل بإنهاك المستمع قبل المذيع، وينتهي بإغلاق الصفحة، والتحول إلى نظرية أخرى في العلم نفسه. أو يجري استئنافه في مكان آخر أكثر حميمية، حيث تتكشف حواجز غائرة، جديرة بعناية تلامذة «فرويد»، تعيد أصحابها من جديد إلى نقطة الانطلاق بالمركز.
لكن يخطئ من يظن أن المثقفين هم رواد المركز الرئيسيون. ربما كانوا كذلك في يوم ما عندما كان المركز حكرًا على الأجانب والطبقات العليا، ثم جلب الحراك الاجتماعي أنماطًا جديدة من

الرواد. فعندما جرى تمصير الشركات الأجنبية في ١٩٥٧ ثم تأميم البنوك والشركات الكبرى وتأسس القطاع العام، اختار مديروه -الصاعدون- المركز مجالًا لعملهم وسكناهم أيضًا. ولأن القطاع العام تأسس في ظل سياسة اقتصادية صارمة ظهرت إلى جواره على الفور طبقة من تجار الممنوعات. وأتاح الانفتاح الاقتصادي الفرصة للثروات الهائلة التي تكونت من التهريب وتجارة العملة، والتي كان يطلق على أصحابها في السبعينيات مصطلح القطط السمان، ونموا الآن إلى حيتان وتماسيح. هؤلاء هم الذين ملأوا المركز بحوانيت قطع الغيار ومعارض السيارات والأدوات الكهربائية والملابس والأحذية

شهد «اتيليه القاهرة» أيامًا مجيدة في الستينيات والسبعينيات، وقبل أن يلغي الكحوليات من قائمة مشروباته تحت ضغط التيار الديني

والحلوى وتراهم أمام دكاكينهم في الأمسيات بكروش ضخمة يسترخون من عناء معارك اليوم، وقد انضم إليهم العاملون في وكالات الشركات الأجنبية والشركات السياحية الذين يسهل التعرف عليهم من ملابسهم شبه الموحدة، وكرافتاتهم الملونة ورؤوسهم الحليقة، وخطواتهم المسرعة خلف قروش العمولة.
عندما فتحت لي السيدة الباب لم أعرفها للوهلة الأولى. تطلعت إلى رقم المسكن ثم إلى وجهها، عندئذ تبينت الملامح التي عرفتها منذ سنوات طويلة، وقد أوشكت أن تختفي خلف تلافيف الحجاب المعهودة.
لم أكن رأيتها منذ مدة تغيبت خلالها

هي وزوجها في إحدى دول الخليج، حيث عمل هو مستشارًا قانونيًّا بإحدى الشركات، ومارست هي مهنتها كمدرسة. كانت في حوالي الخامسة والأربعين من عمرها، تنتمي إلى أسرة معروفة بدورها الاجتماعي، فأمها من الرعيل الأول من النساء المصريات اللاتي ناضلن من أجل المساواة في الحقوق مع الرجل، وقدن المسيرات الشهيرة في الثلاثينيات التي دعت إلى السفور، أي خلع النقاب التركي القديم «اليشمك» (المرادف الأرستقراطي للبرقع الشعبي) الذي فرضته الأخلاق الإقطاعية. لهذا يمكن تصور دهشتي عندما استقبلتني الزوجة التي عهدتها دائمًا ترتدي الملابس العصرية، في ملابس الحجاب ذات

الرعيل الأول من النساء المصريات ناضلن من أجل المساواة؛وقدن المسيرات الشهيرة في الثلاثينيات التي دعت إلى السفور، أي خلع النقاب التركي القديم «اليشمك» الذي فرضته الأخلاق الإقطاعية- الصورة من أرشيف مدينة الرقمي

الرعيل الأول من النساء المصريات ناضلن من أجل المساواة؛وقدن المسيرات الشهيرة في الثلاثينيات التي دعت إلى السفور، أي خلع النقاب التركي القديم «اليشمك» الذي فرضته الأخلاق الإقطاعية- الصورة من أرشيف مدينة الرقمي

الطابع الديني.
هنا لا بدَّ أن نفرق بين نوعين من الزي نُسِبَا عن غير حق إلى الإسلام ولم يكن لهما وجود بالمرة في المجتمع المصري قبل السبعينيات، هما الحجاب والنقاب. الأخير أكثر تطرفًا ويرتبط بمفهوم شديد الرجعية، يعتبر أن إظهار أي جزء من جسم المرأة يتعارض مع الدين الصحيح. أما الحجاب فهو أخف بكثير ويقتصر على تغطية الرأس والساعدين حتى الرسغين دون الوجه. وفيما عدا هذا تتفاوت حالة الحجاب حسب نظرة كل امرأة. فهناك من تعتبر التزين والتجمل مخالفًا للتعاليم الدينية، وهناك من لا تجد تعارضًا بين الحجاب وصبغ الشفتين وتلوين

الوجنتين وأظفار اليدين والقدمين.
رحت أتأمل صديقتي التي خلا وجهها من كل أثر للزينة وغطت رأسها وتسربلت بثوب طويل ينسدل على الساعدين والساقين حتى القدمين. ولاحظت أن وزنها ازداد بشكل واضح. وأدركت هي منحى تفكيري، فقالت إن أسلوب الحياة في البلد الذي تعمل به لا يتيح للمرء من وسائل التسلية والنشاط سوى الطهو والأكل، فليست هناك غير دارين للسينما تعرضان الأفلام الهندية للجالية الهندية الكبيرة، أما التلفزيون فحاشدٌ بالأحاديث الوعظية والبرامج والمسلسلات المملة التي جردتها المحظورات العديدة من كل ما يمت إلى الحياة الطبيعية بصلة.

خلال الحديث معها تكشفت جوانب أخرى من حياتها، فهي تعاني متاعب في التعامل مع التلميذات والمدرسات الخليجيات على السواء، اللاتي يحلو لبعضهن اتهام المرأة المصرية بالعهر بسبب تحررها النسبي، وبدافع الغيرة من إعجاب الرجال الخليجيين بها لهذا السبب. كما أن عقد العمل الخاص بها ينتهي بعد شهور ولا تبدو هناك فرصة لتجديده أو للحصول على عمل آخر؛ لأن قيود العمل صارمة وقد تقلصت فرصه بعد حرب الخليج، أما زوجها فأمامه سنتان قبل أن ينتهي عقده وعليها أن تختار بين العودة إلى مصر وحدها أو الإقامة معه دون عمل، وكلا الخيارين صعب؛ الأول يفرض وحدة

كانت فتيات الأسر البورجوازية من يستطعن مواصلة التعليم الجامعي، وكان من السهل تشمم أفخر العطور داخل المدرجات وخارجها وخصوصًا في بوفيه كلية الآداب

قاسية على كل منهما خاصة أنهما بلا أطفال، والثاني يحرمهما من نصف الدخل تقريبا (أجرها)، كما أنها لا تتحمل البقاء في المنزل دون عمل وهي التي قضت عمرها كله في عمل ونشاط خارجه.
كانت تحدثني بوجه عابس وهي تضع يدها على رأسها مشتكية من صداع شديد لا يفارقها، بينما كنت أتأمل ملابسها وأقارن بين صورتها الراهنة وصورتها منذ سنوات قليلة أو في بداية السبعينيات عندما كانت هي وغيرها يزهون بالجوبة القصيرة التي تكشف عن الركبتين دون أن يثير ذلك امتعاض أحد. ولم تلبث عدوى الصداع أن انتقلت إليَّ أنا الآخر، وأنا أفكر في هذا

الغول الذي يزحف بثبات وينتزع الأصدقاء والمعارف واحدًا وراء الآخر.
مرت عدة شهور على هذا اللقاء، وذات يوم تلفنت لي فور عودتها إلى القاهرة في زيارة سريعة، فذهبت لزيارتها ومرة أخرى كانت هناك مفاجأة في انتظاري. فالسيدة التي قابلتني كانت رشيقة القوام ترتدى ثوبًا عصريًا يكشف عن ساعديها والأهم من ذلك أن شعرها كان عاريًا تم تصفيفه عند الكوافير وكان هناك أثر مكياج خفيف على وجهها. كانت تبتسم وهي تنبئني بأنها حصلت على عقد عمل جديد في الدولة الخليجية يتيح لها البقاء إلى جوار زوجها حتى ينتهي عقده. سألتها عن أخبار الصداع فقالت إنه اختفى.

كيف؟ قال لها طبيب هندي في الدولة الخليجية إن الحجاب مسئول عن الصداع. وخيَّرها بين أن ترتديه طول الوقت ولا تخلعه عند النوم كما تفعل أو أن تتخلى عنه نهائيًا كي لا تتعرض لتأثير الهواء المكيف على جيوبها الأنفية. وأضافت ضاحكة: "اخترت الحل الأخير بعد أن تأكدت أن الإسلام الصحيح لا يشترط حجاب المرأة".
احتفظت لنفسي بشكوكي في تفسيرها لتغير موقفها من قضية الحجاب. فكثير من النساء يتخلصن من دون حاجة إلى طبيب هندي، وبالتحديد عندما يستنفد الغرض منه. الأمر المؤكد أن الطبيب الهندي لم يكن مسئولًا عن استعادتها لرشاقة جسمها وارتفاع معنوياتها. وبعد

كم مرة ذرعت هذا الرصيف، والحزن يعتصرني، ويتجاوب معي عبد الحليم حافظ في أغاني الغرام الحافلة بالعذاب

أن لمست بنفسي طبيعية الحياة في دول الخليج، لم يعد من العسير عليَّ أن أتصور قسوة الظروف التي دفعتها إلى التماس وسيلة للدفاع عن النفس تتيح لها الاندماج في مجتمع غريب والحصول على قبوله، وما يضمنه ذلك من فرصة العمل، خاصة أن هذه الوسيلة لا تتعارض مع سلة المبادئ والقيم السائدة، بل وتحتل منها أحيانًا مركز الصدارة. وفى هذا فإنها لا تختلف كثيرًا عن الفتاة الأمريكية التي تخلع ملابسها في هوليوود من أجل دخول عالم النجوم.
لكن الأمر لا يتطلب السفر إلى إحدى دول الخليج من أجل "اكتشاف" الحجاب. فيمكن التوصل إلى ذلك في أوربا عند الشعور بالعجز والنقص أمام

حضارة متقدمة. بل يمكن أن يتحقق هذا دون اتخاذ خطوة واحدة خارج منزل في قلب القاهرة. وهو ما وقع لصديقة أخرى لي في نفس العمر كانت نموذجًا للفتاة العصرية المستنيرة، وكانت تطمح إلى مستقبل بارز في البحث العلمي، لكنها تزوجت عن حب في سن مبكرة، وسرعان ما أصبح لديها ثلاثة أطفال فضلًا عن الزوج! وبالتدريج بعدت المسافة بينها وبين مشروعها الخاص ثم بينها وبين زوجها. وعندما وصلت إلى مشارف الخمسين كانت مستهلكة جسديًّا ومعنويًّا، يطغى عليها شعور بالإحباط الشديد، وبينما تشعر بالحياة تتسرب من بين يديها تجد نفسها عاجزة عن القيام بأي مغامرة

على صعيد الإنتاج الاجتماعي أو الإشباع العاطفي، لتعوض ما فاتها ولتعيد اكتشاف نفسها. فمنظومة التقاليد السائدة في المجتمع لا تسمح لها بهذا، بالإضافة إلى القواعد البيروقراطية (فلكي تحصل على جواز سفر إلى خارج البلاد تلزمها موافقة رسمية من الزوج) ولا تجد أمامها من سبيل سوى "الانسحاب". وتختار من أشكاله المختلفة (الجنون، الانتحار، المخدرات، إلخ) أكثرها أمانًا وقبولًا من المجتمع، فتقمع مشاعرها و"تغطيها". وهو على أية حال اختيار أقل درامية من ذلك الذي تقدم عليه أختها المسيحية عندما تدخل الدير!
وليس معنى ذلك أن الحجاب يرتبط

 أكثر من مرة تركت القاهرة ساخطًا عازمًا ألا أراها ثانية. ثم لا ألبث أن أجدني قد عدت صاغرًا

دائمًا بأزمة منتصف العمر. فالكثيرات يكتشفنه في وقت مبكر. انظر إلى فتاة في مقتبل العمر، متوسطة الحال، وهي تتصفح مجلات المودة (أغلبها بالمناسبة إصدارات خليجية فاخرة) وترى في الجامعة بنات الطبقات الثرية في ملابسهن الجذابة الغالية الثمن، وتمر بالحوانيت التي تقدم أحدث منتجات بيوت الأزياء العالمية بأسعار فلكية. ألا يمثل الحجاب وهو في أبسط أشكاله زيًّا رخيصًا ومقبولًا من المجتمع ومن رجاله حلًّا اقتصاديًّا مريحًا؟.
الاقتصاد ليس إلا واحدًا من المتناقضات العديدة التي يتفتح عليها وعي الفتاة المصرية، وتطرح عليها تساؤلات حول «الأخلاق»السليمة. التلفزيون مثلًا يدعو

في إحدى قنواته إلى الالتزام بالمبادئ الدينية وارتداء الحجاب، ويفسح المجال لمن يهاجمون عمل المرأة ويدعونها للعودة إلى بيتها لرعاية زوجها وأطفالها، بينما يبث في القناة المجاورة برامج تسلية غربية تظهر فيها الفتيات أنصاف عاريات. أمام هذا الارتباك يبدو الحجاب وسيلة دفاع وحماية من خطرين ماثلين: الجنون والدعارة!
والواقع أن هذا الارتباك ليس مقصورًا على الفتاة. فالرجل ضحيته الرئيسية وهو في الواقع من يضع الحجاب!
لقد ورث مركز السيد في المجتمع لكنه عجز عن ممارسته، فما حققته المرأة من مكاسب في ميدان التعليم والحياة العامة هدد هذا المركز، بمثل ما هدده

كوبري قصر النيل: يشرف عليه أسدان من البرونز، هما أهم ما تبقى من محاولات تحديث مصر على يد الخديو إسماعيل - أرشيف مدينة

كوبري قصر النيل: يشرف عليه أسدان من البرونز، هما أهم ما تبقى من محاولات تحديث مصر على يد الخديو إسماعيل - أرشيف مدينة

عجزه عن التكيف مع مجتمع في حالة «حراك» مستمر على كل المستويات، لم يستقر بعد على «شفرة» مقبولة من الغالبية تضمن له حياة آمنة. لنتأمل برهة ما تعرض له المصري على مدى العقود الأربعة الأخيرة. تحمل التضحيات في الكفاح من أجل الاستقلال إلى أن خرج آخر جندي إنجليزي من البلاد في ١٩٥٤، وتحمل تضحيات أخرى عندما عادوا بعد عامين، في صحبة الإسرائيليين والفرنسيين، وحتى خرجوا من جديد.
ثم تحمل أعباء المشروع التحديثي الذي تبنته الطبقة المتوسطة بقيادة جمال عبد الناصر، مؤمنًا بالفلسفة التي طرحتها هذه الطبقة حول التصنيع

والعدالة الاجتماعية، سعيدًا بما توفر له من سكن رخيص وفرصة للعمل وتأمينات اجتماعية ورعاية صحية وتعليم مجاني لأولاده، قانعًا بالحصول على احتياجاته الأساسية من مؤسسات القطاع العام، متنازلًا عن الكماليات غير عابئ بالقيود التي فرضت على حريته في إبداء الرأي.
وتحمل نصيبه من جديد في النتائج الفادحة للعدوان الذي قامت به إسرائيل عام ١٩٦٧، وفي حرب الاستنزاف التي تلته ثم حرب التحرير في ۱۹۷۳ التي اعتبرها نهاية المطاف وإيذانًا بأن تتحقق الآمال القديمة في مستقبل أفضل.
لكنه فوجئ بنفس الطبقة الحاكمة

تقول له إن سياسة التصنيع والتخطيط والقطاع العام هي السبب فيما يعانيه من متاعب، وإن فرصة التقدم الوحيدة أمامه تكمن في «الانفتاح الاقتصادي» و«الخصخصة»، واتباع نصائح البنك الدولي.
ومن جديد آمن بالفلسفة المعروضة عليه وانتعشت آماله عندما رأى السلع الأجنبية تغرق السوق رغم عجزه عن شرائها، وبدا مستعدًا للتغاضي عن ارتفاع تكاليف المعيشة، وفساد الجهاز الحكومي، وتدهور التعليم وتقلص مظلة التأمينات الاجتماعية، واتساع الهوة بين الطبقات وزيادة التبعية للخارج في انتظار المستقبل الزاهر الموعود.

حتى اليوم لم أفهم السر في عجزي عن الاستقرار في مدينة غير «القاهرة»

لكن الأعوام تمر لا تحمل معها سوى الوعد بمزيد من المعاناة ومزيد من الإرهاق الروحي.
أنعجب إذن عندما نراه يختار الانسحاب لنفسه ولأسرته من المجتمع بتغطية الوجه والرأس والارتداد إلى صورة عن ماضٍ أكثر بساطة وأيسر على الفهم، فضلًا عما يعد به هذا الارتداد أيضًا من سلام وطمأنينة لا ينتظرانه في الجنة وحدها، وإنما أيضًا داخل المساجد الصغيرة التي تكاثرت بوفرة حيث ينشط أتباع درويش ضرير تؤويه الولايات المتحدة تحسبًا ليوم تضطر فيه للتعامل مع حكومة من أصحاب اللحي، وحيث تروج أكثر الأفكار تخلفًا وأبعد المعلومات عن الحقيقة بشأن التعاليم

الإسلامية الصحيحة من قبيل الشياطين الصغار الذين يولدون نتيجة مجامعة شارك فيها شيطان كبير؛ لأن المتجامعين لم يؤدوا طقوسًا معينة، وحيث يتم إذكاء روح التعصب ضد الأقباط الذين يؤلفون قرابة الخمس من عدد السكان، وإقناع المرأة بارتداء الحجاب والبقاء في المنزل وهي صورة مختلفة تمامًا عن صورتها في الستينيات والسبعينيات بل وفي أزمنة سحيقة أيضًا.
ففي القرن الخامس عشر وحوالي عام 1470م، قرر السلطان المملوكي قايتباي -وهو واحد من ألمع السلاطين المماليك ولعله الوحيد الذي تولى السلطة مرغمًا وأراد أن يتخلى عنها طوعًا أكثر من مرة- منع النساء من تغطية الرأس

أما أفلام الستينيات والخمسينيات التي يبثها التليفزيون فتظهر فيها المرأة؛ سافرة مزهوة بأنوثتها رغم مقص الرقيب الذي يتدخل أحيانًا لتلبية شروط الجيران الصحراويين<br>- الصورة من أرشيف مدينة الرقمي

أما أفلام الستينيات والخمسينيات التي يبثها التليفزيون فتظهر فيها المرأة؛ سافرة مزهوة بأنوثتها رغم مقص الرقيب الذي يتدخل أحيانًا لتلبية شروط الجيران الصحراويين
- الصورة من أرشيف مدينة الرقمي

بالطرحة أو المنديل الحريري المحلى بالجواهر. وكان السلطان الذي اشتهر بالتقوى بالغ الحزم، فأصدر أوامره بأن يضرب رجال المحتسب أي امرأة تخالف قراره. وسرى الخوف بين النساء، فصرن يخرجن حاسرات الرؤوس وعند عودتهن إلى منازلهن يستمتعن بارتداء الغطاء المحرم!
أما أفلام الستينيات والخمسينيات من هذا القرن التي يبثها التليفزيون بصورة مستمرة فتظهر فيها المرأة -رغم مقص الرقيب الذي يتدخل أحيانًا لتلبية شروط الجيران الصحراويين- سافرة أو في ميني جيب، مزهوة برشاقتها وأنوثتها. لكنها صورة من عهد انقضى. ويبدو لنا منتميًا إلى قرن آخر. فامرأة اليوم تمشى

الفوضى القاهرية في السيدة عائشة؛ هل كانت الإجابة على سؤال: لا أعرف لماذا عجز صنع الله عن الاستقرار في غير القاهرة؟- تصوير&nbsp;كريم بدر

الفوضى القاهرية في السيدة عائشة؛ هل كانت الإجابة على سؤال: لا أعرف لماذا عجز صنع الله عن الاستقرار في غير القاهرة؟- تصوير كريم بدر

متعثرة مضطربة الخطى، غالبًا ما تستند بيدها أو جسدها كله إلى أقرب جدار، تئن من الحرارة الخانقة تحت وطأة الملابس السابغة التي تغطى أجسامًا نفخها طعام غير صحي، وحياة بلا رياضة تحفل بصنوف العلل، ينقضي جزء كبير منها في مقعد أمام التلفزيون الذي ينفرد بشاشته الشيخ الشعراوي وأقرانه ساعات عديدة يطلقون خلالها ما يشاؤون من أحكام، تتبعها مسلسلات سخيفة وإعلانات تدعو للتمتع بالسكن في قصور الصفوة وعدم الاقتصار على جهاز تلفزيون واحد تحت شعار «واحد للصالون وواحد لأوضة النوم».
على أن الحجاب والنظرة إلى الحياة

المرتبطة به، إذا كان يجرد المرأة من آدميتها ويقيد من قدرتها على المشاركة في الإنتاج بفاعلية، بل ويعوق من قدرة المجتمع بأجمعه على التقدم والتنمية، ويحكم عليه بالتخلف، وعلى أبسط تقدير بالتشوه، أفلا يمثل خلع الملابس بالنسبة لفتاة هوليوود امتهانًا لآدميتها واستسلامها لمجتمع التشييئ الاستهلاكي؟ الحالتان وجهان لعملة واحدة لن تتغير قيمتها إلا في ظل وضع عالمي يحترم آدمية الإنسان، ويتحقق فيه توزيع عادل للثروة ويتم فيه تعويض شعوب البلدان الأقل نموًا عما تعرضت له من نهب واستنزاف لثرواتها ولقواها الروحية.
من القلعة في الشرق وعبر أحياء المدينة

صنع الله إبراهيم مطلا إلى القاهرة من شرفة منزله في مصر الجديدة - الصورة من أرشيف مدينة الرقمي

صنع الله إبراهيم مطلا إلى القاهرة من شرفة منزله في مصر الجديدة - الصورة من أرشيف مدينة الرقمي

القديمة بآثارها الإسلامية والقبطية التي تمتد في قاع منخفض، تبدو الأهرامات في في الغرب، عبر النيل، معلنة عن مجموعة معمارية فريدة أخرى، أنتجتها ديانة مادية مستمدة من الحياة على خلاف الديانات السماوية الثلاث التي خرجت من الصحراء العربية: غابة من الأساطير العديدة توحد بينها فكرة واحدة هي: الكفاح ضد الموت.
ومع ذلك فهذه الديانة هي التي اخترعت، قبل المسيح بثلاث آلاف سنة، فكرة مولد الفرعون من "الروح القدس" بينما هو ابن لامرأة من البشر. فيزور الإله آمون الملكة متنكرًا في هيئة زوجها الملك وتحمل منه، وعندما يولد الطفل الملكي تقدمه أمه للملك لا بصفته ابنًا

له، وإنما على أنه ابن الإله. ولم يكن الدافع لهذه الأسطورة فقط هو دعم السيطرة على الشعب، وإنما أيضًا لأن الفراعنة أنفسهم، كما يحدث في هذه الحالات صدقوا القصة.
طوال قرن كامل كان الشعب الذي ابتكر الكتابة واخترع التقويم السنوي ورصد النجوم ووضع أسس علم الفلك والرياضيات واخترع مقياس القدم والنظام العشري، والفنون والنقود والبريد والزجاج، ونسيج الكتان، ورفع منزلة المرأة، وعاقب من يلوث البيئة بالموت بين فكوك التماسيح والحرمان من الانتقال للعالم الآخر، كان هذا الشعب المتحضر يحمل الأحجار لقبور فراعنة افترسهم جنون العظمة والرعب

&nbsp;مصر الجديدة؛كانت فعلًا جديدة في كل شيء - الصورة من سلسلة ذاكرة المدينة؛الجهاز القومي للتنسيق الحضاري ؛وزارة الثقافة

 مصر الجديدة؛كانت فعلًا جديدة في كل شيء - الصورة من سلسلة ذاكرة المدينة؛الجهاز القومي للتنسيق الحضاري ؛وزارة الثقافة

من الموت. ثلاثة أو أربعة ملايين رجل كانت تتم تعبئتهم أربعة شهور كل سنة، عندما يتركهم الفيضان بلا عمل كي يجلبوا الأحجار إلى النيل، ثم ينقلونها فوقه إلى مكان فوق طريق معبد خصيصًا حيث يتم تشكيلها أو رفعها إلى أعلى بتقنية ماهرة. ويمكن للمرء بسهولة أن يتصورهم مثل الكائنات الآلية التي تحفل بها أفلام الخيال العلمي.
لكنهم، كما يقول ديورانت في تاريخه للحضارة، لم يكونوا سوى جماعة بشرية نشأت في أرض مساحتها مليون كيلو متر مربع، معظمها صحراء جرداء، ولهذا تجمع أفرادها على شاطئ النهر الذي تعلقت به حياتهم، ومن جانبه علمهم

مشهد من مظاهرات يناير 2011 - تصوير&nbsp;كريم بدر

مشهد من مظاهرات يناير 2011 - تصوير كريم بدر

النظام والطاعة، الفلاحة لا القتال، الكتابة لا الحرب.
هذه هي الحالة التي جعلت من الفرعون إلهًا، ومن التفكير الواقعي مبدأ. فالعالم الذي خلقه أولئك المبدعون العظام بعد الموت، لم يكن إلا مجرد نسخة من عالمنا الواقعي. والاستغلال الذي عانوا منه قرونًا متتابعة لم يدفعهم إلى الثورة إلا في النادر، وأول ثورة كانت في سنة 2181 قبل الميلاد، ضد الأغنياء (وأغلبهم من الكهنة) وألقيت جثثهم بالآلاف في النيل!! وهي الثورة الوحيدة التي قام بها الفلاح المصري خلال خمسين قرنًا. وفي العصر الحديث ثار المصريون وخرجوا إلى الشوارع، خمس مرات

في شرفة البيت الأخير الذي عاش فيه صنع الله إبراهيم سنواته مع السيدة ليلى عويس زوجته، وكتب فيه هذا النص الذي يبدأ من رحلة التنقل الكبيرة بصحبة الأب.

في شرفة البيت الأخير الذي عاش فيه صنع الله إبراهيم سنواته مع السيدة ليلى عويس زوجته، وكتب فيه هذا النص الذي يبدأ من رحلة التنقل الكبيرة بصحبة الأب.

خلال قرن ونصف القرن: مرتان ضد الوجود الفرنسي سنة 1798 و1800، ومرتان ضد الإنجليزي في 1919 و1946، ومرة ضد النظام الملكي في 1952، ولكن الوتيرة تسارعت في العقود الأخيرة وشهدت البلاد هبات عفوية غير منظمة من جماهير ساخطة في 1968، 1975، 1978 وأخيرًا في 1988 عندما ثارت الشرطة الخاصة المكلفة بقمع الثورات! أكثر من مرة تركت المدينة التي نشأت بها وعرفت فيها أقصى درجات الحرية وأضألها شأنًا. أكثر من مرة غادرتها ساخطًا، قانطًا، عازمًا ألا أراها ثانية. ثم لا ألبث أن أجدني قد عدت صاغرًا. وحتى اليوم لم أفهم السر في عجزي عن الاستقرار في مدينة غيرها!!

*هذا هو النص الأصلي الذي كتبه صنع الله إبراهيم عن القاهرة وصدرت ترجمته الإنجليزية مرافقة للصور التي التقطها المصور الفرنسي جان بيير ريبير في كتاب صدر عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة ١٩٩٨.

اقرأ أيضاً

كائنات عائمة على سطح السوق

كائنات عائمة على سطح السوق

حسن حنفي لم يترجم أفلاطون

حسن حنفي لم يترجم أفلاطون

رسالة إلى «سين» في فم المحرقة

رسالة إلى «سين» في فم المحرقة

زيارة الغزالة

زيارة الغزالة

الهدية الأخيرة

الهدية الأخيرة

دامبودزو ماريتشيرا: تحوُّل هاري

دامبودزو ماريتشيرا: تحوُّل هاري