يشتبك معرض "99 قطعة فنية مجانية"مع أسئلة مهمة مثل كيف تشكل الخيال البصري عبر الترجمة والتصور الرسمي، وكيف لعب الفن دورًا في تحول وسط البلد من مكان للحياة والتفاعلات الثقافية لواجهة للاستهلاك التجاري؟!
يندرج مشروع «+99 قطعة فنية مجانية»ضمن انشغالي المتواصل في ممارساتي الفنية بالبحث إثر الروايات التاريخية والمعاصرة على تشكيل التصورات السائدة عن الفن، وبمحاولة تفكيك البنى السلطوية التي تتحكم في إنتاج المعرفة. لطالما شغلني سؤال الكيفية التي يعاد بها تشكيل الخيال الجمعي عبر الترجمة والأرشفة والتمثيل، ومن يملك سلطة سرد التاريخ، ومن يقرر ما يحفظ في الذاكرة وما يستبعد منها. يأتي هذا المشروع امتدادًا لذلك المسار، فصلاً جديدًا في بحثي حول التحولات التي تطال المعرفة في انتقالها من موسوعات قومية إلى أرشيفات رقمية عابرة للحدود،
ومن الذاكرة المادية إلى البيانات الشبكية.
ينطلق المشروع من لحظتين تاريخيتين متباعدتين في الزمن ومتجاورتين في العمق:
الأولى، إنشاء وزارة الثقافة والإرشاد القومي وتولي الدكتور ثروت عكاشة منصب أول وزير لها في أكتوبر 1958، بوصفه أحد الوجوه الثقافية لمشروع الدولة القومية في أعقاب ثورة يوليو 1952، حين سعى الرئيس جمال عبد الناصر إلى بناء دولة حديثة تُعيد تعريف هوية مصر وتضعها في موقع الريادة عربيًّا وأفريقيًا. في هذا السياق، تحوّلت الثقافة إلى أداة مركزية لصياغة المخيال الجمعي: بناء مؤسسات جديدة
(أكاديمية الفنون، دار الأوبرا، المجلس الأعلى للثقافة... وغيرها)، إنقاذ التراث (مشروع معابد النوبة بالتعاون مع اليونسكو)، وصياغة برامج طموحة لإعادة تنظيم المعرفة.
بعد عقدٍ تقريبًا، واصل عكاشة هذا التوجه من خلال «موسوعة تاريخ الفن» (1971–2003)، وهي مشروع موسوعي ضخم امتد لثمانية وعشرين مجلدًا، حمل شعار «العين تسمع والأذن ترى». لم تكن الموسوعة مجرد ترجمة حيادية للسرديات الأوروبية وغيرها، بل إعادة تركيب وانتقاء ضمن رؤية معرفية تهدف إلى تقديم «الفن العالمي» في صيغة نموذجية تُرسّخ تصورًا بعينه عن الذائقة والجمال والإنسان.
هذا «العالمي» لم يكن محايدًا، بل مشكَّلا عبر اختيارات محددة، تُدخل بعض الأعمال إلى الذاكرة الجمعية وتستبعد غيرها، وهو ما يثير سؤالاً عن كيفية إعادة تعريف «العالمي» نفسه في سياقات لاحقة، سواء عبر مشاريع الدولة أو عبر فضاءات أكثر سيولة مثل ذاكرة الإنترنت. فالموسوعة لم تُدخل كل شيء، بل اختارت وحددت ما يُعرض باعتباره جديرًا بالذاكرة الجمعية.
اقتصاديًّا استند المشروع إلى سياسات التخطيط المركزي الشامل والاشتراكية العربية، واجتماعيًّا إلى حلم بصناعة «إنسان جديد» يحمل وعيًا قوميًّا تقدميًا.
من هنا جاءت موسوعات الفن كإحدى أدوات هذا المشروع: نافذة على «الحداثة العالمية»، لكنها نافذة مؤطرة، تُعيد تنظيم المعرفة وفق معايير انتقائية، وتُرسّخ تصورًا محددًا عن الماضي والحاضر والمستقبل.
اللحظة الثانية تتعلق بصعود خطاب «التحسين الطبقي العمراني» الذي تغلغل خلال العقد الأخير. هذا الخطاب يستند إلى آيديولوچيا واضحة هي النيوليبرالية، بوصفها ماكينة عولمية صاخبة تعمل كمفرمة ضخمة تعيد تشكيل الفضاء والذاكرة معًا، وتحول المجال العام إلى منتج منزوع البعد الاجتماعي والسياسي.
يتجلى هذا التحول بوضوح في وسط البلد، الذي مثَّل لعقود القلب الثقافي للقاهرة وفضاءً للحركات الفنية المستقلة. منذ مطلع الألفية، بدأت شركات الاستثمار العقاري في إعادة إنتاج الحي بوصفه «واجهة حضارية» جديدة، من خلال ترميمات انتقائية لمبانٍ بعينها وتحويلها إلى مقاهٍ راقية، جاليريهات تجارية، وفنادق بوتيك. هذه العمليات، التي تُسوق كـ«إحياءٍ للتراث»، كانت في جوهرها إعادة ترتيب طبقي للفضاء؛ تُقصي سكانه الأصليين وتحوله من فضاء للعيش والتجريب الثقافي إلى واجهة استهلاكية محكومة بمنطق السوق.
هنا، يلعب الفن دورًا محوريًّا كوسيط في هذا التحول؛ إذ تُستخدم المعارض والمهرجانات والأنشطة الثقافية لتلميع الصورة الجديدة للمدينة، ويُعاد صياغة الفضاء العام كـ«منصة عرض» دائمة. وفي هذا السياق، يتحول الفن من أداة نقدية إلى وسيلة تجميلية، ومن ممارسة تتحدى البنية السلطوية إلى عنصرٍ داخلها.
بهذا، يتقاطع «تحسين» الفضاء المادي مع «تحسين» الذاكرة والخيال، إذ يُعاد تعريف ما هو جدير بالعرض، ومن يحق له أن يكون مرئيًا في هذا الفضاء. لا يقتصر الأمر على السياسات العمرانية بوصفها أدوات لإعادة تنظيم المجال،
صورة رقمية مُولَّدة لمشهد من مدينة زيورخ، كما وصفته مذيعة المطار أثناء رحلة الفنان البحثية صيف عام 2025.
بل يمتد إلى نظام رمزي لإنتاج المعنى، يُعاد فيه اختبار المعرض كفعل عرض في حد ذاته، وتُمسك المدينة بخيوط المخيلة العامة التي تشكل شروط الرؤية والظهور.
بين هاتين اللحظتين يقف المعرض. يضم أعمال كولاچ مُنجزة من صفحات كتب موسوعات الفن الأوروبي المترجمة على يد عكاشة، تتجاور فيها صور عصر النهضة مع أجسام ثلاثية الأبعاد جرى جمعها من أرشيف الإنترنت تحت رخصة المشاع الإبداعي. هذه الأجسام - الجاهزة للاستخدام في برمجيات التخطيط العمراني والسياسات الحضرية - لا تمتلك تاريخًا ماديًّا، بل تنتمي إلى ذاكرة الإنترنت كأرشيف عائم بلا جذور.
من هنا يشتبك المعرض مع لحظة عكاشة ليس بوصفها انتاجًا ثقافيًا قوميًا وحسب، بل كبنية معينة للصلة بين السلطة والمعرفة: كيف قُدمت أوروبا كمرجع كوني للجمال، وكيف أُعيد تشكيل الخيال البصري المحلي عبر الترجمة والانتقاء والصياغة الرسمية. أعمال الكولاچ في المعرض تظهر مطموسة وناقصة ومشوّهة وغائبة. وكما يشير چاك دريدا، فإن الحضور مشروط دومًا بالغياب: فكل وضوح بصري قرار سياسي، وكل كتابة في تاريخ الفن كتابة بالسلطة بقدر ما هي كتابة بالجمال.
تقف في المعرض منحوتات صغيرة
تمثال صغير الحجم 01، مُركَّب من مجسمات مفتوحة المصدر، ومطبوع بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بخامة PLA، ومطلي يدويًا، 2025.
منتجة عبر الطباعة ثلاثية الأبعاد ككائنات هجينة: ليست بقايا لماضٍ عريق، ولا نماذج لمستقبل متخيَّل، بل شواهد على حاضر يتشكّل من صور وأجسام متداولة بلا سياق، منسوخة بلا ذاكرة. هذه النماذج التي يمنحها فعل الطباعة حضورًا ماديًّا زائفًا تكشف عن شكل جديد من الأرشفة يتجاوز التاريخ الحضاري. إنها لا تُعيدنا إلى جذور، بل تكشف سلطة خوارزمية تنظّم ما يمكن أن يُرى ويُعاد إنتاجه، وتعيد تشكيل الخيال البصري الجمعي من خلال نسخ متكررة لا تعود إلى أي أصل. وكما يذكر ميشيل فوكو، فإن المعرفة والسلطة متلازمتان وتعيد إحداهما انتاج
وتشكيل الأخرى؛ والأرشيف الشبكي لا يعمل هنا كذاكرة بريئة، بل كآلية لإنتاج حاضر بصري خاضع، مؤرشف، ومفرغ من أصوله.
عبر التاريخ، كان حضور الأشياء المادية - سواء كانت منحوتات أو عمارة أو نقوشًا - يتحدد في الغالب باعتبارها آثارًا. والأثر هنا ليس مجرد شكل بصري أو جسم مادي، بل هو شاهد على سياق اجتماعي وثقافي وتاريخي بعينه؛ يحمل في طبقاته الزمنية والبيئية علامات على الجماعة التي أنتجته وعلى لحظتها الحضارية. في المقابل، ما نشهده في الأجسام ثلاثية الأبعاد المستخلصة من الأرشيفات المفتوحة على الإنترنت
تمثال صغير الحجم 02، مُركَّب من مجسمات مفتوحة المصدر، ومطبوع بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بخامة PLA، ومطلي يدويًا، 2025.
هو تحول نوعي: إذ لم تعد هذه الأجسام تُقدَّم باعتبارها آثارًا، بل باعتبارها نماذج (Models). النموذج، بخلاف الأثر، لا يتحدد بانتمائه التاريخي أو الجغرافي، بل بقابليته للتوظيف والاستخدام في بيئات متعددة، بدءًا من برمجيات التخطيط العمراني وصولاً إلى ألعاب الفيديو والدعاية التجارية.
هذا التحول يُعيد تعريف الشئ نفسه. فعملية المسح الرقمي (Scanning) أو النمذجة (Modeling) تنطوي على تجريد مزدوج: أولًا، تجريد من المادية التي تجعل لكل أثر خصوصية مرتبطة بعالمه المادي (ملمس، تآكل، خدوش،
ألوان، محيط بيئي)، وثانيًا، تجريد من السياق التاريخي والاجتماعي الذي نشأ فيه. ما يبقى بعد هذا التجريد هو بنية هندسية صافية: شبكة (Mesh) من النقاط والخطوط والأسطح القابلة لإعادة التوظيف. بهذا المعنى، يتحول الكائن إلى بيانات، لا إلى ذاكرة. فعلى سبيل المثال، تمثال أثري لوجه إنساني عند مسحه ثلاثيًّا قد يفقد كل أثر للخدوش أو التآكل أو بصمة الحجر، ليبقى مجرد شبكة من النقاط والخطوط يمكن استخدامها في لعبة فيديو بقدر ما يمكن إدراجها في تصميم مول تجاري.
رسم يُظهر سلويتًا مركّبًا يجمع بين تمثال فينوس دي ميلو والنموذج ثلاثي الأبعاد المفتوح المصدر المشتق منه، 2025.
على سبيل المثال، يظهر هذا التحول بوضوح في تأمل تمثال فينوس دي ميلو، أحد أشهر التماثيل الكلاسيكية المنحوتة من الرخام في الحضارة اليونانية القديمة، والنموذج الرقمي المأخوذ عنه والمستخدم اليوم في ميادين المدن المعاد تجديدها.فبينما يحتفظ التمثال التاريخي بملمسه، ووزنه، وتاريخه المنحوت في مادته، يظهر النموذج المعاصر بوصفه نسخة مفرغة من ذلك الأصل، مُعاد توليفها هندسيًّا داخل برمجيات التصميم العمراني. في المعرض، يتجاور هذان الشكلان -الأثر والنموذج- كصورتين متناقضتين لحضور الشيء: الأولى تُشير إلى تاريخ متجسّد في المادة،
والثانية إلى حاضرٍ مفرغٍ من جذوره، قابل للتكرار بلا نهاية.
لكن هذا التحول لا يحدث في فراغ. إن القابلية العالية لإعادة الاستخدام التي يتميز بها النموذج الرقمي تكشف عن منطقه الأعمق: فهو مُنتَج مُعد للتدوير والاستهلاك، قابل لأن يدخل في أي نظام إنتاجي بصرف النظر عن أصله. وهنا يمكننا رصد تقاطع مباشر مع منطق الرأسمالية المعرفية، التي قد تُفرغ الأشكال من جذورها وتعيد طرحها كوحدات قابلة للتبادل أو قابلة للاستهلاك. الأثر الذي كان يحافظ على تاريخه وسياقه، يصبح نموذجًا يُستهلك مثل أي سلعة أخرى،
في مشاريع معمارية أو تخطيطية أو إعلانية، أو حتى في ممارسات فنية لا تعترف بأصله.
في هذا التحول، أجد صدى مباشرًا لأطروحة فالتر بنيامين في «العمل الفني في عصر الاستنساخ الميكانيكي»، التي رصد فيها كيف تفقد الأعمال الفنية «هالتها» حين تُنتزع من سياقها الطقوسي والتاريخي بفعل آليات النسخ والتوزيع التقني. غير أن ما نشهده اليوم يتجاوز ما تنبأ به بنيامين: فالاستنساخ الميكانيكي الذي تحدث عنه كان لا يزال يستند إلى أثرٍ مادي أصلي يمكن أن يُستنسخ عنه العمل، بينما الاستنساخ الرقمي يُفرغ الأصل ذاته من معناه،
ليُبقي فقط على صورة هندسية قابلة للتداول اللانهائي. فالنموذج الرقمي لا يهدد الهالة فحسب، بل يهدد فكرة «الأصل» نفسها، محولاً العمل إلى بنية بيانات تتحرك داخل أنظمة خوارزمية تحكمها الرأسمالية المعرفية.
في هذا الاقتصاد الشبكي، تختزل القيمة الجمالية إلى قابلية الاستخدام، ويُعاد تعريف «العمل الفني» بوصفه وحدة قابلة للتبادل أكثر منه أثرًا يحمل تاريخًا أو سياقًا. إن ما كان عند بنيامين عملية فقدان للهالة، أصبح اليوم عملية تفريغ مزدوج: من المادية ومن التاريخ، إذ لا يبقى من الأثر سوى قابلية استهلاكه. بذلك، لا يعود السؤال كما طرحه
بنيامين عن مصير الفن في عصر الاستنساخ الميكانيكي، بل عن مصير الذاكرة ذاتها في عصر النمذجة الرقمية.
على مستوى الذاكرة، ينتج عن ذلك ذاكرة عائمة بلا جذور. فالإنترنت، في صورته كأرشيف مفتوح، يوحي بأنه يحفظ الذاكرة الجماعية للإنسانية. لكن ما يقدمه في حالة هذه الأجسام ليس ذاكرة متجذرة، بل مخزونًا من النماذج مجهولة المصدر، غالبًا بلا أسماء منتجين، وبلا تاريخ محدد. وهكذا نكون أمام ما وصفه بول فيريليو بـ «آثار بلا إقليم» (Traces without Territory): بقايا غير مرتبطة بأرض أو زمن، بل مُعلّقة في فضاء رقمي متكرر، يعيد إنتاج نفسه باستمرار دون أن يعود إلى أصل.
جدارية لمشهد طبيعي مطبوعة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد ومطلية يدويًا. 20 ، 2025.
بهذا المعنى، يمكن النظر أيضًا إلى النماذج الرقمية بوصفها تجسيدًا معاصرًا لما وصفه جيل دولوز وفيليكس جواتاري بـ«الأجسام بلا أعضاء»؛ كيانات تُنزع عنها ماديتها ووظائفها الأصلية، فلا تعود تنتمي إلى سياق بعينه، بل تحيا داخل شبكة من الإمكانات القابلة للتشغيل والاستهلاك. غير أن ما كان عند دولوز وجواتاري تصورًا للتحرر من البنية السلطوية، تحوّل في منطق الرأسمالية المعرفية إلى أداة لإدامتها، إذ لم تعد الرأسمالية تكتفي بامتصاص المعنى، بل تتغذّى على غيابه، مُنتجةً رغبة لانهائية في التكرار والتدوير. هكذا يغدو «الجسم بلا أعضاء» في صورته الرقمية كائنًا مفرغًا من تاريخه،
ممتلئًا فقط بقابليته للاستخدام، لا يتحرر من النظام بل يعمل في صلبه، بوصفه النموذج الأمثل للشيء الذي يُستهلك دون أن يمتلك أصلاً.
المفارقة هنا أن هذه النماذج تنبثق من رخص مفتوحة مثل رخص المشاع الإبداعي، التي صممت في الأصل لتوسيع نطاق المعرفة الحرة وتمكين مشاركة أوسع للخبرات الفردية والجماعية. غير أن منطق السوق يعيد توجيه هذه المواد سريعًا نحو أغراض رأسمالية خالصة: من التعلم المشترك إلى الاستهلاك التجاري. ومن ثم، فإن النموذج الرقمي بلا تاريخ يصبح تجسيدًا لمفارقة معاصرة: أداة للمعرفة الحرة من جهة، وموارد خام للشركات
والأسواق من جهة أخرى.
يمكن أن نجد توازيًا جزئيًّا مع ظاهرة الـ «Polygon Art» أو ما يُعرف بفن الـ« Low-Poly»، الذي يقوم على إعادة بناء الواقع عبر تفكيكه إلى وحدات هندسية مسطحة. غير أن الفارق الجوهري أن الـ«Low-Poly» يُقدَّم باعتباره جمالية واعية ومُعلنة، بينما تُقدَّم النماذج الشبكية في الأرشيفات المفتوحة باعتبارها مواد محايدة، رغم أنها في العمق تحمل آيديولوچيا «النزع من الجذور»: أي تحويل الذاكرة الثقافية إلى بيانات هندسية، سطح بلا تاريخ، قابل للتداول وفق منطق السوق. لذا، يمكن القول إن الأجسام ثلاثية الأبعاد في الأرشيف الشبكي
ليست مجرد مواد بصرية أو أدوات إنتاجية، بل هي انعكاس لتحوّل أوسع في ثنائية السلطة والمعرفة: من الأثر المرتبط بالذاكرة إلى النموذج الخاضع للرأسمالية. إنها ليست بقايا من الماضي ولا علامات على المستقبل، بل منتجات عائمة للحاضر: حاضر يُعاد صياغته باستمرار وفق منطق الاستهلاك والتخطيط، حيث تُفرغ الذاكرة من ثقلها ويُعاد تدويرها كبيانات هندسية قابلة للاستعمال.
تبلور هذا المشروع في إصداره الأول «+99 قطعة فنية مجانية» عبر تجربتي مع مؤسسة التعبير الرقمي العربي (أضِف)، حيث حصلت على منحة «رابطة» التي أتاحت لي مساحة
إنتاجية وفكرية. خلال هذه الفترة، لفت نظري كيف تعرّف المؤسسة نفسها عبر موقعها الرسمي باعتبارها تعمل وفق رخص المشاع الإبداعي، وهو ما فتح أمامي سؤالاً أوسع حول معنى أن تُطرح المعرفة والفن تحت هذه الرخص المفتوحة، وكيف ينتهي الأمر غالبًا بأن تُستثمر نفس المواد لاحقًا في سياقات رأسمالية بحتة.
زيارتي ومعايشتي لمعمل أضِف للتصنيع الرقمي - بما يضمه من ماكينات طباعة ثلاثية الأبعاد وماكينات «CNC» للنحت وتقطيع الأخشاب - شكّلت تجربة محورية. قضيت هناك عامًا كاملًا أتعلم وأنتج وأفكر، ساءلت مشروعي عن المفارقة الأوسع:
قطعة كولاج تجمع بين صفحات من موسوعة تاريخ الفن لثروت عكاشة مع نماذج ثلاثية الأبعاد مفتوحة المصدر، منفذة بتقنية الطباعة النافثة للحبر على ورق، 2025.
كيف يمكن للأعمال الفنية التي تُرفع على الإنترنت برخص المشاع الإبداعي أن تنشأ من تراكم خبرات فردية وجماعية، ثم تنتهي لاحقًا داخل دورة إنتاجية رأسمالية. ما كان يشغلني هو أن هذه الأعمال، التي غالبًا ما تأتي بلا أسماء أصحابها، تتحول من خبرات تراكمية مشتركة إلى منتجات بلا جذور تُستغل في مجالات تجارية وتخطيطية عمرانية.
من هذه الخلفية، بدأ المشروع يتشكّل في نسخته الأولى: الكولاچ المأخوذ من موسوعات الفن المترجم في زمن عكاشة، في مواجهة الأجسام المطبوعة ثلاثيًّا من أرشيف الإنترنت المفتوح. تقاطع الماضي المؤطَّر برؤية قومية مع حاضرٍ يُعاد إنتاجه داخل مختبرات وأرشيفات
رقمية، ليكشف المشروع عن مفارقة الانتقال من المعرفة الحرة إلى الممارسة الرأسمالية، ومن الثقافة كحلم جماعي إلى السوق كآلة عابرة للحدود.
بهذا المعنى، لم تنتقل السلطة من «الموسوعة» إلى «الأرشيف» فحسب، بل من «المعرفة القومية» إلى «الممارسة الرأسمالية». فبينما كان مشروع عكاشة جزءًا من طموح دولة قومية، تحوّل الأرشيف الشبكي في الحاضر إلى مورد لرأس المال العابر للحدود. لم يعد يُستدعى بوصفه أداة للمعرفة الحرة، بل كخزان بلا جذور يُعاد ضخه في مشاريع تحسين طبقي عمراني تفرغ الفضاء من قيمته الاجتماعية والسياسية، وتعيد صياغته كنسخ
متكررة داخل ماكينة السوق. «+99 قطعة فنية مجانية» في جوهره مشروع فني يسائل معنى أن يعاد تشكيل وعينا البصري والحيزي عبر خطابين متباعدين: خطاب قومي حلم يومًا أن يربط مصر بالعالم عبر الثقافة، وخطاب عولمي يربطها بالعالم عبر شبكات معلوماتية تخضع لرأس المال والآلة. وبينهما تظهر تلك الأعمال تحمل أسئلة مفتوحة: أي تاريخ للفن تحمل؟ أي حضارة تمثل؟ وأي إنسان يُعاد إنتاجه وسط هذا الضوء المفرط وهذه الماكينات العمياء؟
هكذا تتجسد أعمال المعرض كأرشيف بصري متنازع عليه، عند هذه العتبة لا يعود السؤال عن «كيفية الرؤية»، بل يتجسد في ممارسات الترجمة، الاقتطاع،
والطباعة، إذ يتبدى العالم أثرًا منزوع الجذور، مُعلق بين الأرشفة والاستهلاك.
....
*تحريرالبيان: محمد الدخاخني