طفولة صيدا: حروب خياطة الحي

"أيها السائر.. ولا شيء بعد"!

طفولة صيدا: حروب خياطة الحي

  • أسبوعي
  • نص
  • كتابة

لماذا قد تترك خياطة الحي كل هذه الذكريات الدافئة والمزدحمة في النفس.. كأنها لا تخيط ثيابًا من قماش وخيوط بل مشاهد تظل في الذاكرة عمرًا طويلاً!

ترتحل بهية. إلى أين؟
لا تبتعد كثيرًا عن ساحة الحي في صيدا. خطواتها المتنقلة بخفة، تولد في مدخل بناية، وتموت في مدخل البناية المواجهة. الأرض، في ذلك الصباح مكلّلة بسهاد الخائفين، وبدماء الحرب. الليلة الماضية، خلَّفت الكثير من الردم على الشرفات. الزجاج منثور في أفنية السلالم. وميض نيران خفيف لا يزال يلمع على تراب الحدائق الخلفية للبيوت الأرضية. لم يعد ينبت هناك غير عشب عشوائي شوكي جائع على تراب جدب مهمل، منذ أن تدهورت الأيام والبلاد وانتهبت بالجنون والانحدار. لذلك، فالنيران لا تجد ما تأكله وتستوي رمادًا بسرعة. 

لكنها، في ذلك الصباح، كانت لم تزل، تحفزها طاقة العناد، مشتعلة في قلب “خياطة البناية”. هي أيضًا خياطة البنايات المجاورة، بل الحي بأكمله. صاحبة فضل في كسوة غالبية أطفاله، في مواسم الأعياد، التي باتت نادرة تحت وطأة القصف وغمائم البارود وسدائم الغبار.
انحدر موسم “تفصيل الملابس” إلى موسم “تفصيل” أغطية لملاحف ووسادات ومساند تفترش أرضية القبو، تحت البناية، حيث أمواج العفن والرطوبة يتخبط فيها السكان، حين يشتد الخوف وترتجف القلوب فيهرعون بالسلالم المكشوفة لـ“الأمان”.

لم يعد ينبت هناك غير عشب عشوائي شوكي جائع على تراب جدب مهمل..

الظلام. خطوات بهية بين البنايتين، في صباحات مماثلة، هو، إذن، ارتحال جريء لسيدة جريئة بكل ما تعنيه الكلمة: لنبدأ بعينيها الخضراوين الواسعتين، المهيّأتين لاستيعاب خيوط الشموع وقناديل الكاز الضوئية الباهتة في ليالي انقطاع الأمل والكهرباء.
تنعكس الأنوار الخافتة فيهما، فتتمكن الخياطة من سكب مزيد من ساعات العمل على ماكينتها “السنجر” التي لم تتوقف ولا لحظة من أن تبرق بورنيش ساطع، على النقيض مما يحيط بها وبصاحبتها، من مشاعر وأوقات وتوقعات.. داكنة!
ولنصل إلى طبقة صوتها العالية، التي

اقرأ أيضاً

محمود عزمي: رجل العالم في مصر

محمود عزمي: رجل العالم في مصر

معارك النقيبة أم كلثوم

معارك النقيبة أم كلثوم

كيف حكت أمينة رشيد عن حياتها

كيف حكت أمينة رشيد عن حياتها

كمال رمزي إن حكى

كمال رمزي إن حكى

فاروق الفيشاوي: عاشق يتجول في مدينة

فاروق الفيشاوي: عاشق يتجول في مدينة

كيف تكتب عن فريد شوقي دون مبالغة؟

كيف تكتب عن فريد شوقي دون مبالغة؟