هل للحيوانات علاقة بالسياسة؟ نعم، مؤلف هذا الكتاب يقول: لا يمكن لأحد أن يقول إن الحيوانات كائنات سياسية سوى رجل مجنون، وأنا هذا الرجل!
مقدمة المترجم “النمل المجنون يغزو سبع قرى هندية ويتسبب بأضرار كبيرة فيها”. كان هذا عنوان تقرير نشره موقع بي بي سي باللغة العربية في التاسع عشر من أغسطس هذا العام (2022) يتحدث عن معاناة مئات الفلاحين ورعاة الماشية في ولاية تاميل نادو، جنوبي الهند، بسبب مهاجمة النمل المجنون لماشيتهم ومحاصيلهم الزراعية، ما دفع كثير من القرويين إلى مغادرة قراهم. ونفهم منه أن النمل، واسمه العلمي “أنوبلوليبيس جراسيليبيس”، يُصنّف ضمن أخطر الأنواع الغازية، إذ أدّى سابقا إلى قتل ملايين السلطعونات الحمراء حين هاجم جزيرة الكريسماس الأسترالية، بعدما سبب لها عمى وإعاقة.
النمل الغازي شديد الخطورة، حتى إن أحد العلماء يصف جحافله في التقرير بأنها “حيوانات انتهازية. تأكل أي شيء وكل شيء”. وينتهي التقرير أخيرًا بإشارة إلى احتمال زيادة شهية النمل بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري. لا شيء في هذا التقرير يشير، ولو إشارة صغيرة، إلى الاستحالة البنيوية التي تسم حياة الفلاحة والرعي في ظل سياسات الليبرالية الجديدة التي أضحت تحكم العالم اليوم. فالتقرير يرسم صورة شبه حالمة لإنسان أصلي، يعيش بعيدًا عن شروط الحداثة، يقف أعزل ضد الطبيعة الغازية، ولا معين له سوى العلم والعقلانية في مواجهة النمل الذي أصبح يضيق عليه رزقه.
مشكلة القرويين وفقًا للتقرير هي مشكلة تقنية، وليست مشكلة سياسية واقتصادية واجتماعية أيضًا. ولن يكون من الصعب على القارئ أن يلمح صورتين نمطيتين يعيد التقرير إنتاجهما، الأولى هي صورة الطبيعة الغامضة المرعبة، والتي تعيش فيها كائنات انتهازية فقدت عقلها، وأصبحت تعيث في الأرض فسادا.
والثانية هي صورة الطبيعة النقية، والتي يعيش فيها قرويون وفلاحون ورعاة أبرياء. كتاب “الخنزير والزمن” للفيلسوف فهيم أمير، والذي نقدم هنا فصلاً منه، يجادل ضد تلك الصور النمطية والطرق “الإنسانية” في التفكير في الطبيعة.
فالطبيعة كما يسعى أمير لتقديمها ليست ضحية فحسب، ولا جانية فحسب، بل هي تاريخية بالأساس. تسكنها كائنات تعيش في الحداثة، وتقاوم شروطها المجحفة من داخلها. وفي كثير من الأحيان لا تكفّ هذه الكائنات عن المقاومة حتى بعد موتها. لا توجد طبيعة نقية يمكن العودة إليها عند أمير، وإنما هناك إصرار على فهم الأنماط العمرانية-الإيكولوجية الحالية، التي نعيش فيها جميعا بعد أن فقدنا براءتنا للأبد، بوصفها فرصة لظهور أشكال جديدة من التقاطعات بين نضالات البشر ونضالات الحيوانات من أجل البقاء على قيد الحياة.
والجنون في هذه التقاطعات ليس وضعًا صحيًّا، ولا مشكلة تقنية، بل هو أحد تمظهرات السياسة. يقول أمير في المقدمة التي كتبها للترجمة الإنجليزية لكتابه “لا يمكن لأحد أن يقول إن الحيوانات كائنات سياسية سوى رجل مجنون، وأنا هذا الرجل”.
لكن ينبغي فهم السياسة بشكل محدد في هذا السياق. فالسياسة التي يتكلم عنها أمير هي مقاومة الكائن لما هو مفروض عليه، أي مقاومته للانصياع إلى السلطة العقلانية التي تنظم مناحي الحياة المختلفة. هذا الفهم عن السياسة يختلف عن المفهوم السياسة القائمة على الاجتماعات، التي يعود جذرها إلى
polis اليونانية التي كانت حكرا على الرجال، ولا يشارك فيها النساء ولا العبيد ولا أي كائنات أخرى. الخنزير كائن سياسي لأنه يقاوم بعناد الماكينةَ التي تسلخه، حتى وهو ميت، كما سنرى في هذا الفصل المترجم. والحمام الذي يسكن المدن كائن سياسي يعبث بالفضاءات العمرانية فيها، ويعيد رسمها. والنمل الأبيض هو كائن أناركي لأنه استعمر المستعمِر، فهو استولى على أرض مدينة هامبورج في عشرينيات القرن الماضي عائدا مع المستعمِر في سفنه القادمة من أفريقيا. يتحاور كتاب “الخنزير والزمن” بعمق مع التقاليد الماركسية، خصوصًا مدرسة فرانكفورت التي تشكل إحدى ذراها.
لكنه يقترح أيضًا التعامل مع التصنيفات الفكرية بحذر وانتباه، لا سيما والكتاب يتناول مملكة الحيوان، والتي عانت كثيرا من وطأة التصنيفات الجامدة.
في الفصل الأول من الكتاب يورد أمير رسالة دالّة من فريدريك إنجلز موجهة إلى الفيلسوف والاقتصادي كونراد شميدت عام 1859، وفيها يستشعر إنجلز ضرورة ملحة للاعتذار من حيوان خلد الماء، وهو حيوان ثديي، لا يلد بل يبيض. والسبب إدراك إنجلز أنه ارتبك الخطأ نفسه الذي يرتكبه علم الأحياء في تصنيف الحيوانات. فالكائنات الحية تفيض عن التصنيفات التي يريد علماء الأحياء حبسها فيها.
حيوان خلد الماء مثلا يشكل تناقضا للتصنيفات الحيوية، وذلك لأنه ثديي ويبيض معًا. مثال آخر يورده إنجلز في رسالته هو السمك. فالسمك مفهوم يشمل الحياة تحت الماء والتنفس عبر الخياشيم، غير أن هناك أنواع من السمك البرمائي التي بإمكانها تنفس الهواء مباشرة. ويحذر إنجلز مخاطبه من أن يقع في خطأ فهم المفاهيم بوصفها قوانين جامدة، لاسيما مفهوم القيمة الماركسي، وإنما فهمها بالأحرى على أنها مقاربات للواقع، ويقول “في عام 1848رأيتُ بيض خلد الماء في مانشستر، وسخرت منه بسبب التعصب الأعمى والغرور، كأن لسان حالي يقول
ها قد أثبتنا أن الثدييات بإمكانها أيضًا أن تبيض، وهذا هو الدليل!
لا تكرر خطأي نفسه عند تعاملك مع مفهوم القيمة، وهو الخطأ الذي يتعين عليّ أن أطلب الاعتذار عنه بأثر رجعي من خلد الماء”. غرور إنجلز منعه من إدراك التناقض الذي يمثله خلد الماء، وجعله يسرع في إعادة دمجه في تصنيف الثدييات، مع تعديل بسيط وهو أنها أصبح بإمكانها أن تبيض أيضًا الآن. ويعلق أمير قائلاً إن على الكثير من الماركسيين أن يعتذروا من الحيوانات اليوم، بسبب إقصائهم لها من التاريخ، وعدم التعامل مع التصنيفات الحيوية بوصفها تصنيفات سياسية.
ويقول: “طموح هذا الكتاب هو إظهار أن هناك الكثير من الحيوانات الشبيهة بخلد الماء، أكثر بكثير مما يظنه المرء. وجميعها نشطة سياسيا، لأنها على سبيل المثال تقاوم الخضوع لعملية تحويلها إلى قيمة”. ولأن الحيوانات كائنات سياسية كما يرى أمير، فإن كتاب “الخنزير والزمن” يرفض رفضًا تامًا إسباغ أي مظلومية عليها، حتى في أحلك الظروف. ويحشد أمثلة كثيرة على ذلك، فهناك على سبيل المثال مناطق إيكولوجية جديدة تنشأ في أراضٍ مجدبة ومسممة حول القواعد العسكرية في أمريكا الشمالية، لتصبح فجأة محيطًا حيويًّا متنوع الفصائل. وهناك طيور الزرزور في المدن الأوروبية
الكبرى، التي بدلاً من أن تتشوه أو تموت بفعل آثار المخدرات والهرمونات الموجودة في مياه صرف المدن، فإنها أصبحت تغني بإيقاع أسرع ولمدد أطول. وهناك الناموس الذي كسر حواجز الفصل العنصري التي أقامها الأطباء المستعمرون في إفريقيا لوقاية أنفسهم من المرض الذي يصيب “الأطفال الأفارقة”. جميعها أمثلة على حيوانات فاعلة ومنفعلة بوسطها المحيط. وبالطبع لا يعني ذلك أن الحيوانات سعيدة وهانئة في تلك الأوضاع المزرية التي تعيش فيها، بل يعني أن أمير يبحث عن طريقة أخرى للتفكير في الحيوانات تتجاوز إطار الضحية والجاني، وهو إطار يصفه أمير
بأنه إطار أخلاقي يتبناه اليمين واليسار على حد سواء. فالبرجوازي يبحث عن نقاء متخيل في الطبيعة، والناشط في مجال حقوق الحيوانات يدافع عن حيوان مظلوم. أما أمير فيبحث عن طريقة أخرى تفكر في الحيوانات بوصفها ذوات سياسية، وجزء لا يتجزأ من مجتمع طبقي. ويقول “إذا كان ماركس قد قلب الجدل الهيجلي رأسًا على عقب، كما يقال عادة، فإن ذلك لا يكفي، إذ يجب قلب الجدل رأسًا على حافر ورأسًا على خُفّ”.
صدر كتاب الخنزير والزمن قبل جائحة كورونا، ومع ذلك يمكن قراءة تحليل دقيق للوباء الحالي فيه. فعندما تطرق
الكتاب لوباء أنفلونزا الخنازير أوضح أن الخوف من المرض أدّى إلى أن تُملي الخوارزميات شروطَ الحياة الاجتماعية والوظيفية على العاملين في صناعة لحم الخنزير. وهو تقريبًا ما يحدث اليوم مع وباء كوفيد 19 مع الجميع، إذ أصبحت الخوارزميات والتطبيقات تنظم شروط الحياة بشكل عام، دون الالتفات إلى السياق الأوسع الذي أنتج الوباء. فمعروف أن مرض الكورونا يسببه فيروس تعوله فصيلة حيوانية، وانتقل للإنسان لأول مرة في إحدى أسواق ووهان للحيوانات الحية في الصين عبر حيوان وسيط. وهي نشأة شبيهة بنشأة معظم أوبئة القرن الحادي والعشرين التي انتقلت وتطورت من فيروسات
مستوطنة في الحيوانات إلى الإنسان عبر عائل وسيط، في أسواق تحكمها طرق تخزين ونقل وحشية. هذا العائل هو الجمال في حالة متلازمة الشرق الأوسط التنفسية أو ميرس، وقط الزباد Civet في حالة فيروس سارس، والأوز البري في حالة انفلونزا الطيور، والخنزير في حالة انفلونزا الخنازير. كل هذه الأوبئة حوربت بمنطق إدارة الأزمة، وليس عن طريق محاولة فهم ما تعبر عنه.
في هذا الفصل المترجم، وعنوانه خنازير متمردة ومولد المصنع، يناقش أمير بعض آراء هوركهايمر وأدورنو المتعلقة بالطبيعة والحيوان، وينتقد السوداوية الثقافية التي تسم المفكرين، كما ينتقد وضعهم الحيوان في خانة المظلومية.
ويعود أمير إلى تاريخ الميكنة الصناعية، وتحديدًا تاريخ صناعة اللحوم في شيكاجو في القرن التاسع عشر، حيث كانت أكبر مركز لهذه الصناعة في العالم. ويبين من خلال استعراضه لهذا التاريخ الشيق الدور الذي لعبه الخنزير في تشكيل هذه الصناعة عبر مقاومته لها. إذ كان جسم الخنزير يستعصي دائمًا على دمجه في مراحل الإنتاج المميكنة. ويرصد أول ظهور لخط الإنتاج، أو خط التجميع، المعروف اليوم في المصانع. وكان ذلك في مسالخ سنسيناتي وشيكاجو، لكنه كان آنذاك خط تفكيك وليس تجميع، تنتظم على مساره عملية تجزئة جثة الخنزير المذبوح.
وألهم هذا الخط هنري فورد عندما رآه فكرة خط التجميع. فأدخل الفكرة نفسها في مصانعه، لكن هذه المرة على شكل خط إنتاج.
وهكذا أصبحت هناك جثة مسلوخة تعمل في قلب أي سلعة مجمعة. ينتقل أمير في هذا الفصل من خط الإنتاج في المصنع إلى حركة العمالية أو الأوبرايسمية، وهي حركة احتجاجية عمالية، مناهضة للأشكال والتنظيمات الشيوعية التقليدية مثل النقابات والأحزاب. بدأت هذه الحركة في إيطاليا في ستينيات القرن الماضي، ومن خلالها ينتقد أمير تمحور الماركسية حول الإنسان بوصفه الذات السياسية الوحيدة للتاريخ.
لنصل إلى محور جوهري في تفكيره، وهو ضرورة إزاحة الإنسان من مركز التاريخ، من أجل فهم المجال السياسي والتاريخي بوصفه مجالاً تعمل فيه قوى متعددة، بشرية وغير بشرية. النمل المجنون يظهر أيضًا في نهاية هذا الفصل. فالكاتب يتطرق إلى مشروع علمي يسمى “قاعدة المجال الحيوي 2”، وهي قاعدة مصممة في أريزونا بوصفها نظام مغلق يصلح كنموذج يحاكي شروط الحياة على الكواكب الأخرى. كل شيء كان مراقبًا وخاضعًا للسيطرة في هذه القاعدة، التي تكلف إنشاؤها ملايين الدولارات. ورغم ذلك نجح ما يسمى بالنمل المجنون في التسلل إليها وبناء مستعمرات
كبيرة فيها. لكن أمير لا يرى في هذا النمل كائنات أسطورية تحمل أسرارًا ميتافيزقية، ولا يرى فيها خيرًا مطلقًا أو شرًا مطلقًا، وإنما يقرأ في ظهورها دلالة على قوة الطبيعة المهولة على المقاومة. عندما تظهر الطبيعة من حيث لا يحتسب الإنسان، كانقطاع أو مرض أو تهديد، إنما تؤكد بظهورها على أن جزء منها لا يزال قادر على مقاومة إدارته تقنيا، بعد أن ظن الإنسان أنه فرغ منها وأتم سيطرته عليها. يكتب أمير في نهاية الفصل: “الفكرة هنا هي ألا نفهم الحيوانات بوصفها الخاسر الأكبر في مجال الثقافة والرأسمالية، وإنما بوصفها فاعلة وتبدي مقاومة في صراع غير بريء. إن التجميعة المكونة من تقنيات
التوسيم والتلاعب، وعمارة التحكم والحبس، والهرمونات ومكملات الكالسيوم، والأقفاص والبوابات، والشباك والطعوم، هذه التجميعة ليست مجرد نَصْبَا يُذكر بشقائها، وإنما برهانا على قوتها المهولة”.
في هذا المدخل الشخصي الذي يمكن قراءته هنا، الذي فضلت فصله عن المقدمة التي بين أيدينا لأسباب تتعلق بالحجم، أتحدث عن علاقتي المهنية بجنس الخبر الصحفي، لا سيما أخبار الحيوانات، وبدايات اهتمامًاتي وأسئلتي حول الحيوان واللغة، التي قادتني للتعرف إلى أفكار فهيم أمير وقراءة كتابه، ومن ثم تحمسي لترجمة فصل
فصل منه. هذا الاهتمام تمخض عنه كتاب جديد عملت عليه في السنوات الماضية، وهو قيد النشر حاليًا. وتطورت فكرة ترجمة هذا الفصل من خلال حوار مع الصديق وائل عشري. فله جزيل الشكر على أفكاره ودعمه المستمر، وعلى مراجعته المتأنية للترجمة، وملاحظاته الدقيقة التي أنقذتها من الكثير من الهفوات.
المؤلف
فهيم أمير فيلسوف من أصول أفغانية، يعيش في فيينا. درس في أقسام الدراسات الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعات أوروبية وأمريكية شمالية وجنوبية. ويهتم في أبحاثه بالتقاطعات بين الطبيعة والثقافة والعمران..
والتقاطعات بين تاريخ الكولونيالية والحداثة. حرر كتاب حداثة عابرة للثقافة Transcultural Modernisms (ستيرنبيرج بريس، 2013)، وكتب حاشية الترجمة الألمانية لكتاب مانفستو الأجناس المترافقة Companion Species Manifesto للفيلسوفة دونا هاراوي (منشورات ميرف، 2016). تُرجم كتابه الخنزير والزمن (ناوتاليس، 2018) إلى الإنجليزية، وصدر بعنوان الوجود والخنزير – نهاية الطبيعة (كما عرفناها) Being and Swine – The End of Nature (As We Knew It) (مطبوعات بيتوين ذا لاينز – تورنتو، 2020)، وحصل الكتاب على العديد من الجوائز، وتُرجم إلى لغات أخرى.
الفصل الثاني: خنازير متمردة ومولد المصنع
“يظل الخنزير يقاوم الماكينة حتى وهو ميت”. سيجفريد جيديون هناك صورة فكرية يمكن العثور عليها في أحد نصوص كتاب ماكس هوركهايمر المُعنون “ملاحظات – 1950 حتى 1969 وَأفول – ملاحظات من ألمانيا”، ويحمل النص الذي ترد فيه هذه الصورة عنوانا بسيطا هو “ناطحة السحاب”. يبلور هوركهايمر في هذا النص القصير فهمه للمجتمع على شكل صورة معمارية، هي صورة كاتدرائية الرأسمالية المسماة ناطحة السحاب. في قمة الناطحة يضع هوركهايمر جماعات المديرين والمُلّاك المتناحرة..
تحتهم تقطن النخب السياسية والعسكرية والأكاديمية، يتبعهم الحرفيون وطبقة البروليتاريا والمرضى. يلي ذلك البؤس الكولونيالي المهيمن، الذي يفوق أي محاولة لفهمه. حتى نصل إلى قبو ناطحة السحاب “هناك، أسفل الأماكن التي يفنى فيها الملايين من كادحي الأرض، يمكن تخيل الجحيم الذي تسكنه الحيوانات في المجتمع الإنساني، وألمها الذي لا يمكن وصفه، ولا يمكن تصوره. عرق الحيوانات، ودماؤها، ويأسها. […] قبو هذا المبنى هو مسلخ، وقمته كاتدرائية لكن نوافذ طوابقه العليا تتيح حقاً منظرا بديعا للسماء المرصعة بالنجوم”.
اتخاذ ناطحة السحاب نموذجا ليس مجرد مجاز بريء بالتأكيد، وإنما شكّل موضوعًا متنازعًا عليه في سجالات العمارة والتخطيط العمراني، لا سيما في ألمانيا.
هذه الصورة نابعة من تقاليد الفلسفة المادية والأفكار الماركسية والتي تقول بوجود بنية تحتية اقتصادية وبنية فوقية اجتماعية، ولا تعني بأي حال من الأحوال أن وضع الكثير من الحيوانات في عالم البشر هو مجرد وضع شديد البشاعة، وإنما تعني أن طريقة التعامل هذه مع الحيوان هي تدريب فردي وتاريخي-اجتماعي على ممارسة الهيمنة.
يكتب تيودور فيسينجروند أدورنو، رفيق درب هوركهايمر الفكري لسنوات طويلة، في كتابه الفلسفي الأساسي “الجدل السلبي”، والمنشور عام 1966، ما يلي “مَن يتمكن مِن التفكّر في ما قد تحمله معها كلمتي “لودرباخ” Luderbach و ”شفاينشتيجه” Schweinstiege، سيكون بالتأكيد أقرب إلى المعرفة المطلقة مما هو عليه إذا قرأ الفصل الذي يحمل العنوان نفسه عند هيجل، والذي يعد القارئ بها، ثم يفشل في ذلك فشلا ذريعا. ما يجب دحضه نظريا هو دمج الموت الفيزيقي في الثقافة، لكن ذلك ليس حبّاً في كائن أنطولوجي نقي يدعى الموت، وإنما من
أجل ما تُعبّر عنه نتانة الجيف، ومن أجل ما يَخدَع به تجليها على شكل جثة. هناك مالك فندق يدعى آدم ضرب بهراوة رؤوسَ الفئران التي تخرج من جحورها في الفناء، فقتلها أمام عيني طفل يحبّه، وعلى منوال صورته خلق الطفل صورة الإنسان الأول. أن يُنسى ذلك، وأن يتوقف المرء عن فهم ما كان يشعر به قبل ظهور عربة قتل الكلاب، ذلكم هو انتصار الثقافة وإخفاقها في آن”. من يعرف المعنى الحقيقي المرتبط بأسماء الأماكن الجغرافية “لودرباخ” و”شفاينشتيجه” يفهم أكثر مما يمكنه فهمه من الاشتباك مع معرفة هيجل المطلقة.
صورة بانورامية من عام 1873 لسلخ الخنازير وإعدادها في مدينة سينسيناتي
ما الذي تعنيه هذه الصياغة التي تنطوي على قدر لا بأس به من الإلغاز، حتى وفقا لمعايير كتابات أدورنو؟ المكانان المذكوران يقعان في مدينة فرانكفورت التي كان يعيش فيها أدورنو. “لودرباخ” هو جدول جنوبي ينبع من نهر الماينز، بجوار “شفاينشتيجه”، وهو وصف قديم لمنطقة مسيجة بالقرب من مطار راين-ماين في فرانكفورت الحالية. قبل ولادة أدورنو بزمن طويل كانت الخنازير تُدفع كل عام إلى منطقة “شفاينشتيجه”، لتُشكّل الأخيرة نوعا من الزريبة أو المأوى لها. وقبل الموعد السنوي لدفعها إلى تلك المنطقة كانت الخنازير تعيش طليقة في الغابة.
ومن يُحبس منها داخل سياج هو عدد محدود فقط، وبعدها يُذبح. إن تسييج الخنازير وحبسها في “زنازين البنايات الاجتماعية” من خلال إجراءات ترشيد قطاع المواشي المتنامية كان قد وصل بالفعل إلى مرحلة متقدمة في فترة شباب أدورنو. ولأن تطور عملية الترشيد الحديث مرتبطة عند أدورنو بإخضاع الطبيعة الداخلية والخارجية، فقد بدا له أن الاختفاء المكاني للخنازير، والتي كانت تمرح بحرية فيما سبق في الغابة، هو يقين حسي أكثر تأثيرا من تهجّي هيجل للمعرفة المطلقة. صورة اغتراب البالغين، على النقيض من التعاطف الطفولي مع الفئران والكلاب، هي صورة
نجد فيها فكرة سبق وعبّر عنها أدورنو وهوركهايمر في مواضع عديدة، ومفادها أن مسار تشكُّل الذاتية البورجوازية أوجب على البشر أن يتصلّبوا أمام الإفراط في العاطفة “الأنثوية” والمحاكاة “الطفولية” “لقد تَحتَّم على البشرية أن تؤذي نفسها إيذاءً شنيعا، حتى تخلق الذات المُذكّرة للبشر، هذه الذات المنطبقة على نفسها، والموجّهة نحو تحقيق غاياتها. ويتكرر شيء من ذلك الإيذاء مع كل طفولة”.
الإنسان المجبول على هذا النحو ينفر من الطبيعة “المفرطة”، بالرغم من أنه كائن مادي وفاني. لذلك تظلّ ذكرى ولادته “الطبيعية”، التي يشترك فيها مع الحيوان، هي إهانة بنيوية للذات
النرجسية كذلك تُشبه الجيف البشرية إلى حد بعيد الجيف الحيوانية، مما يفسر الطقوس الكثيرة التي تقوم بتحويل الجسد البشري الميت إلى جثة للدفن. “نتانة الجيف” مقززة لإنها تُذكّر بتلك الطبيعة الجسدية المشتركة. في موضع آخر يحيل أدورنو إلى فالتر بنيامين، والذي دوّن ملاحظة قالها برتولد بريخت، وهي: “الثقافة قصر مبني بخراء الكلاب”.
ينبع التقزز من غائط الكلاب، إلى حد ما، من الوعي بأن الفضلات الذاتية لا تختلف كثيرا عن فضلات أي كلب، وأن الطبيعة الجسدية الذاتية الفانية لا تختلف كثيرا عن أي حيوان فانٍ..
إن تدفقات الروح ومنتجات الثقافة يمكنها أن تساعد في نسيان ذلك مجددًا. وناطحة السحاب هي قصر لنسيان الخلق المشترك. حيث يجد المرء في النظر إلى النجوم الأبدية في الأعالي العزاءَ على تفسخه هو أيضًا يومًا ما.
حاضرة لحم الخنازير Porcopolis
قد تعود الصورة الملموسة لناطحة السحاب التي استخدمها هوركهايمر إلى تجربته الشخصية، إذ شغل منصب أستاذ زائر في جامعة مدينة شيكاجو بين عامي 1954و1959. وهي المدينة التي كانت تُدعى بفخر فيما سبق حاضرة لحم الخنازير Porcopolis ثم مدينة الأبقار Bovin City.
ويحيل الاسمان إلى مكانة مدينة شيكاجو بوصفها أكبر مركز لسلخ الحيوانات وتدوير بقاياها في العالم ابتداءً من نهاية القرن التاسع عشر. كانت شيكاجو هي المدينة التي احتضنت أول ناطحة سحاب مُوّلت من أموال المسالخ وأسواق اللحوم بها. وبذلك فإن بؤس الحيوانات المذبوحة الذي أضحى يُضرب به المثل، وأجسادها المُعالَجة، أصبحا بالفعل القاعدة الاقتصادية لإقامة الناطحة العملاقة. يُقال إن بقرة خرقاء قد أسهمت في هذه العمليات التاريخية العالمية مساهمة هامة. فوفقًا لأسطورة محلية، يعود حريق عام 1871الكبير، الذي أتى على ثلث مدينة شيكاجو، إلى " بقرة لم تثر
الانتباه حتى تلك اللحظة”.
فعندما حاولت السيدة أوليري، وهي مالكتها القانونية، حلب البقرة في ليلة صيفية حارة بشكل استثنائي، رفست البقرة العنيدة رفسة قوية وأطاحت بالمصباح الذي كان يضيء الإسطبل، فاشتعلت نار جهنم، والتهم لهيبها البشرَ والحيوانات والعمران على حد سواء.
ساعدت جهود إعادة إعمار شيكاجو في السنوات التالية في تحديث المدينة، واجتذبت معماريين وجدوا في المدينة معملا للابتكارات العمرانية. ووضعوا على سبيل المثال تصميم مبنى Reliance Building الضخم كتصميم
رائد لما يسمى بالأسلوب العالمي international style والذي سيسم بميسمه جماليات عمارة القرن العشرين. وأدى ارتفاع أسعار الأراضي والقواعد الجديدة للحماية من الحريق إلى إنشاء أول ناطحة سحاب في العالم عام 1884، وهي مبنى Home Insurance Building، والذي احتضن مكتب فيليب أرمور Philip Armour، صاحب شركة صناعة اللحوم المشهور. واكتسب شعار شركته لمعالجة اللحوم شهرة عالمية، وهو: نحن نطعم العالم we feed the world. والذي كان أكثر من مجرد شعار، فقد كان لمجموعة الشركات التي أدارت مراعي يونيون في شيكاجو Union Stock Yards
يسار- عربة نقل اللحوم المبردة. يمين- صورة دعائية لصناعة اللحوم في شيكاجو
في النهاية نصيب الأسد من سوق اللحوم الأمريكية حتى عشرينيات القرن العشرين. وفاقت في ذلك أي مكان آخر في العالم.
وقد تحقق كل ذلك لمجموعة الشركات تحديدا عبر الاندفاع المحموم نحو الابتكارات الجديدة، والذي جعل منها معملا للحداثة. على كل حال طالما عُدّت رؤى وأفكار هوركهايمر وأدورنو حول العلاقة بين الإنسان والحيوان، والتي توجد مكثفة في كتابهما “جدل التنوير”، ومتناثرة في مواضع أخرى كثيرة من كتابتهما، أرفع ما يمكن للفكر الماركسي أن يقدمه حيال هذا السؤال منطقيةً وجذرية.
وحتى اليوم فإن الكثير من هذه الأفكار لا يزال مثيرا للاهتمام إلى حد بعيد. ولكن: تظهر الحيوانات في التأملات النظرية الاجتماعية للكاتبين بوصفها دائما أكثر بؤسا وتشيُؤا من البشر في المجتمعات الصناعية.
هؤلاء البشر العالقون بلا مخرج في الضلالات الشاملة للعلاقات التي تخلقها صناعة الثقافة بشكل خاص، وآليات التنظيم الاجتماعي في شكل طبقات بشكل عام. وما يضاعف شقاء الحيوانات هو أنها لا تحصل حتى على العزاء الذي تقدمه ثقافة المجتمعات البرجوازية مهما يكن مشكوكا في جدواها.
قد يعود هذا اللون المتطرف من علم الضحايا Viktimologie إلى ميل أدورنو وهوركهايمر إلى تبني نظرة متشائمة ثقافيا حيال عمليات التغيير في المجتمعات الحديثة، وإلى قدر من النخبوية يصبغ فهمهما للسياسة، وإلى توجههما المؤسساتي.
أو ربما يعود إلى اضطرارهما لجرّ متاع إنساني ليبرالي فكري ثقيل معهما أثناء رحلاتهما الفكرية، بسبب نشأتهما الفلسفية. على كل حال يظهر التاريخ عند كلا المفكرين غالبا كنتيجة لا ترحم لأفكار فلسفية، تحمل معها دائما بذرة أهوالها.
ولذلك يصبح كل شيء يخص الحيوانات أكثر يأسا ووحشية.
سيادة الميكنة
يوجد كتاب آخر تزامن صدوره تقريبًا مع صدور كتاب أدورنو وهوركهايمر “جدل التنوير”، وقد يسهم في إلقاء الضوء على المناحي المُغفلة في هذه المسألة المركّبة، وهو كتاب سيجفريد جيديون “سيادة الميكنة” الصادر عام 1948. درس جيديون في فيينا الهندسة الميكانيكية وبناء الماكينات، كما درس في ميونخ تاريخ الفن. ومثّل على نحو كبير النمط المثالي الحداثي للمهندس الضليع في تاريخ الفن. شغل جيديون لمدة طويلة منصب الأمين العام للمؤتمر العالمي للعمارة الحديثة (Congrès Internationaux d’Archtecture Moderne CIAM)،
وكان يُعدّ أحد سفراء الحداثة العليا العالمية. تعلمت من كتبه أجيال من دارسي العمارة. وكتب ستانيسلاوس فون موس Stanislaus von Moss في خاتمة الترجمة الألمانية لكتاب جيديون: “كتاب “سيادة الميكنة” ليس كتابا عن الحداثة، وإنما هو كتاب الحداثة”.
كتب جيديون هذا الكتاب بوصفه “إسهامًا في كتابة تاريخ مجهولين”، كما يقول العنوان الفرعي للكتاب. فموضوع دراسته كان الاختراعات وما لا يحصى من التحسينات التي أُدخلت على العمليات التقنية، والتي أصبحت جزءا من حياتنا اليومية، إلّا أن مخترعيها بقوا مجهولين.
كتب هانز ماجنُس إنزينسبرجر “يتوارى المخترع، بوصفه بطلاً، خلف ما لا يحصى من الفنيين، والهواة المهرة، ورجال الأعمال والمهندسين المجهولين”. كتابًا “جدل التنوير” و”سيادة الميكنة” كُتِبَا في أوضاع متشابهة، وهي الإقامة في المنفى الأمريكي. ورغم الاختلافات الشديدة بين العملين فإن محاولة وضعهما في علاقة مشتركة هي محاولة لا تخلو من وجاهة. فكتاب جدل التنوير يتمحور أيضًا حول تأثيرات الميكنة الصناعية والتوحيد القياسي على تشكيل الذاتية، وعلاقة ذلك بالتطورات الجمالية في الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها شكلاً متطورًا على نحو خاص من التكوين المجتمعي الرأسمالي.
يتتبع جيديون في كتابه ميكنة الأعمال اليدوية، سواء البسيطة منها أو المعقدة. فهو يدرس الميكنة في صنع الأقفال والزراعة وصناعة الأغذية، كما يدرس تأثيرها على عملية تصميم الأثاث والأدوات المنزلية وغرف الحمامات. وفي رحلته تلك لا يطمح جيديون إلى الإحاطة بكل شيء، وإنما يقسّم محاولات الميكنة إلى حالات دراسة نموذجية، ثم يجمعها في مجموعات وفقا لمواضيعها، حاشدا في ذلك أمثلة لا تحصى من المواد الواقعية والمنتجات البصرية. مداخلة جيديون البحثية لا تعرف الحياد، إذ أن كاتبها هو فاعل متحمس للحركة المعاصرة.
فجيديون لم يكتب كخبير محايد حول ممارسات مختلفة عن ممارسته البحثية، وإنما كممثل للحركة الحداثية نفسها. يتجلى ذلك أيضًا في الأريحية التي أغفل بها الكاتب قطاعات مهمة من الميكنة، مثل الأسلحة والتصوير الفوتوغرافي، أو أخرى أتى عليها لماما، مثل الفن والعمارة. دراسته التاريخية التقنية، والتي تُظهر محاولات تبدو جريئة لميكنة العجن والخبز والجزّ، تكتب أيضًا في الوقت نفسه تاريخا لمقاومة الحي أو العضوي ضد محاولات معالجته صناعيا في ظل الرأسمالية الصاعدة. على سبيل المثال يستغرق جيديون في تفاصيل التركيب المعقد للدقيق والعجين
سم تخطيطي لماكينة تنظف جثث الخنازير بعد ذبحها 1864
الذي حال دون ميكنة الخبز لزمن طويل، ويوثّق عبر مصادر كثيرة ومتنوعة المحاولات المتعددة لميكنة التحكم في صناعة الخبز. وبالرغم من ملاحظات جيديون الجانبية وتفاصيله اللمّاحة، ومئات الصور التي تجسد تطور الميكنة، والتي لا تزال حتى اليوم بعد سبعين عاما على صدور الكتاب ممتعة للغاية وتستحق المطالعة، بالرغم من كل ذلك فإن إرجاعه لكل اتجاهات الميكنة في الحاضر إلى العصور الوسطى غير مقنع. ومن بين المقاطع التي أبرزها عدد كبير من المعلقين، التي لا تزال حتى اليوم مذهلة، هي المقاطع الخاصة بمقاومة الحيوانات لدمجها في عملية الميكنة.
لكن المشكلة الرئيسية كانت فساد اللحوم إذا لم يكن هناك تدخل بشري، وبذلك تعذّر استهلاكها أو بيعها. وبسبب الشروط الجغرافية والاجتماعية والفيزيائية كانت بواكير الشتاء هي ذروة فترة ذبح الحيوانات والتجارة بها، لأن الحيوانات تصل إلى أقصى وزن لها، وقريبًا لن تكون الطرق المائية صالحة للنقل والحركة. يكتب جيديون عن نقل الحيوانات الحية والميتة “تُنقل الحيوانات سواء من حظائرها أو على شكل لحم مقدد بالسفن المبحرة في نهر المسيسيبي. وبعد ذلك في ستينيات القرن التاسع عشر، عندما برز نجم مدينة شيكاجو، أصبحت الماشية تُنقل للشرق بخطوط السكة الحديدية.
صورة لمسالخ الخنازير في شيكاجو عام 1886
وأخيرا في الثمانينيات من القرن نفسه أصبحت الطريق ممهدة لظهور توزيع اللحوم كما نعرفه اليوم. إذ نقلت العربات المبرّدة لحم الماشية إلى مراكز الاستهلاك، وتمّ توزيعها بكميات محسوبة وفقا لعدد تجار اللحوم. نتج عن ذلك أكبر صناعة في الولايات المتحدة الأميركية وفقا للأرباح بالدولار”. بدأ صعود شيكاجو بوصفها عاصمة عالمية عظيمة الحجم لتجارة اللحوم في ستينيات القرن التاسع عشر، عندما أصبح ممكنا نقل الحيوانات بالقطارات، مما اجتذب صناعة معالجة اللحوم إلى المدينة، وبذلك أُزيحت مدينة سِنسيناتي إلى الظل.
وفي عام 1875 أُدخلت طريقة جديدة لحفظ اللحم، يُضغط فيها اللحم على شكل كعكة أسطوانية ثم يحفظ في علب معدنية، لكي يكون اللحم “شهي، مطهو، مُقسّم، وجاهز للأكل”. واستمرت هذه الطريقة حتى يومنا هذا تحت اسمها التجاري “اللحم المقدد أو Corned Beef”.
وتميزت هذه الطريقة بتوفير نحو ثلث وزن النقل، وهي تقريبا النسبة نفسها التي وفرتها طريقة نقل اللحم المبرّد مقارنة بنقل الماشية الحية. وذلك لأن هذه الطريقة الجديدة تعلّب اللحم من دون عظام أو غضاريف في عبوات صغيرة الحجم. المرحلة الثالثة لصعود
مدينة شيكاجو كانت في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وظهرت بفضل استخدام العربات المبرّدة لغزو الأسواق المحلية والعالمية. وأصبح لحم الماشية المذبوحة على مبعدة مئات الكيلومترات أرخص من اللحم الذي تقدمه السوق المحلية. ليتحول القصّاب من صاحب حرفة إلى بائع، وليصبح قطاع معالجة اللحوم قطاعا اقتصاديا عالميا، وهو الأكبر حجما في ذلك الوقت. حتى ذلك الوقت كانت شيكاجو تُحدّد أسعار الحبوب العالمية في بورصتها Exchange Building، ثم أضحت المدينة مركزًا لتجارة الحيوانات والصناعات القائمة عليها. ومن هذه المدينة نُسجت شبكة
معقدة وجديدة تضم منتجي الحبوب وتجار الماشية وأصحاب المسالخ. تحكمت هذه الشبكة بحركة اللحوم وأثمانها في الولايات المتحدة الأمريكية بأكملها، وأخيرا استطاعت أيضًا تغيير العادات الاستهلاكية لملايين البشر عبر التحسين المستمر لمراحل العمل والتقنيات الجديدة في التبريد. والنتيجة كانت تداخل متزايد بين المدينة والريف. الماشية كانت تُترك لترعى في تكساس في مراعي فسيحة. وظهرت في وايومنج المراعي Ranches، وفي كانساس ما يسمى بمدينة الماشية Cattle Town، وفي إلينوي حظائر التسمين Feedlots.
“اتصلت هذه المراعي جميعها ببعضها البعض لتشكل تضاريس طبيعية جديدة للحيوانات. وهي تضاريس محددة بالاقتصاد والطبيعة على حدّ سواء. وبنظرة مجرّدة فإن الأمر يتعلق بتضاريس نشأت عندما قام منطق رأس المال بتعديل الطبيعة الأولية، وربط أماكن بعيدة عن بعضها البعض، لكي يصنع رابطة عميقة وجديدة بين المجال الحيوي والسوق. […] أصبحت حياة الحيوانات تتوزع تدريجيا بشكل جديد على الأماكن الإقليمية، إذ أنها أصبحت تولد في مكان، ثم تُسمّن في مكان آخر، وتذبح في مكان ثالث” 24 . المزيج من تقنيات التبريد والنقل بالقطارات حرّر المسالخ من ارتباطها ببيئتها.
إذ لم يعد من اللازم نقل الحيوانات حية إلى أماكن أخرى متناثرة، لتُذبح وتُسلخ هناك. وبذلك أمكن لصناعة متكاملة ومربحة، ومركزة في مكان واحد، أن تفرز الحيوانات وتذبحها وتسلخها، ثم تنقلها عبر مسافة بعيدة إلى القصّابين، الذين لا يحتاجون سوى القيام بالمعالجة النهائية والبيع بالتجزئة فحسب. كان الاقتصار على نقل الأجزاء المُربحة من الماشية، عوضا عن نقل الجسم بأكمله، كافيًا وحده لخفض تكاليف النقل، وتقليل الخسائر التي كانت تنجم عن نقل الحيوانات الحية إلى الحد الأدنى. فلم تعد الحيوانات تموت بأعداد كبيرة أثناء النقل بسبب الحرارة الشديدة، ولم تعد الأرباح
تتضاءل بسبب رفض تناول العلف أثناء النقل. كذلك أمكن تجنب الإصابات التي تحدث بسبب الحيوانات الأخرى أثناء النقل.
“وأصبحت المعادلة الجديدة والسائدة هي: اللحم يساوي المال”. وبذلك تحول المركز الأكثر أهمية لنقل أجساد الحيوانات إلى المسلخ الأكبر في العالم. وتحولت صناعة اللحوم التي كانت حتى ذلك الوقت عادة صناعة محلية وغير مركزة في مكان واحد، تحولت إلى أكثر صناعة مركزة في العالم. أضحى فضاء الإنتاج الحيوي والتناسل، بانقطاعاته الزمنية والجغرافية، فضاءً منبسطا يصلح للإنتاج الملائم للسوق،
وموسومًا بالقفزات العلمية والتقنية التي تحدث فيه. لم تزد الربحية بسبب زيادة الكفاءة في تربية الماشية، بل بسبب استهلاك منتجاتها الجانبية. فالمنتجات الجانبية التي أُهملت بسبب الذبح في أماكن متناثرة، أصبح بالإمكان الآن تركيزها ومراكمتها في كميات يدر تسويقها الأرباح. قام ويليام كرونون Wiliam Cronon بتحليل سجلات المحاسبة الخاصة ببارون اللحوم آرمور Armor، وخرج بالنتيجة التالية “لقد حسب آرمور أن ثورا وزنه 1260رطلا يُباع في شيكاجو بسعر 40.95 دولار، يمكنه إنتاج 710رطلا من اللحم المطبوخ.
وعندما يباع اللحم في نيويورك بسعر متوسط من 5 إلى 8/3 سنت للرطل الواحد سيعود هذا اللحم بمبلغ مقداره 38.17 دولارًا أمريكيا فقط، هذا من دون حساب تكاليف النقل والإنتاج، مما يعني خسارة واضحة. فقط من خلال بيع المنتجات الجانبية أصبح بإمكان تاجر اللحوم هذا أن يحول هذه الخسارة إلى عملية مربحة”.
في سِنسيناتي يُحتفظ بالأفخاذ والأكتاف والبطن والجوانب، وماعدا ذلك من أعضاء جسد الخنزير كان يلقى بها في نهر أوهايو Ohio بعد السلخ. أما في شيكاجو فقد ساد المنطق التالي: بواقي الحيوانات التي ينظر إليها في كل مكان على أنها مخلفات تحولت في المسالخ
بدءا من الآن إلى غراء وشحم وشموع وصابون وفُرش، لكي تعود بوصفها الربح الأهم.
الحيوان المفرد لا يمكنه عمليًّا تحقيق ربح بالرغم من كل الجهود. ولن يؤدي بيع اللحم، حتى أفضل أنواعه العالية الجودة، سوى إلى خسائر. لكن استغلال كل أجزاء الحيوان على قدر الإمكان، التي كانت تعد حتى وقت قريب مخلفات، بالإضافة إلى التضاعف الكمي الكبير، كل ذلك صنع من بارون اللحوم في شيكاجو مليونيرًا. السلوك الذي يُقدم بوصفه نقيضا لثقافة الإهدار والرمي في الزبالة، أي الاستغلال التام لكل أجزاء الحيوان، كما كان يحدث في المجتمعات الأصلية الصغيرة.
هذا السلوك يظهر عند تمحيصه بوصفه منطق التصنيع الرأسمالي نفسه، والذي أصبح منذ بدايته مربحًا بسبب ربحية الاستغلال المهول للمخلفات.
مولد خط الإنتاج
شكّلت بواكير الشتاء فترة زمنية حرجة بالنسبة إلى مدينة سِنسيناتي، مما استدعى تضافر المزيد من الجهود من أجل القيام بالذبح والسلخ بسرعة وكفاءة. وذلك لأن هذه الفترة كانت تصل فيها الماشية إلى أقصى وزن لها، كما يمكن نقلها بعد ذبحها عبر الأنهار. ومنذ 1850 أصبح الذبح والسلخ يتم في مبنى واحد “كل الأبحاث تمحورت حول سؤال: كيف يمكن الوصول إلى خط إنتاج غير متقطّع؟”.
حظائر الماشية في شيكاجو في بداية ثمانينيات القرن 19
لا يوجد مجال آخر أُدخلت عليه محاولات التطوير مثل مجال “إدراج الخنزير الحي في سلسلة الإنتاج”. إذ أنّ أيّ تكدس في هذه السلسلة يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تعطيل عملية الإنتاج بأكملها. وأصابت حُمّى الاختراع المطورين والهواة، الذين أصبح هدفهم الآن ميكنة ذبح الحيوان وسلخه. يحيل جيديون هنا إلى العدد الكبير لبراءات الاختراع المسجلة في الفترة الزمنية من منتصف ستينيات القرن التاسع عشر إلى بداية ثمانينيات القرن نفسه. وقد دارت هذه المحاولات حول رفع كفاءة ذبح وتجزئة الحيوان عبر استخدام الماكينات في عمليات الإمساك والتعليق وسلخ الجلد.
لكن معظمها فشل فشلاً ذريعًا. وذكّرت هذه المحاولات جيديون بـ “أدوات التعذيب في العصور الوسطى”، والتي لم تنجح في تجاوز اختبار التطبيق العملي في مصنع المسلخ.
مرةً تلو مرة تساءل جيديون لماذا نجحت الميكنة الكاملة في قطاعات مثل الغزل والنسج والخبز والطحن، ولم تنجح في صناعة منتجات اللحوم؟ إذ لم تفتقر هذه الصناعة إلى الإرادة أو إلى موهبة الاختراع، وبالرغم من ذلك فإن “مادة حيوية معقدة وهشة البنية، وتنطوي على العرضية والتغير، هي شيء آخر غير قطعة من الحديد غير المنتظمة”.
احتفى جيديون في كتابه الأسبق
مسلخ لا فيتي La Villette في باريس 1863/1867
“البناء في فرنسا، البناء باستخدام الحديد، البناء باستخدام الأسمنت المسلّح”، والصادر عام 1928، احتفى بعمارة القرن التاسع عشر وإنشاءاته وطرق توزيع الأحمال فيها. في هذا الكتاب نصّب جيديون المهندسَ بطلا جديدا، أنتج مفردات جمالية عميقة. أما فيما يخصّ دمج الحيوان في عمليات الإنتاج فالأمر يختلف بشدة. واعترف جيديون بصراحة “ولكن يجب الاستباق والقول إن المهندس لم يكن هو المنتصر في هذه الحالة”. من الذي قهر بطل القرن التاسع عشر؟ كان ذلك في البداية الحيوان الحي، ثم بعد ذلك الحيوان الميت، وفقا لجيديون.
فشل ذكاء المهندس أمام ذكاء الحيوان فيما يتعلق بتبسيط عمليات الالتقاط والتعليق على مستويات مائلة. ويقول جيديون “من المرجح أن تتجمد الحيوانات قلقا عندما تقف أمام مستوى مائل. كذلك ربما كان من الصعب دفعها عبر ممرات ضيقة”. ولأن كل محاولات ميكنة ذبح الخنزير وتجزئة جسده قد فشلت فعليًّا، فإن الجهود قد تركّزت على رفع كفاءة مراحل العمل الإنساني المختلفة. فقد دشنت مدينة سِنسيناتي لأول مرة استخدام عارضة حديدية متحركة في السقف من أجل سحب جثة الخنزير باستخدام وزنه عبر مراحل السلخ المختلفة.
رسم تخطيطي لماكينة تُمسِك بجثث الخنزير وتعلقها 1882
إنه النموذج الأولي لخط الإنتاج، وظهر عام 1870. لكن، ولأن سِنسيناتي كانت “في البداية تشعر بالخجل من أن مصدر ثروتها يعود إلى سلخ الخنازير”، فلم يتبقَ من مولد خط الإنتاج بوصفه التقنية الرمزية للقرن العشرين سوى شاهد بصري وحيد، وفقا لجيديون، الذي يكتب “سجلت لوحة بانورامية أرسلها تجار اللحوم المعلبة في مدينة سِنسيناتي إلى معرض فيينا العالمي عام 1873، سجلت جميع مراحل عملية سلخ الخنازير، من الإمساك إلى طبخ اللحم. وإذا عرّفنا خط الإنتاج بأنه طريقة عمل ينتقل فيها موضوع العمل من مرحلة إلى مرحلة بشكل ميكانيكي، سندرك أننا هنا أمام أصل خط الإنتاج
بالفعل” 34 بينما كانت شيكاجو تذبح وتسلخ نحو 20 ألف خنزير سنويا خلال خمسينيات القرن التاسع عشر، كانت سِنسيناتي تستخلص اللحم من نحو 330 ألف خنزير في معاملها. لكن اتساع رقعة خطوط السكة الحديدية، وتوقف التبادل التجاري بسبب اندلاع الحرب الأهلية، وتبني طريقة خط التجزئة (بالإنجليزية disassembly line)، كل ذلك ختم على مصير مدينة سِنسيناتي. وفي سبعينيات القرن التاسع عشر أصبحت شيكاجو بالفعل حاضرة لحم الخنزير الجديدة Porcopolis”، تذبح وتسلخ نحو مليون خنزير سنويا. كان خط الإنتاج الذي ابتكرته سِنسيناتي في مسالخها هو إجابتها على مقاومة
الجسدية العضوية والذاتية الحيوانية ضد الميكنة الصناعية، وفقًا لجيديون. وكتب ماركوس كورت Markus Kurth عن ظاهرة شبيهة هي فرار الحيوانات من المسالخ قائلاً: “لا تُفهم المقاومة هنا بوصفها مقاومة إرادية ضد معايير قياسية معينة، وإنما بوصفها شيئا تقوم به الأجساد. ردة فعل غير محسوبة تنتج عن فجوات في السلطة أو عن تناقضات الأخيرة، أو عن أخطاء في التطبيق".
الخنازير تقاوم حتى وهي ميتة
لم يتسنَ اختراع ماكينة قادرة على ذبح وسلخ جسد حيوان لا يخضع للمعيارية. وعوضا عن ذلك فقد انصب التركيز على رفع كفاءة مراحل العمل المختلفة من
دمج جسد الحيوان في صناعة تجزئته. وظلت أيدي البشر وأعينهم تلعب دورا لا غنى عنه في هذه العملية. ولأن من غير الممكن استبدال العمل الإنساني اليدوي في هذه العملية بماكينة، فقد تمّ تفكيكه إلى عمليات منفصلة على طول سير عمل يدور بشكل متواصل، ليصبح العمل نفسه ماكينة عالية الكفاءة. بكلمات أخرى، اضطر البشر الذين يعملون هنا لأن يتحولوا عبر تنظيم العمل إلى تروس في ماكينة اجتماعية، لأن الذاتية والجسدية الحيوانية قاومت الميكنة.
ويكتب جيديون “الخنزير يقاوم الماكينة حتى وهو ميت.
لقد تم اختراع ماكينات تصل دقة أجزاءها المعدنية إلى أجزاء من الألف من المليمتر بالفعل منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، وبالرغم من ذلك فإن لا أحد قادر حتى اليوم على اختراع ماكينة يمكنها أن تفصل لحم الخاصرة عن العظم. نحن نعالج هنا مادة عضوية تتغير كل مرة، وليس لها تركيب ثابت، ومن المستحيل أن تستجيب لمحاولات ماكينات التقطيع معالجتها. وكانت النتيجة هي أن العمليات الرئيسية لمعالجة الحيوانات التي تُقام على نطاق واسع يجب أن تجرى باليد. ومن أجل رفع كفاءة العمل كان هناك حل واحد، وهو تخفيض زمن الوقفات بين مراحل العمل المختلفة..
رسم تخطيطي لماكينة تكشط شعر جثث الخنازير 1900
والحفاظ على طاقة العمال المهدرة في رفع جثث الحيوانات المذبوحة بأنفسهم أو نقلها. لقد عُلِّقَت الآن جثث الحيوانات في سلاسل معدنية طويلة وعوارض حديدية، بحيث تنتقل من عامل إلى آخر، ويقوم كل عامل في السلسلة بوظيفة محددة. هذه لحظة ولادة خط الإنتاج الحديث”. قبل عصر سِنسيناتي وشيكاجو احتاج ثلاثة أو أربعة عمال إلى خمس ساعات من أجل ذبح وسلخ خنزير. أما الآن فقد وُظّف 160 عاملاً للعمل على خط التجزئة disassembly line، كل له مهمة محددة. ولم تعد رحلة الخنزير في المسلخ الرأسي تستغرق أكثر من جزء بسيط..
من الزمن الذي كان لازما فيما سبق. لكن خط الإنتاج المتصل لم يُظهر كامل قوته سوى في الخطوة الثالثة من خطوات السلخ الأربعة. اختار جيديون كلمة فصل، تقريبا وكأنه يصف فصول مسرحية دراما، للتعبير عن مراحل عملية السلخ “يبدأ هذا الفصل الثالث عندما تُثبّت جثة الحيوان في عوارض السقف، وقوائمه الخلفية في خطاف معدني، ثم يُسحب باستخدام سلسلة معدنية طويلة. فتصبح الجثة معدّة للمعالجة وقطع الرأس، ونزع الأحشاء، وفحص الحيوان، ثم تقسيمه إلى نصفين وختمه. هذه المرحلة من مراحل السلخ هي المرحلة الوحيدة التي يمكن إجراءها بكفاءة عالية..
باستخدام خط الإنتاج المتصل. أما قتل الحيوان وتنظيفه فلا يمكن ميكنتهما بشكل كامل. كذلك لا يمكن ميكنة الفصل الرابع، والمتعلق بتقسيم وتقطيع الجثة بعد وصولها إلى مكان التبريد”. ويلاحظ جيديون أنه ليس من قبيل المصادفة أن واحدة من براءات الاختراع القليلة التي نجحت في اختبار التطبيق العملي، كانت تتعلق بمعالجة الجزء الخارجي من جسد الخنزير، وتهدف إلى نزع فروة الحيوان. ويقول “ما يحدد هذه العملية هو أنها لا تحتاج إلى تدخّل في جسد الحيوان. فالأمر يتعلق بنزع الشعر”. ومن خلال إجراءات مختلفة أمكن القيام بـ“زيادة الضغط المصحوب بالمرونة”.
على جسد الحيوان من أجل القيام بالمهمة على أكمل وجه. بعد أن أحبطت الخنازير المهندسين بفضل ذكائها وتنظيمها الاجتماعي، بقيت أحشاء جسدها الرقيقة تمثّل مشكلة تواجه الميكنة، لأنها كانت تُهرس من قبل الماكينات، وبالتالي تصبح غير صالحة للبيع. الخنازير قاومت حتى بعد أن ماتت.
من خط التجزئة إلى خط الإنتاج
جرت العادة أن يُؤرّخ لمولد الفوردية بعام 1913، وذلك عندما أدخل هنري فورد أول خط إنتاج في مدينة ديربورن Dearborn، بولاية ميشيجان Michigan إلى مجال العمل.
لقد خطرت هذه الفكرة على ذهن فورد بعد أن عاد مبهورا من زيارة لمسلخ في شيكاجو. بُهِر فورد تحديدا بسرعة حركة السلاسل المعدنية والُخطّافات، التي تُثبّت “المادة” الحيوانية وتنقلها بلا انقطاع إلى العمال الواقفين، الذين يقوم كل منهم بمهمة واحدة لا تتغير. طور فورد نظاما شبيهًا، باستخدام المبادئ التيلورية للإنتاج، وأدخله على مصنعه في مدينة ديربورن، مع فارق واحد: مصنع فورد للإنتاج يُسرّع عملية تجميع (بالإنجليزية assembly) جسم ماكينة بدلا من تجزئة (بالإنجليزية disassembly) جسد حيوان.
صورة لنموذج سويفت لعربات نقل اللحوم المبردة.
وبينما انتقلت سلسلة النقل من الوضع الرأسي في السقف إلى الوضع الأفقي على الأرض، فقد بقيت مراحل العمل مُجزّأة كما كانت. تاريخ المسالخ يُبين أنها كانت مختبرا للحداثة الصناعية. فالمسالخ جزء من عملية تغير صنعت مرحلة جديدة، تحول فيها زمن الحياة إلى زمن العمل. التقنيات الاجتماعية والفيزيائية الملموسة التي نشأت عن ذلك يمكن فهمها على أفضل نحو باللجوء إلى العتاد النظري لحركة الأوبرايسمية أو العُمّالية (بالإيطالية operaismo)، وهي حركة سياسية وعلمية، اهتمت أيضًا بالمقاومة التي تظهرها الحياة ضد احتوائها في المجال الصناعي.
تُرجِع نظرية الأوبرايسمية التطور التقني للاقتصاد الرأسمالي إلى مقاومة قوى العمل الحية. استقلالية الحركة العمالية تعني بدايةً استقلالية القطاعات الأكثر تطورًا من العاملين عن رأس المال (وعن الأحزاب والنقابات، وأيضًا عن المجموعات الأخرى داخل الطبقة العاملة). ونعني بالقطاعات الأكثر تطورًا هنا القطاعات العاملة في قطاعات الإنتاج الصناعي الحديث. نشأت حركة الأوبرايسمية بوصفها نقدا موجها ضد التمثيل الذي يشيئ دور العمل الحي، الذي كان سائدًا في عملية التحديث في إيطاليا بعد الحرب العالمية. فلقد أغفل الاشتراكيون الديموقراطيون والنقابات العمالية
والتيارات الشيوعية المختلفة، جميعهم أغفلوا هجرة القوى العاملة من جنوب إيطاليا، وهي القوى التي اُنتزعت من الزراعة، وأُلقي بها في خضم علاقات العمل القاسية لمصانع شمال إيطاليا الحديثة. وعوضًا عن رفع مطالب نقابية معتدلة، نشأت عن هذه القوى أشكال غير متوافقة مع الأشكال التقليدية للمقاومة، مثل انتفاضة العمال العفوية التي اندلعت في مدينة تورين في شهر يوليو عام 1962ودمرت مركز المدينة. تجاهل الجميع مثل هذه الأشكال، وضاق عنها أفق فهم المناضلين الشيوعيين آنذاك. إذ من يريد أن “يستولي” على أو “يتولّى” مثل تلك المصانع القاسية؟
إن تخريبها أو الخروج منها لاحا بوصفهما الحل الأكثر بديهية. ومن خلال التنظير لهذه النضالات والتغيرات الاجتماعية والتقنية المتصلة بها نشأت حركة الأوبرايسمية. وهي حركة رفضت التحديق في التطورات الاقتصادية بنشوة إيروتيكية. وأصرت على أن أرضية الفعل السياسي والاستراتيجي لا يجب أن تحددها الرأسمالية بوصفها الفاعل الوحيد القوي، وإنما العمل الحي هو من يجب أن يقوم بذلك.
ومن بين الأشكال المتنوعة للمقاومة التي مارستها قوى العمل الحية: التغيب المرضي عن العمل، التأخر، أخذ استراحات.
وحملت هذه الأشكال جملةً من الرغبات المختلفة، مثل: عدم القيام بالوظيفة الرتيبة نفسها كل يوم، عدم الخضوع إلى إيقاعات زمنية جامدة طيلة ما تبقى من الحياة، عدم الرضا بالبقاء مجرد زائدة صامتة للماكينة، الرغبة في العمل بشكل جماعي بدلاً من التراتبية الثابتة. إن التحديثات المتنوعة التي أدخلها رأس المال على عمليات الإنتاج فيما بعد لم تكن سوى ردة فعله على كل هذا. تحديثات ضمّت: لزوم التعلم طيلة الحياة، الدفع في اتجاه الحصول على مهارات ناعمة، والعمل دائما ضمن إطار مشروع. إن مخاطبة الرئيس في العمل بضمير المخاطب الأول (أنت)..
وليس ضمير المخاطب الذي يفيد التعظيم والاحترام، أصبح ضلعًا من أضلاع مثلث الاقتصاد القائم على المشاريع: الجميع يخاطبون بعضهم البعض بالضمير الأول، القهوة مجانية، وساعات العمل الإضافية غير مدفوعة الأجر. بكلمات أخرى: لا يجب أن يبقى رأس المال – بوصفه عملاً ميتًا مصحوب بديناميات التقنية والاجتماعية والاقتصادية – القوة الوحيدة التي تصنع العالم، وتعطي إحداثيات المعركة. وإنما، على النقيض من ذلك، يجب أن يُشكِّل العمل الحي والمتنوع النقطة المحورية المنهجية. ويجب رفع قيمة المقاومة ضد دمج الحياة الإنسانية في الإنتاج الرأسمالي، التي كثيرا ما لا يُلتفت
إليها، لتصبح هي المستفزّ والصانع للحداثة.
أحصنة مجنونة
ماركس، مدير، مدرسة فروسية قد يكون توكيد الأوبرايسمية على الطابع الاستفزازي المقاوم لعمليات التحديث الرأسمالي مقنعًا، إلا أن الصواب قد يجانبها بعض الشيء إذا اقتصرت رؤيتها للرأسمالية على أنها رد فعل استحواذي [على الاستفزاز المقاوم الذي يقوم به العُمّال] فحسب. في كل الأحوال تُدخل الأوبرايسمية تصويبا هاما على التشيؤ النابع عن منح الأولوية للعمل الميت، أي رأس المال، بوصفه مالكا لسلطة الفعل. وتظهر قوة الأوبرايسمية لاسيما فيما يتعلق بالحيوانات، إذ لا يوجد
موضع تُثبِت فيه الاستمرارية السياسية الحيوية للعمل الحي نفسها بشكل أقوى مما يحدث في مقاومة الحيوانات. يشير كارل ماركس في كتابه “رأس المال” إلى ما يحدث في أدمغة الحيوانات، ويسبب مشاكل في عمليات الإنتاج: “قوة الحصان هي الأسوأ من بين قوى التحريك الكبيرة والموروثة عن مرحلة المصنع الصغير (المانوفاكتورة). من ناحية لإن الحصان له دماغه الخاص، ومن ناحية أخرى بسبب غلاء سعره، ومحدودية المجال الذي يمكن استغلاله فيه في المصانع”. وتخبرنا الخبيرة في دراسات العمل كيندرا كولتر Kendra Coulter عن أحصنة عنيدة، تتصرف بأدمغتها الخاصة حتى في أكثر الظروف
“المثالية”، وتكتب “الأحصنة كائنات حية. لديها أمزجة يتغير موقعها من يوم لآخر على سلّم التدرج بين الاستجابة للأوامر والمقاومة، حتى بعد سنوات من التدريب المتنوع والمكثف. لدى الأحصنة أمزجة تتأثر بحالة الطقس والهرمونات والتفاعل السلبي مع البشر أو غيرهم من الأحصنة، أو بأي مؤثر آخر. لديهم أجساد تشعر بالألم وعدم الراحة والتيبس”. أصبح المدراء يطورون قدراتهم الاجتماعية Social Skills مؤخرًا بواسطة ما يسمى بـ”تطوير القادة باستخدام الأحصنة”. والفكرة البسيطة وراء نموذج التدريب الذي أضحى واسع الانتشار هي أن من تستطيع ترويض حصان، وجعله يقوم
بما يريد المرء منه، فإن بإمكانها أن تقوم بذلك أيضًا مع موظفيها. ما يُقدم هنا بوصفه منتجا جديدا ومثيرا في سوق تدريبات رفع كفاءة الموظفين هو نبيذ قديم وُضع في دُنّ جديد. وذلك لأن مفهوم المدير، أو بالإنجليزية Manager، بوصفه الشخص الذي بيده قيادة التنظيم والإدارة والسيطرة، هو مفهوم مشتق من فعل manage الإنجليزي.
وظهر الفعل في اللغة الإنجليزية في القرن السادس عشر للمرة الأولى، وكان مستلهما من الكلمة الفرنسية manège والتي تعني مدرسة تدريب الخيول، أو مدرسة الفروسية. والحصان الذي يعاند التدريب بشكل كلي، أي الكائن غير
القابل للإدارة، un-manage-able، بشكل كلي، يسمى حصانا مجنونا، أو crazy horse. الادعاء الوارد بأن مقاومة الحيوانات تعود إلى غرائزهم هو إما ادعاء شديد التهافت وإما شديد القوة. لإن ذلك الادعاء يعني إما أن الغرائز هي ردات فعل ميكانيكية عضوية، دون أي بعد ذاتي، وبذلك تكون الكلاب مجرد روبوتات ذات شعر، تبدو دائمًا فقط من الخارج وكأنها تفرح لعودة صاحبها أو صاحبتها. وإما يعني ذلك الادعاء وجود عملية معقدة تجمع بين الدوافع العضوية والتأطير الاجتماعي. وذلك لأن الكثير من الحيوانات تحب اللعب، والاشتراك في اللعب يفترض القدرة على التمييز بين
الواقع والخيال، والقدرة على قمع الدوافع والغرائز وردات الفعل، على الأقل لوقت قصير، وإلّا ما كان من الممكن لأي لعبة في العالم أن تظهر. ولا تتطلب أي لعبة ضرورة الحفاظ على قواعدها فحسب، وإنما تنطوي أيضًا على إمكانية خلق الجديد من خلال ارتجالات اللاعبين وتنوع إيماءاتهم “الإيماءة التي تأخذ شكل نموذج وظيفة لغاية مقبولة، هذه الإيماءة تأخذ شكلاً قياسيًّا أو معياريًّا قبل تطبيقها. مثل هذه الإيماءات القياسية يمكن التنبؤ بها. وإذا اقتصر التعليم على نمذجة الأفعال الغريزية تمهيدا لتوظيفها، لأدّى إلى سوء تأقلم خطير. سيقوّلب مثل هذا التعليم تلاميذه حتى الموت”.
غوريلا مُدرّبة
الأشكال الجديدة للإنتاج كانت موضوع مقالة أنتونيو جرامشي الشهيرة التي كتبها من السجن، والتي أدخل فيها مصطلح الفوردية. النص المسمّى “الأمركة والفوردية” (كراسة 4، 52) حمل في الأصل عنوانا آخر وهو “الحيوانية والتصنيع”. وصاغ جرامشي في هذه الرسالة فكرة مفادها أن تاريخ التصنيع هو صراع مستمر ضد العنصر “الحيواني” في الإنسان. ويقتبس في هذا السياق من فرديدريك وينسلو تايلور Fredrick Winslow Taylor، والذي وصف العامل بأنه “غوريلا مدربة”. هذا التصحيح الذاتي الذي قام به جرامشي في عنوان الرسالة، الذي أزال
فيه الحيوانات والحيوانية من تاريخ الفوردية، هو أمر دال فيما يخص التنظير النقدي لتاريخ الرأسمالية، وفقًا لنيكول شوكين Nicole Shukin، التي تكتب: “إن تتبع كيف خضعت حياة الحيوان للتداول على نحو متناقض بوصفها لحما تارة، وبوصفها عُملة رمزية تارة أخرى، يكشف المنطق المزدوج للفوردية، الذي غفل عنه ميراث نقدي طويل.
هذا الميراث النقدي جعل من الإنسان، في تجسده المتميز على شكل عامل، الذات التاريخية المحورية للرأسمالية الصناعية”.
التحليل المادي والرمزي لواقع هذه
العلاقات يمكن أن يبدأ مع تاريخ جيديون للتقنية الاجتماعية، الذي تبدو على ضوئه تحليلات مدرسة فرانكفورت غريبة بعمق وعلى نحو محرر. الثنائي الاقتصادي الأسترالي جي كيه جيبسون-جراهام JK Gibson-Graham يشيران في كتابهما “نهاية الرأسمالية (كما عرفناها)” إلى أن الرأسمالية أصبحت تبدو في التنظير النقدي بوصفها موضوعًا متعاليًا Metasubject وكليّ السلطة على نحو كبير، الأمر الذي يُعطّل القدرة على التحليل الملموس للسياقات الاقتصادية والاجتماعية، ويجعل هذا التحليل ملتبسًا.
ما هو معروف لا يعني أنه بذلك أصبح
مُدركًا. وعوضا عن ردة الفعل السريعة من خلال الادعاء بأن الأمر لا يتعلق بمقاومة “كلية” أو “حقيقية” للحيوانات، وذلك لأن ما لا يجب أن يكون لا يمكن أن يكون، عوضا عن كل ذلك ينبغي إعادة الاعتبار للاستبصارات المادية لماركس، والمحفزة على مواجهة العلاقات بأعين مفتوحة “إن نقدنا للسياسة لا يمنعنا إذن من الانخراط في السياسة، أي الاشتراك في النضالات الحقيقية، والتماهي معها. فنحن لا نواجه العالم كفقهاء يحملون مبدأً جديداً، ونقول له: هذه هي الحقيقة، فاركع أمامها. وإنما نحن نطور للعالم مبادئ جديدة من مبادئ العالم نفسها”.
تهميش الإنسان
لكن لماذا يحدث كثيرًا أن يواجه الماركسيون صعوبات في رؤية أن الحيوانات هي أكثر من مجرد أداة عمل؟ لقد أظهرت أبحاث مجموعة دراسات التابع ما بعد الكولونيالية أن التأريخ الماركسي الهندي يغفل عن ذكر أشكال مقاومة معينة تقوم بها المرأة أو من لا يملكون أراض. التابع هو الذي لا يُمكن سماع صوته حتى ضمن منظومة التفكير الماركسي، وذلك لأن بنية هذا التفكير لا يوجد فيها حتى الآن مكان لهذا الصوت، ولا يمكن بنيويا أن يوجد. داخل إطار العقلانية السياسية لمدارس التفكير هذه لم يتسنَ فهم مقاومة يقوم بها نوع معيّن من البشر.
الأمر يتعلق هنا بعنف معرفي، أي ذلك العنف البنيوي الكامن في أنظمة التفكير. في كتابه “تهميش أوروبا” (2000/2010) قدّم ديبش شاكرابارتي Dipesh Chakrabarty نقدًا لا يزال وجيها للمركزية الأوروبية التي تسم عمليات التأريخ الخاصة بالتأصيل الماركسي. شاكرابارتي غير معنٍ هنا بإنكار علاقات الاعتماد الجيوسياسية، وإنما يتعمّد وضع إكليل كئيب من الغار فوق رأس الاستعمار وإرثه. أي أنه لا يكتفي بـ “قَلب” النظرة المثالية للاعتداء الكولونيالي، من خلال قبول تاريخ الانتصار ببساطة دون تغيره، ثم وضع علامة سالب قبله.
وعلى نحو معرفي شبيه، يمكن مد الخيط من المُستعمَر إلى الحيوان، والقول إن الحيوانات ليست ضحية فحسب، وإنما معتدية أيضًا.
الحيوانات ليست مجرد موضوعات يعالجها الإنسان في إطار الرأسمالية فحسب، وإنما هي وحدات عضوية اجتماعية أيضًا، يرتبط الإنسان بتاريخها وبنضالاتها بأشكال متنوعة.
وفيما يخصّ التضامن النقدي لمشروع تفكيك استعمار الفكر Dekolonisierung فإن الأمر يتعلق بتعزيزه من خلال تهميش الإنسان، بوصفه الذات المفضّلة والوحيدة للتاريخ والسياسة.
حيوانات الهجرة
يظهر إرث الاستعمار اليوم أيضًا في حركات الهجرة المنتشرة في أنحاء العالم. وعلى نحو متقارب سياسيًّا مع تيار استقلالية الهجرة ينبغي التعبير عن تاريخ الحيوانات في الرأسمالية بوصفه تاريخا من النضالات. فالهجرة كان يُنظر إليها طويلاً بوصفها مجرد لعبة من عوامل الدفع والجذب Push and Pull فحسب. يعني ذلك التالي: هناك عوامل طاردة تدفع البشر للنزوح عن أماكن حياتهم الجغرافية (بالإنجليزية push)، مثل الكوارث الطبيعية والحروب الأهلية والكولونيالية الجديدة وما تحمله معها من شقاء. يُضاف إلى ذلك عوامل تجذب البشر إلى اتجاه معين
(بالإنجليزية pull) مثل رأس المال الذي يحتاج إلى قوى عاملة، والعثور على إمكانية الترقي الاجتماعي واختيار الحياة المناسبة. تتوارى الهجرة بوصفها قوة، وتختفي بين هذين القطبين، وتصبح مجرد شيء متحرك، لا يمتلك حياة خاصة، ولا قدرة على تشكيل العالم. يظهر المهاجرون والمهاجرات هنا بوصفهن ضحايا لقوى خارجية. يعشن في بلادهن في شقاء، وعندما يصلن إلى الغرب لا يجدن فرصة للحصول على أجر سوى في مطاعم مكدونالدز أو أعمال الرعاية الصحية أو الاستغلال الطويل. مُتجاهَلات من النقابات ومُأبلَسات من الأحزاب.
يحملن صفة الضحية باستمرار 52.
ولا يجب أن ننسى بالطبع المهربين، والذين يربحون أيضًا من كل ذلك. على النقيض من ذلك يسعى تيار استقلالية الهجرة النظري والسياسي إلى التفكير في الهجرة انطلاقا من منظور الذوات المهاجرة ونضالاتها. فالهجرة هي عملية اجتماعية إلى أعمق درجة. إذا أخذنا مثلا أُجرة المهرب وحدها، فعلنا أن نتساءل: من يقدر على أن يدفعها من جيبه الخاص؟ إن أسرًا كاملة، بل وأجزاءً من قرى، تجمع من أجل ذلك أموالاً من بعضها البعض. تتواصل الذوات المهاجرة على الطريق فيما بينها، ومع موطنها القديم.
يتبادلون المعلومات، يخترقون حدود أوروبا، يقتحمون قلعة القارة العجوز. هذا لا يعني أن هذه العملية إنسانية على نحو خاص، ولا أن الكثير من الضحايا لن يسقطوا. بالتأكيد المهاجرين والمهاجرات ليسوا أيضًا أبطالا جدد. الأبطال هم على أي حال شخصيات من الماضي. لكن عندما يستولي المهاجرون الروس في برلين بهدوء على المباني الخالية وعلى نطاق واسع، من أجل العيش هناك مؤقتًا، فإن الأمر يتعلق بفعل سياسي، حتى ولو لم يقوموا بتعليق علم من نوافذهم. لكن لنبق قليلاً مع المهربين. فهم أنفسهم حيوانات، أو على الأقل يبدون كذلك “ذئب البراري Coyte هو أكثر من
مجرد اسم لحيوان من رتبة شبيهة الكلبيات canis latrans التي تعيش على الحدود الأمريكية المكسيكية. فهو يُطلق أيضًا على “المرشدين Guides” التجاريين الذين يستطيعون عبور الحدود بين الدولتين، وتسيير حركة المهاجرين غير الشرعيين والتنقل غير الموثّق عبر الحدود. أما البحارة البريطانيون فيطلقون اسم أسماك القرش على من يساعدون في الخفاء المسافرين المختبئين، وعلى الحدود الألبانية اليونانية يحمل هؤلاء المساعدين اسم الغربان أو Korakia. وفي اللغة الصينية يُسمّون رأس الأفعى أو Shetou، وهو الاسم الذي يُطلق على الشخص الذي يشبه في دهائه الثعبان
يعرف كيف يستخدم رأسه الرشيق لكي يجد مخرجًا من المواقف الصعبة التي تواجهه” يبدو أن الحيوانات لا تربطهم علاقة نفعية بالدولة فحسب، وإنما باستطاعتهم أيضًا أن يدخلوا أي مكان فيها. عندما بُنيت قاعدة المجال الحيوي 2 في أريزونا كانت الفكرة هي إنشاء نظام مغلق مستدام يصلح كنموذج كلي، من أجل محاكاة شروط الحياة على الكواكب الأخرى. كل شيء في هذه القاعدة كان مراقبًا وخاضعًا للسيطرة. وبالرغم من ذلك نجح ما عُرف باسم النمل المجنون Crazy Ants من التسلل وبناء مستعمرات كبيرة له، وانتشرت في قاعدة المجال الحيوي 2 المسيجة بإحكام.
غلاف كتاب فهيم أمير
لا أحد حتى اليوم يعرف كيف نجح النمل في ذلك. وليس من الحصافة الثقة التامة في المهربين. لكن التقليل من أهميتهم أو سلطتهم أيضًا خطأ كبير. الفكرة هنا هي ألا نفهم الحيوانات بوصفها الخاسر الأكبر في مجال الثقافة والرأسمالية، وإنما بوصفها فاعلة وتبدي مقاومة في صراع غير بريء. إن التجميعة المكونة من تقنيات التوسيم والتلاعب، وعمارة التحكم والحبس، والهرمونات ومكملات الكالسيوم، والأقفاص والبوابات، والشباك والطعوم، هذه التجميعة ليست مجرد نَصْبَا يُذكر بشقائها، وإنما برهانا على قوتها المهولة.