زهران ممداني في القاهرة ٢٠١٣

عاش أيام ٣٠ يونيو في باب اللوق

زهران ممداني في القاهرة ٢٠١٣

  • أسبوعي
  • نص
  • كتابة

حين زار زهران ممداني القاهرة في لحظة تاريخية امتلأت بالغضب والرموز، رآها تحول الجسد واللغة واللحية إلى أسئلة معلقة.. فكيف أصبحت المدينة مرآة تعيد طرح أسئلة الهوية والانتماء والخوف؟

زار زهران ممداني القاهرة في ٢٠١٣، تحديدًا وقت الأحداث الصاخبة؛ ٣٠ يونيو وعزل مرسي والتفويض. وكتب تحت عنوان "ملتح في القاهرة" مقالة عن إقامته لنحو ستة أسابيع لتعلم اللغة العربية. لم تكن هذه زيارته الأولى، إذ زارها أكثر من مرة بصحبة والده محمود ممداني، منها حين دعته الجامعة الأمريكية في القاهرة لإلقاء كلمة بعنوان تأملات أفريقية في ميدان التحرير في مايو ٢٠١١. وقد سعى زهران لتعلم العربية لأنه أراد أن يعيش داخل اللغة لا أن يدرسها فقط، ليعرف "كيف يرى الناس العالم من خلالها، لا كيف يترجمون لي رؤيتهم". ونشر مقاله عن القاهرة في صحيفة جامعة بودوين

Bowdoin College، وهي كلية صغيرة للنخبة في الساحل الشرقي، درس فيها دراسات أفريقية Africana Studies، وهو تجربة سردية تتقاطع فيها طبقات الهوية الفردية والجماعية، وتلتقي الجغرافيا السياسية بالذات المهاجرة، ولو عابرًا، في لحظة وعي متوتر بين الانتماء والاغتراب.
هو هنا لا يكتب عن القاهرة كمدينة يزورها كسائح، بل فضاءً يعيد من خلاله مساءلة ذاته كمسلم، ملون، قادم من عالم ما بعد الكولونيالية إلى مدينة عربية تحمل أعباء التاريخ والدين والسياسة. والمدينة من وجهة نظره أكثر من مجرد مسرح للأحداث؛ إنها مرآة للهوية، تعكس ما يخفيه من صراعات

لا يتحدث زهران من موقع سلطة غربية بل من موقع زائر/ مهاجر يكتشف أن "الشرق" مساحة غريبة عنه بقدر ما هي مألوفة

حول معنى أن يكون مسلمًا فيما بعد ١١، وأن يكون ملتحيًا في مدينة تعرِّف التدين وفقًا لمنظومة محلية خاصة جدًا، مغايرة تمامًا للمنظومة الغربية التي أسهمت في تشكيل تجربته.
المقال من أدب الهوية العابرة للقوميات، تتداخل فيه لغات وسياقات ثقافية، وهو مساحة تفاوض مستمر بين "الذات" و"الآخر"، بين الداخل والخارج. وهوية زهران المزدوجة؛ بصفته شابا متعدد الثقافات نشأ في الغرب ويتحرك داخل منظومة سياسية ليبرالية، تجعله واعيًا بأن انتماءه الديني وتعدده الثقافي لا يقرأ بالطريقة نفسها في القاهرة كما يقرأ في نيويورك. هنا يتجلى مفهوم الهوية المتحركة،

التي لا تستقر عند تعريف ثابت بل تتغير وفقًا فضاء التلقي.
حين يكتب عن القاهرة، لا يتحدث زهران من موقع سلطة غربية مثلما اعتاد المستشرقون، بل من موقع زائر/ مهاجر يكتشف أن "الشرق"، هذه المساحة تحديدًا من الشرق، هي مساحة غريبة عنه بقدر ما هي مألوفة، فيتمشى في الشوارع ويحاول فتح حوارات مع الناس، ويقع في بئر الاختلاف بين العامية والفصحى، ويستجيب تلقائيًّا للمظهر الذي يظنه مناسبًا للمجال العام، وفي لحظة ما في قلب تظاهرة، يشعر أنه في مكانه، وفي موطنه، ويندمج في الأحداث حتى إنه يفكر في التطوع ضمن حملة

لمواجهة التحرش في التظاهرات، لكنه يحجم عن ذلك، استجابة لقناعة بأن آخر ما يريده المصريون في تلك اللحظة هو تدخل من آخر/ أجنبي.
هذا الوعي المزدوج هو ما يمنح النص توتره الداخلي، ويجعل تجربته في القاهرة تجربة بحث عن معنى، أكثر منها تأكيدًا للانتماء. فتتجسد علاقته بالمكان عبر لغة مراقِبة، يغلفها إحساس المفارقة. فهو مثلاً كقادم من مدينة تُستغرب فيها اللحية، بل وربما تجرم أحيانًا بوصفها علامة على "التطرف" خصوصًا بعد حادثة البرجين، يجد نفسه في مدينة تعامل فيها اللحية كرمز اجتماعي وديني مألوف، لكنها في الوقت ذاته قد تثير حذرًا طبقيًّا

القاهرة التي يصفها زهران ليست الأسطورية التي تظهر في الملصقات والإعلانات السياحية، بل مدينة الانقسام الاجتماعي والتدين الملتبس

أو أمنيًّا. ومع الوقت يكتشف أن للحية أربعة مستويات مختلفة، ويضطر في النهاية إلى تخفيف لحيته شخصيًّا كي لا يعتبره الناس في الشارع إخوانيًّا. وفي هذا التناقض، تتكشف حدود الهوية ويصبح الجسد نفسه نصًا ثقافيًّا تقرأ عبره معاني الانتماء والخطر.
القاهرة هنا إذن ليست مجرد فضاء مادي، بل لوحة رموز وقراءات تعيد تعريف صاحبها. وفيها اختبر انتقال موقعه من "الآخر" متعدد الأصول في نيويورك إلى "المسلم المختلف"، أي من موقع الدفاع عن الذات في الغرب إلى موقع التفاوض داخل الشرق نفسه. وهو توتر يتيح قراءة المقال في ضوء مفاهيم ما بعد كولونيالية ترى أن

الهوية المهاجرة ليست حالة ضعف بل مساحة لإعادة إنتاج المعرفة. فتتحول المدينة التي يفترض أن تمنحه شعورًا بالانتماء، لمختبر لإعادة اختبار معاني مثل التدين، والعرق، والمواطنة. ويكتشف أنها وإن كانت تتعامل مع الإسلام بوصفه مرجعية ثقافية، إلا أنه تصنع منه نسختها الخاصة، وأنه ليس واحدًا بل متعدد الأوجه. ويتحول مقاله إلى حوار داخلي بين "الإسلام المختلط" و"الإسلام المصري"، بين التجربة الفردية والهوية الجمعية، وبين التمثيل السياسي في الغرب والتمثيل الاجتماعي في الشرق. فنرى البعد الطبقي والثقافي واضحًا. وفي رحلته ينجح زهران في تفكيك الصورة النمطية لمدينة إسلامية

يفترض أنها موحدة في نظرتها للدين، ليكتشف التعدد داخل هذا الدين ذاته، وكيف تستخدم رموزه في المجال العام كأدوات للتمييز والتنميط.
القاهرة التي يصفها زهران ليست الأسطورية التي تظهر في الملصقات والإعلانات السياحية، بمدينة التدين الملتبس، والانقسام الاجتماعي، والفوبيات المستجدة، لذلك يتوقف بارتباك أمام تنبيه أستاذه له إلى عدم التحدث بالعربية، والتحدث بالإنجليزية كي لا يظن الناس في الشارع أنه سوري. في ٢٠١٣ لم يكن زهران هو الصحفي الذي يعمل في غرفة الأخبار وكتابة المقالات مثلما كان في ٢٠٠٧-٢٠٠٨ في أوغندا، لكن لأن الزيارة صادفت

درست في برنامج اللغة العربية بجامعة ميدلبري مع صديق رشحني حينها لمعهد لغات في القاهرة. وأخذت بنصيحته..

ظرفًا سياسيًّا متوترًا ومفصليًّا، فقد راقبه بعين يقظة وعلق عليه من وجه نظره كعابر/ آسيوي/ أفريقي/ لم يحصل على الجنسية الأمريكية بعد، وقبل كل ذلك هو ابن لأبوين صاحبي تجربة طويلة في الاشتباك مع السياسة سواء في الأكاديمية أو السينما، وهما يلقيان بظلهيما القويين على حياته عمومًا، وعلى رحلته خصوصًا، وتتجلى هذه المسافة بين جيل الأبوين القلقين الراسخ وجيل الابن المولود في التسعينيات ويبحث عن هوية شخصية أكثر سيولة وتحررًا.
وقبل أن يستجيب لوالديه وينصاع لرغبتهما في المغادرة خوفًا عليه تضعه القاهرة أمام سؤال ماذا يعني أن تكون مسلمًا متعدد الأصول والثقافات

في مدينة أغلب سكانها مسلمون، وهو نفسه المهاجر في أمريكا، يتقاطع مع أصوات كتاب مهاجرين يكتبون من موقع التماس الثقافي بين الجنوب والشمال.
يتعامل زهران مع القاهرة كمدينة تضعه في مواجهة سؤال الهوية الجماعية في زمن لم تعد المدن ولا الرموز الدينية قادرة على تقديم يقين واضح بالانتماء، وهو بهذا المعنى، يفكك صورة القاهرة في مخيلة المهاجرين/ الزوار المسلمين، ويفكك صورة المسلم في المخيلة القاهرية، وبالنتيجة يخلق هذا التقاطع فضاءً ثالثًا.يجمع المقال بين تجربة شخصية وبنية سياسية، فالقارئ الذي ربما اعتاد

أن يرى "اللحية" رمزًا بسيطًا للتدين، سرعان ما سيكتشف أنها تحمل دلالات أوسع تتعلق بالسلطة، والمراقبة، والانتماء. ولأن القاهرة هنا فضاء مشبع بالمراقبة، ونموذج مصغر لعالم ما بعد الكولونيالية، حيث تتقاطع القوى السياسية والرمزية لتعيد تشكيل الفرد بوصفه مراقبًا ومصنفًا، تصبح اللحية علامة تضع الجسد في قلب الصراع بين الحرية والوصم، وربما القمع والمحاكمة المجتمعية، علامة تتأرجح بين الاختيار الفردي والتأويل الاجتماعي. هكذا يتحول المظهر الخارجي للفرد إلى مدخل لفهم شبكة العلاقات بين الفرد والدولة والمجتمع..

كنت في القاهرة كأني شخصية شكسبيرية تتجول في لندن في القرن الحادي والعشرين؛ كل ما نقصني زي يعود إلى العصور الوسطى.

يقدم "ملتح في القاهرة" نموذجًا تتحول فيه التجربة الفردية لمساحة قراءة للعالم المعاصر. فمن خلال التداخل بين الذاتي والسياسي، يفكك ثنائية (الشرق/الغرب) التي حكمت كثيرًا من تمثيلات الهوية في الكتابة الحديثة. فهو لا يتبنى خطاب الدفاع عن الذات المسلمة في الغرب فحسب، بل يذهب أبعد من ذلك إلى مساءلة الشرق نفسه وكيف يعيد إنتاج هوياته الداخلية عبر المظاهر والرموز. ويغادر زهران إلى برونزويك وقد أنتجت القاهرة "نسخة جديدة" منه، وأنتج هو عنها قراءة جديدة.

المقال: ملتح في القاهرة
وصلت إلى القاهرة يوم الأربعاء، 19 يونيو [٢٠١٣]، قبل أحد عشر يومًا من اندلاع الاحتجاجات التي استهدفت عزل الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين في جميع أنحاء البلاد. نزلت في شقة في 15 شارع البستان، على بعد دقيقتين سيرًا من ميدان التحرير. وعلى طريقة الأجانب، وجدت نفسي أدفع ضعف أجرة التاكسي، وأسحب حقائبي بنفسي لمدخل العمارة. في معظم المباني السكنية في القاهرة يوجد بواب، وقد قضيت محادثتي الأولى معه وأنا أحاول أن أشرح له أنني أعاني من رهاب الأماكن المغلقة، وسأصعد سلالم ثمانية طوابق إلى شقتي،

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

قبل اللحية وربما قبل أسئلة الهوية.. بورتريه رسمه الفنان الأمريكي باكستاني الأصل سلمان تور لزهران في 2007

فابتسم وحمل حقائبي وهو يتجه إلى المصعد.
وبدأت في الصعود. في الصيف السابق، درست في برنامج اللغة العربية بجامعة ميدلبري مع صديق رشحني حينها لمعهد لغات في القاهرة. وأخذت بنصيحته، وفي هذا الصيف، التحقت بدورة لغة مكثفة لمدة ستة أسابيع، وفي نهايتها منحت نفسي أسبوعًا للسفر خارج البلاد.
في مصر، مثل أي دولة أخرى ناطقة بالعربية، يتحدث الناس لهجة محلية من اللغة العربية هي العامية. العامية والفصحى مثل لغتين، ورغم ارتباطهما الواضح، فلا تزالان مختلفتين بشكل ملحوظ.

وأنا، مثل أي طالب لغة أجنبية آخر، تعلمت الفصحى التي تدرس في المدارس، وتستخدم في الوظائف الحكومية والمعاملات العربية المكتوبة. لكني سرعان ما عرفت ألا أحد يتحدث بها خارج الخطاب الرسمي على الإطلاق.
وأنا أستكشف الشوارع بالقرب من شقتي، حاولت التحدث مع أي شخص مستعد للكلام. وفي منتصف أحدها، توقف رجل كنت أتحدث إليه قائلاً "لا أصدق أنني أتحدث الفصحى الآن"، طبعًا قال معظمها بالعامية. كنت كأني شخصية شكسبيرية تتجول في لندن في القرن الحادي والعشرين؛ كل ما نقصني زي يعود إلى العصور الوسطى.

في يونيو ٢٠١٣ كانت القاهرة تموج بالغضب والاضطراب والمصريون يريدون التغيير أيا كانت النتيجة. الصورة من AP

في يونيو ٢٠١٣ كانت القاهرة تموج بالغضب والاضطراب والمصريون يريدون التغيير أيا كانت النتيجة. الصورة من AP

وحتى بلا سترة وعباءة، عرفت سريعًا أن علَي ارتداء ملابس مختلفة. لا يرتدي القاهريون الشورتات، ولا يستخدمون حقائب الظهر، وبالتأكيد لا يجمعون بينهما [!]. في أيامي الأولى هناك، لم أكن قد ارتديت أيًّا منهما، واستقبلني الناس بلا مبالاة وأنا أسير في الشارع. عندما ارتديت شورتًا أخيرًا ووضعت كتب الدراسة في حقيبتي، طالعني الرجل نفسه الذي لم ينطق بكلمة في اليوم السابق، وتحدث إلَي بإنجليزية واضحة: "أهلاً يا أستاذ، هل يمكنني مساعدتك في شيء؟". عدت إلى البنطلون ودفتر الملاحظات.
في الوقت نفسه، وصلت إلى مجتمع ذي امتيازات مختلفة.

اختفت صورة الرجل المسيحي الأبيض التي اعتدت عليها، وحلت محلها صورة أكثر قتامة وألفة؛ وهي صورة وجدتها للمرة الأولى مناسبة لي: بشرة سمراء، شعر أسود، واسم مسلم. ومع الملابس المناسبة، ظنني البعض مصريًّا، بينما ظنني معظمهم سوريًّا، وقد سمحت لي كلتا الهويتين بحرية مطلقة لاستكشاف القاهرة. في العام الماضي، أضفت سمة مميزة أخرى: لحيتي. بدأ الأمر في الغالب إشارة رمزية إلى صورة نمطية شائعة أحيانًا، مقبولة في كثير من الأحيان، وتسود أمريكا: "أسمر بلحية؟ إرهابي!".
لكن عندما وصلت إلى القاهرة، اتضح أن هذا الخوف من اللحية لم يكن مقيدًا

بحدود. فقد أخبرني العديد من أصدقائي المصريين، مازحين في البداية، ثم بأسلوب أكثر جدية، أنني أبدو إخوانيًّا، أي عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين. ويبدو أن هناك أربعة مستويات من شعر الوجه: حليق، لحية خفيفة أنيقة، إخواني، ثم ناشط. كيف يصل الناشطون إلى المستوى الرابع دون المرور بالمستوى الثالث؟ لا أعرف.
"عالم من النشوة"
يوم الخميس ٢٧ يونيو، بعد أربعة أيام من بدء دراستي، توقفت في ميدان التحرير خارجًا من المترو. كانت مسيرة 30 يونيو لا تزال بعد يومين، لكن من المقرر أن يلقي مرسي كلمة في وقت لاحق من تلك الليلة،

لأني عانيت في فهم الخطاب الرئاسي، لجأت لزميلي المصري في السكن طلبًا للمساعدة في الترجمة، فضحك وقال إنه هو نفسه لا يفهمه

يتناول فيها جزئيًا التظاهرات القادمة، لذلك تجمع المتظاهرون لمشاهدة عرض لها في الميدان.
جلست بجانب مجموعة من النساء المسنات، وركزت أعيننا على المشهد الذي كان يتكشف. كان عالمًا من النشوة، من الجاذبية الجماهيرية. حتى ولو بأعداد محدودة، كان الناس متجمعون معًا، يهتفون ويصفقون، يقودهم رجل يجلس على كتف آخر. أنهى هتافًا، وأشعل شمروخًا وبدأ يحركه، والشمس تخفت في الخلفية. كان المشهد أشبه بمزيج قوي من الثورة وملاعب كرة القدم وغلاف نيوزويك رديء. وشعرت كأنني في وطني.

بعد فترة وجيزة في التحرير، فهمت إدمان الثورة والاحتجاج. لقد مُنح أولئك الذين كانوا تقليديًّا محدودي التأثير على توجهات المجتمع، على الفور فرصة التعبير عن آرائهم، مع وعد بصدى يسمعه الألوف. انقلبت مفاهيم الطبقة والمكانة، حيث وقف الرجال المعوزون على أكتاف الآخرين، بأصواتهم العالية. تأسس هذا التضامن الاجتماعي الجديد على معارضة واسعة النطاق لكل ما أصبحت الحكومة تمثله؛ عدم الكفاءة والظلم والطائفية.
على الرغم من أن كثيرًا من الانقسامات الاجتماعية التقليدية قد تلاشت، فقد ظل حاجز النوع الاجتماعي قائمًا.

ومع أني رأيت الكثير من النساء في التظاهرة، وفي تظاهرات أخرى في الأيام التالية، فقد كان عليهن مواجهة خطر حقيقي يتمثل في التحرش والاعتداءات الجنسية، وخصوصًا في الليل.
كانت مجموعتا OpAntiSH وTahrirBG_DWB من بين مبادرات تسعى إلى التصدي لمحاولات الاعتداء، وتوجد عادة في أغلب التظاهرات الكبرى في الميدان، وقد أفادت المجموعة الأولى بأن متوسط عدد حوادث الاعتداء في نهاية ليلة من الاحتجاجات يصل إلى عشرات الحالات. تحت وطأة غضبي من القصص والإحصاءات، خطرت لي فكرة التطوع معهم، لكنني أدركت في النهاية

المصريين، وفقًا لمعايير "الحرب على الإرهاب"، كانوا جميعًا سيعتبرون موضع شبهة في أمريكا، مهما كان موقعهم من الصراع

أن آخر ما يحتاجه المصريون هو "مساعدة" من أجنبي حسن النية.
بعد ساعة عدت إلى الشقة. في وقت سابق من ذلك اليوم، حثني أستاذي على متابعة خطاب مرسي. ولأني عانيت في فهم الخطاب الرئاسي، لجأت إلى زميلي المصري في السكن طلبًا للمساعدة في الترجمة، فضحك وقال إنه هو نفسه لا يفهمه، مع أننا كنا نعلم أن مشكلته كانت مع الرسالة السياسية، بينما مشكلتي مع المفردات. أنهى ضحكته، وأشار مرة أخرى إلى لحيتي. وبعد أن شاهدت التظاهرة التي تهاجم الإخوان، قررت أن الوقت على الأرجح قد حان لتشذيبها.

تغيير مصر، وتغيير اللحية
في تلك الليلة، قصدت محل حلاقة في شارع مجاور، وقلت للحلاق بعاميتي الركيكة إنني أريد أن تكون لحيتي مثل لحيته، والشيء نفسه لشعري. شعرت كأنني أحد المواطنين والمقيمين ذوي البشرة السمراء في الولايات المتحدة الذين اضطروا، في الأسابيع التي تلت أحداث ١١، إلى استبدال لحاهم بأمواس الحلاقة وعمائمهم (الـ pagdis) بالضفائر (dreads)، إلا أن المصريين، وفقًا لمعايير "الحرب على الإرهاب"، كانوا جميعًا سيعتبرون موضع شبهة في أمريكا، مهما كان موقعهم من الصراع.
وبعد نصف الساعة، خرجت بمظهر "مصري أنيق"،

بلحية خفيفة وتسريحة شعر "فوهوك" (faux-hawk). كنت أستطيع أن أتحمل تعليقًا عابرًا من أحد خريجي المدارس الخاصة الثملين في حفلة جامعية، من نوع "لحية إرهابية ظريفة!"، لكن التهديد بغضب قابل للانفجار من مئات الألوف من المتظاهرين كان وضعًا مختلفًا تمامًا. أدركت أنني لم أعد أظهر عنادي بوصفه فعلاً نضاليًّا، بل أراه مجرد عناد فارغ. لكن حتى بعد أن شذبت لحيتي، ظلت الأسباب التي جعلتني أطلقها قائمة. كانت لحيتي دحضًا لدلالات ضيقة ارتبطت بها في كل من أمريكا ومصر. فالتفكير الأحادي، وبساطة استنتاجاته، أمران شديدا الخطورة دائمًا.

بالغنا في تخزين الأطعمة المعلبة والنودلز، وبقينا في المنزل خلال أيام الاحتجاجات العنيفة. لكننا واصلنا حياتنا المعتادة بعد 30 يونيو

الصراع في مصر ليس صراعًا بين طرفين اثنين، بل يضم أطرافًا عديدة: من حركة تمرد (المجموعة التي نظمت الاحتجاجات وتعكس إلى حد كبير هموم اليسار المصري)، إلى الفلول الذين عادوا إلى الظهور (بقايا نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك)، إلى الجيش الحاضر دائمًا، والإخوان المسلمين، وغيرهم.
وتكمن الإشكالية في أن هذه الأطراف، باستثناء الإخوان، باتت تتحدث بلسان واحد، مما يعطي انطباعًا بوجود تحالف سياسي حقيقي. غير أن هذا التحالف الظاهري قائم بالأساس على رفض الإخوان المسلمين، فهم متحدون فقط في معارضتهم لهم، وهو أساس

بالغ الخطورة لأي شراكة سياسية.
لكن هذا الصراع ليس صناعة مصرية خالصة. فإلى جانب داعمين آخرين، ما يزال دافعو الضرائب الأمريكيون يمولون الجيش المصري بمقدار 1.3 مليار دولار سنويًّا، وهو الجيش ذاته الذي رأيته آنذاك يعزل رئيسًا منتخبًا، ويتحول فعليًّا إلى سلطة حاكمة للدولة، وفي نظر معظم الأمريكيين هذه ليست عملية ديموقراطية.
وبينما المعارك حول تصنيف مصر وتعريفها والسيطرة عليها لا تزال مشتعلة، كنا، أنا وزملائي في السكن، نعيش بين ضغط السيناريوهات الكارثية وتفاصيل الحياة اليومية العادية. فبالغنا في تخزين

ترى كيف ستصف الأبحاث المهتمة بسياسات الهوية صلاة الطفل زهران ممزاني ببدلة سابيدر مان؟

ترى كيف ستصف الأبحاث المهتمة بسياسات الهوية صلاة الطفل زهران ممزاني ببدلة سابيدر مان؟

الأطعمة المعلبة والنودلز، وبقينا في المنزل خلال أيام الاحتجاجات العنيفة. لكننا واصلنا حياتنا المعتادة بعد 30 يونيو: ذهبت إلى الجامعة، وذهب زملائي إلى أعمالهم.
وفيما يستعد معظم أصدقائي الأمريكيين للمغادرة تنفيذًا لنصيحة السفارة الأمريكية في مصر لرعاياها بالمغادرة، لم أرَ تلك الأجواء المتوترة التي وصفتها التقارير الإخبارية. وكنت، انطلاقًا من مظهري المصري، أرى الشوارع مثلما هي؛ الناس لا يزالون على استعداد للحديث، والمترو مزدحم مثلما هو الحال من قبل. لم ألاحظ أي فرق إلا عندما كنت أتجه نحو ميدان التحرير، حيث أواجه نقطة تفتيش لتفقد

المتظاهرين، وفي الأفق مئات الألوف من الأشخاص.
ما بعد مرسي
تحققت أمنيات الجماهير يوم ٣ يوليو، عندما أعلن الفريق عبد الفتاح السيسي، قائد الجيش المصري، استقالة مرسي من منصبه، وتعليق العمل بالدستور، وإجراء انتخابات جديدة قريبًا.
بينما أنا غارق وسط نشوة المتظاهرين المناهضين لمرسي في حيي، كان قلق والدَي يتضاعف يومًا بعد يوم. غادرت القاهرة في الساعات الأولى من صباح الجمعة، 5 يوليو بعد أن وافقت أخيرًا على طلبهما بالعودة إلى كمبالا في أوغندا. بقيت مع عائلتي أسبوعين، قضيتهما في إعادة تقديم طلب

تأشيرة مصرية، ومحاولة إقناع والدَي أن يسمحا لي بالعودة إلى القاهرة. رضخ والداي، وفي يوم الأحد، 21 من يوليو عدت. استقبلت زملائي في السكن بابتسامات وأحضان، وتحدثت بالعامية بحماسة، وأفرغت حقائبي لأقضي الأسابيع الثلاثة الأخيرة في القاهرة.
طوال فترة وجودي في منزلي بكمبالا، كنت متأكدًا من أن والدَي تسرعا في استدعائي. فرغم وجود عنف في القاهرة، كان محدودًا، وفي إمكاني تجنبه تمامًا. لكن عندما دخلت قاعة الدرس يوم الاثنين، ٢٢ يوليو فقدت يقيني. كان هناك أمران أتوقعهما في كل حصة؛ أن يطرح أستاذي وجهة نظره كمؤيد للإخوان خلال مناقشاتنا،

نصحني أستاذي بالتوقف عن الكلام بالعربية، والتحدث بالإنجليزية فقط، كي لا يظن أحد أنني سوري. اضطربت مما قاله، ولم أفهم تداعياته

وأنه يفعل ذلك وهو ملتح. ومع أننا واصلنا مناقشاتنا، وجدت أنه استبدل لحيته بشارب، نازعًا بذلك شعر وجهه طابعه السياسي، تاركًا له مظهرًا جميلاً فقط. تجاهل أسئلتي عن السبب، مقللاً من شأن مظهره الجديد، فانتقلنا إلى قواعد اللغة، تاركين الواقع وراءنا.
دائمًا ما كان أستاذي يطلب مني أن أتمشى معه إلى المترو بعد انتهاء الحصة، وكنت أرفض بحجة رغبتي في الاتصال بصديقتي أو المشي في الشوارع بمفردي. في ذلك اليوم، كنت متحمسًا جدًا للعودة إلى القاهرة، وإلى الحصة، وإلى التحدث بالعربية، فسألته إن كان بإمكاننا التمشية معًا. ونحن نغادر معهد اللغات، أشار إلى لحيته،

وأخبرني أن والدته طلبت منه حلاقتها بسبب الخطاب المعادي للإخوان في الشوارع. نظر إلَي وقال إنه ابنها الوحيد، وعليه أن يستجيب.
واصلنا التمشية، ولاحظت أنه يتجنب الكلام، على عكس ما يحدث في الصف. عندها تذكرت شيئًا قاله سابقًا عندما ذكرت تصاعد الخطاب المعادي للأجانب تجاه الفلسطينيين والسوريين كجزء من خطة الجيش لربط الإخوان بقوى خارج مصر، ساعتها نصحني أستاذي بالتوقف عن الكلام بالعربية، والتحدث بالإنجليزية فقط، كي لا يظن أحد أنني سوري. اضطربت مما قاله، ولم أفهم تداعياته إلا ونحن في طريقنا للمترو، إذ خارج قاعة الدرس،

كانت أحاديثنا قصيرة، سريعة، وهادئة بسبب خوفه. عندما دخلنا المترو، فقدت متعة المشي من مكان إلى آخر والتحدث مع من كان بجانبي؛ وقررت الإطراق والسير بخطى سريعة، معتبرًا كل رحلة وسيلة لا غاية.
من القاهرة إلى برونزويك
في يوم الأربعاء الموافق ٢٤ يوليو، أعلن السيسي أنه يريد من المصريين أن يخرجوا إلى الشوارع بعد يومين ليمنحوه تفويضًا شعبيًّا لـ"مواجهة الإرهاب". ولو استبدلت كلمة "الإرهابيين" بـ"الإخوان"، فستفهم الرسالة بوضوح. وكانت مشكلتي أن هذا الاستبدال امتد لما هو أبعد من ذلك: فصار ذو اللحية يعني الإخواني،

في صباح الخميس كنت على متن طائرة متجهة إلى نيويورك، وفي مساء الجمعة، كنت في سريري في برنزويك أشكو لأصدقائي فشل خططي

والسوري يعني الإخواني، والأجنبي يعني الإخواني.
التفكير الأحادي يضرب من جديد إذن، وحتى بعد أن حلقت لحيتي في الليلة السابقة، واخترت بدلاً منها لحية صغيرة goatee تضفي مظهرًا مريبًا بعض الشيء، ظللت مطابقًا لوصفين من تلك الأوصاف. وفي ليلة الأربعاء تلك، أخبرني والداي أن علَي المغادرة، هذه المرة وافقتهما الرأي.
وفي صباح الخميس، كنت على متن طائرة متجهة إلى نيويورك، وفي مساء الجمعة، كنت في سريري في برنزويك Brunswick أشكو لأصدقائي فشل خططي، لكن حياتي المريحة لا تقارن بحياة المصريين العاديين.

كان ظل محمود وميرا يحوم حول زهران دائمًا حتى جلس على كرسي عمودية نيويورك

كان ظل محمود وميرا يحوم حول زهران دائمًا حتى جلس على كرسي عمودية نيويورك

فمثلهم، أمضيت الشهرين الأخيرين أراقب مراحل الاضطراب، لكن بينما كنت مجرد متفرج، كانوا ينجرفون في قلب الأحداث. لقد انتهى ارتباطي بمستقبل مصر منذ أن وطأت قدماي أرض مطار چ. ڤ. كيندي، أما ارتباطهم هم، فسيبقى إلى الأبد. ومن أجلهم، يجب أن نأمل أن يكون هناك حل في الأفق.
في ظل هذا الوضع المعقد، أين تكمن الإجابات؟ توجد على الحدود بين ركائز الشؤون السياسية التقليدية ورؤى عالم تويتر، حيث يقدم كل من Sharif Kouddous، و Patrick Kingsley،
و Sarah Carr، و Moftasa أعمق التحليلات وأكثر الرؤى فهمًا للموقف.

وأنصح المهتمين باللجوء إليه، بعدما صار الآن المكان الوحيد الذي يمكنني الذهاب إليه، فيما تتلاشى شوارع القاهرة من الذاكرة.

اقرأ أيضاً

رئيس مسجون وصحفي مات في حفلة تعذيب

رئيس مسجون وصحفي مات في حفلة تعذيب

زهران… فاصل بين هزائم يومية

زهران… فاصل بين هزائم يومية

الحب والطبقة في زمن تحرير المرأة 

الحب والطبقة في زمن تحرير المرأة 

القاهرة بين سيدتين

القاهرة بين سيدتين

في انتظار المقاول.. المسلح

في انتظار المقاول.. المسلح

الصوت والرغبة

الصوت والرغبة