القاهرة بين سيدتين

التاريخ الموازي للنساء في المدينة

القاهرة بين سيدتين

  • أسبوعي
  • نص
  • كتابة

عكس سرديات تقطع بهيمنة الرجال على تاريخ القاهرة، توجد سردية موازية تشي بحضور لا يستهان به للمرأة، تمارس سلطاتها الروحية وإن خلف حجاب.

عطر المدينة بين سيدتين
استيقظت على صوت جارتنا تنادي باسمي، كنت وقتها في سنة الليسانس، انتظر ظهور نتيجة الفصل الدراسي الأخير، "هتنجح بس ستنا زينب قالت لي في المنام لازم تزورها الأول" هكذا قالت، فما كان مني إلا الذهاب إلى جامع السيدة زينب لكي يتحقق المراد. كانت هذه المرة الأولى التي أدخل فيها العالم السحري لمدينة القاهرة، عالم تسيطر عليه النساء وتشكل أبعاده الروحية، لم تكن زيارة السيدة إلا تجربة كشفت لي عن عوالم القاهرة المدهشة التي لا تظهر على السطح، مع الوقت اكتشفت تفاصيل مدهشة عن الحضور النسائي الطاغي الذي يشكِّل

روح المدينة، حيث تلعب المرأة الدور الرئيسي في تشكيل طبقة لا ترى بالعين المجردة بل تمارس فعاليتها من وراء حجاب، وتنسج شبكة علاقاتها بخيوط سحرية لا تُرى.
تتحول نساء القاهرة إلى مجندات في جيش سري غير منظور، ينشر الديانة الشعبية التي تحمل جينات مصر الحضارية، وتتراكم فيها تجارب التدين التي لا تعترف بحدود الدين الرسمي، يتحول التدين هنا إلى تجربة معاشة، تنقل شفراتها المصريات إلى الأبناء والبنات، يحرصن على توريثها وبقاء طقوسها حية في النفوس، وتلعب المرأة المصرية هنا الدور المهيمن على الفضاء الاجتماعي،

مع الوقت اكتشفت تفاصيل مدهشة عن الحضور النسائي الطاغي الذي يشكِّل روح المدينة..

بصورة عادة ما نتكاسل عن دراستها، إذ احتكرن هذا الحيز وهيمن عليه في الوجدان الشعبي.
سيدة الدار
تتحول السيدة زينب في الميراث الشعبي ذلك إلى نموذج يرث ما قبله من نماذج نسائية تلخص معاني التحمل والإباء ورمزية الصمود، بداية من إيزيس التي لم تنكسر بعد مقتل زوجها أوزوريس، مرورًا بالسيدة مريم البتول التي صبرت على ما نال ابنها من اضطهاد. وهنا يتجلى التواصل الحضاري المصري الذي ينبني على أن الأصل هو المرأة، سيدة الدار، حجر الزاوية، في أسر المجتمعات النهرية.

شهدت السيدة زينب مقتل أخيها الحسين وابنها عون في معركة كربلاء، فلم تنكسر وثبتت ولمت شتات أسرتها أمام هول الواقعة، هذا النموذج وغيره يعكس الواقع الذي تعيشه المرأة المصرية في الريف، حيث يغيب رجلها بسبب الموت السريع، أو بحثًا عن الرزق في أرض بعيدة، فتتحمل هي مسؤولية الدار والعائلة في صبر وجلد متلحفة بالسواد.
حلم الخواص
الأسطورة هنا أقوى من الحقيقة، فالسيدة زينب لم تدفن في مصر، وربما لم تدخلها أصلاً بحسب ترجيح الروايات التاريخية، والمنطقة التي يوجد فيها جامع السيدة زينب الآن 

كانت تعرف باسم قناطر السباع، ومغمورة بمياه النيل، الذي غير مجراه أكثر من مرة جهة الغرب في عصور تالية على تاريخ وفاتها. وينتمي ضريحها الشهير بالحي الذي يحمل اسمها، إلى مشاهد الرؤيا، إذ رأى علي الخواص وهو شيخ صوفي عاش في بدايات الحكم العثماني لمصر، السيدة زينب في المنام، تخبره بأنها مدفونة في المكان الذي حدده، فبدأ العناية بالقبر البسيط الذي تحول بفعل محبة المصريين إلى نقطة جذب روحي، حولت الأرض الفضاء حولها مع الوقت إلى أكبر أحياء القاهرة وأكثرها كثافة سكانية، فالمحبون تجمعوا حول مشهد السيدة ورغبوا في السكنى حوله.

تحول مقام السيدة زينب البسيط بفعل محبة المصريين إلى نقطة جذب روحي

هكذا تحول حلم علي الخواص في العام 935هـ/ 1528م، إلى لحظة ميلاد تلك البقعة السحرية التي رسمت من خلالها السيدة زينب الحياة الروحية لأهالي القاهرة ومصر كلها على مدار خمسة قرون، فتوالت الإنشاءات والتوسعات على هذا الضريح من قبل السلطات المتعاقبة، بينما أولع المصريون به، وعرف باسم مشهد (ستي زينب) كما جاء في وصف مصر لعلماء الحملة الفرنسية.
رئيسة الديوان
نظر المصريون إلى السيدة زينب باعتبارها نبع الحنان وفك الكرب، عندها تقضى الحاجات وتنحل الأزمات، لذا أمطروها بوابل من الألقاب

التي تليق بمقامها الروحي، فيها: "أم العواجز"، و"أم الضعفاء والمساكين"، و"أم هاشم"، و"رئيسة الديوان"، و"صاحبة الشورى"، و"عقيلة بني هاشم"، و"الطاهرة"، و"أم العزائم"، ومعظم هذه التسميات تتعلق بالأدوار الروحية التي ربطها المصريون بالسيدة زينب، فهي من تحل مشكلات تأخر الزواج والإنجاب وغيرها من المشكلات يومية تعرض عليها في ديوان الأولياء. يقال بين أهل التصوف في مصر إن السيدة زينب هي نبع الحنان، بينما يتولى الإمام الحسين أمور حماية مصر من كل شر، وهي أمور تعتقدها نساء الأحياء الشعبية وينشرنها في ربوع المدينة، لذا يتعامل المصريون مع مقام

الحسين بشيء من الحذر والاحتشام الزائد مع تسلل رهبة للوقوف أمام حامي حمى مصر في دولة الأنوار، على عكس الحالة التي تتلبس المرء عند مقام السيدة زينب، التي تمارس دورها الأمومي على زوارها.
هل لهذا أشعر بالراحة النفسية أمام مشهد السيدة زينب أكثر من مشهد الحسين؟ هي أمور لا أجد لها تفسيرًا! مزاج مصري
الغريب أن مكانة مشهد السيدة زينب طمست بعض الشيء مكانة السيدة نفيسة، الثابت دفنها في مصر، التي كانت النقطة الروحية الأكثر جذبًا في العاصمة المصرية منذ دفنها في القرن التاسع الميلادي

الغريب أن مكانة مشهد السيدة زينب طمست بعض الشيء مكانة السيدة نفيسة

حتى بروز مشهد السيدة زينب، ربما يرجع ذلك إلى المكانة الخاصة للأخيرة كونها حفيدة النبي، وابنة الإمام علي والسيدة فاطمة وشقيقة الحسن والحسين، وهي عمة كبرى للسيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي. لكن التفسير بالتقدم في النسب لا يكفي وحده لتفسير هذا التحول في المزاج المصري صوب مشهد السيدة زينب، يمكن إرجاع الأمر إلى ميل نساء القاهرة بشكل فطري إلى قصة السيدة زينب، بكفاحها وما واجهته من مصائب حلت على عائلتها بصبر وجلد، إذ كانت السند لأسرتها وقت عز الناصر، فأعيد توظيف رمزيتها من قبل نساء القاهرة فكل واحدة رأت

في قصة السيدة زينب التعويض والسند النفسي لما تواجهه من مصاعب الحياة، فرغم ما تقابله سيكون في سيرة أم هاشم العزاء. لذا تحرص نساء المدينة على زيارة مشاهد نساء آل البيت بصورة دورية في كل الملمات، عادة تورث للأبناء ذكورًا وإناثًا. فلا غرابة أن تجد سيارات الميكروباص تنتظر في أول أيام العيد نساء الحي لحملهن لأداء صلاة العيد في أحد مساجد نساء آل البيت، قبل التوجه إلى جبانات القاهرة، الغريب أن هذه ظاهرة تاريخية فالكثير من الفقهاء المحافظين عبروا عن استيائهم من خروج النساء للمقابر في أيام الجمع والأعياد، لكن منطق النساء أطاح بمطالب الفقهاء إلى ذمة التاريخ.

أم النور
تعود إلى ذاكرتي سيرة جارة من جارتنا في حي إمبابة الشعبي، تسمى كعب الخير واسمها سميحة، كانت تحرص على زيارة السيدة زينب والسيدة نفيسة في الموالد والمواسم الدينية المختلفة، لكن ما جعلها محفورة في ذاكرتي، هو خروجها في يوم معلوم، وقد كحلت عينيها "النهاردا سبت النور"
تقول مبتسمة، فهي تمارس هذه العادة المصرية التي تعد من صميم احتفالات أسبوع الآلام، لكنها تفعل ذلك من أجل أم النور؛ السيدة مريم. وتلعب العذراء دورًا مكملاً في بناء أسوار المدينة الروحية في القاهرة وتحديد أبعادها، فإذا كانت نساء آل البيت

في الأحياء الشعبيةتزور النساء مقام السيدة زينب من أجل "أم النور"؛السيدة مريم في أُسبوع الآلام

يلعبن هذا الدور في الجزء الجنوبي من المدينة وقلبها، فالسيدة مريم التي تحظى بالتقديس والتقدير العالي من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، تمارس هذا الدور في الجزء الشمالي من المدينة؛ وتحديدًا في حي المطرية، ذلك الحي المبني على أطلال مدينة أون الدينية في مصر القديمة.
تقع شجرة مريم في شارع المطراوي، بمنتصف المسافة بين مقام سيدي أحمد المطراوي ومسلة سنوسرت الأول، ولها مكانة روحية عند المسيحيين والمسلمين على حد سواء، ما انعكس على هذه الشجرة التي ارتبطت برحلة العائلة المقدسة لمصر، إذ أصبحت محل زيارات مستمرة لنيل البركة من المسيحيين

المصريين والرحالة والحجاج من مختلف الأصقاع، لتخلق نقطة روحية في المدينة توازي ثقل الحضور الديني للسيدة زينب في جنوب المدينة.
يذكر المؤرخ المقريزي في كتابه (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) أن سبب تعظيم هذه الشجرة يعود إلى "أن المسيح لما خرجت به أمه، ومعهما يوسف النجار، من بيت المقدس، فرارًا من هيردوس ملك اليهود"، نزلت أكثر من موضع بمصر، منها "عين شمس، فاستراحوا هناك بجوار ماء، فغسلت مريم من ذلك الماء ثياب المسيح، وقد اتسخت، وصبت غسالتها بتلك الأراضي، فأنبت الله هناك البلسان… وعمرت هذه البئر التي هي الآن موجودة هناك،

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

لايمكن فهم القاهرة وتاريخها بدون معرفة التاريخ الشعبي؛الأكثر أنثوية مقارنة بالتاريخ الرسمي 

على ذلك الماء الذي غسلت منه مريم".
مدينة الأرواح
بين السيدة مريم في شمالي القاهرة والسيدة زينب في جنوبها، يسيطر العنصر النسائي على إيقاع المدينة الروحي، فلا يمكن الدخول إلى أبواب مدينة الأرواح تلك إلا من خلال هذه المداخل السحرية، حيث الحضور النسائي على مستوى الرمز والممارسة،  فلا يمكن فهم القاهرة وتاريخها الذي يختصر تاريخ مصر وشعبها، هنا نلتقي بصورة معكوسة عن التاريخ الرسمي، فإذا كان الأخير أكثر ذكورية فالتاريخ الشعبي أكثر أنثوية، كما هي العلاقة بين التدين الرسمي والشعبي. هذه الروح سرت في الأدب المصري المعاصر،

لايمكن الدخول إلى مدينة الأرواح إلا من خلال المداخل السحرية؛وستكتشف بسهولة مدى تشابه موالد الأولياء والقديسين

لايمكن الدخول إلى مدينة الأرواح إلا من خلال المداخل السحرية؛وستكتشف بسهولة مدى تشابه موالد الأولياء والقديسين

نرى توفيق الحكيم يهدي عمله (عصفور من الشرق) "إلى حاميتي الطاهرة السيدة زينب"، بينما يشدو المطرب محمد عبد المطلب بكلمات زين العابدين عبد الله "ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن في الحسين"، بينما ركز يحيى حقي ابن حي السيدة، مشروعه الأدبي على تفاصيل العلاقة بين السيدة ومحيطها البشري، سواء في (قنديل أم هاشم)، و(أم العواجز). في الحضور الشعبي تتجلى طبيعة العلاقات التي ترسمها النساء، وتزرعها في نفوس الرجال، ومارست المرأة هيمنة وأدوارًا رسمت خريطة المدينة وطبيعة علاقتها الاجتماعية والثقافية من خلال بوابة الدين والتدين الشعبي،

التي تشكل نسيج المجتمع وبنيته الداخلية، إذ سمح التصوف الشعبي للنساء بمجال حركة أكبر مما سمح به المجال العام والرسمي، بل منحها سلطة وقدرة على التعبير والممارسة الطقسية والتأثير الاجتماعي بصورة كبيرة حتى قبل عصر الحداثة والحديث عن حقوق المرأة وخروجها للفضاء العام، لقد كانت المرأة موجودة منذ البداية، وتلعب دورها حتى ولو من وراء حجاب الصوفية.

اقرأ أيضاً

في انتظار المقاول.. المسلح

في انتظار المقاول.. المسلح

الصوت والرغبة

الصوت والرغبة

بين كوشنر ولابيد وشب جديد

بين كوشنر ولابيد وشب جديد

 هكذا غيرت عزيزة أمير العالم من حولها

 هكذا غيرت عزيزة أمير العالم من حولها

وقائع معارك منسية في تاريخ النسوية

وقائع معارك منسية في تاريخ النسوية

ما يطلبه الفاشيون!

ما يطلبه الفاشيون!