«لقد حققت عزيزة أمير ما فشل الرجال في تحقيقه!».. هكذا صرَّح طلعت باشا حرب في العرض الأول لفيلم ليلى...
في يوم الثلاثاء 1 نوفمبر 1927، نشرت صحيفة الأهرام المصرية اليومية الخبر التالي:
«أخيرًا ولد التمثيل الصامت في مصر، وبرز نجم ساطع في السماء المصرية، نجم يبدو أنه يخدم مصر وأبناء مصر، ويتوقع منه القيام بخدمة دعائية عظيمة، ما الدعاية التي ستخدم الوطن على الوجه الأمثل؟ إنها السينما، سينما مصرية وطنية خالصة، ما الذي يمنعنا من أن نمتلك خلال سنوات قليلة، مدينة مثل هوليود؟».
بهذه اللغة المقتضبة، والإصرار على تكرار اسم البلاد، والحرص على ربط القومية والثقافة ومساحات الإنتاج السياسي، شكَّل الإعلان جزءًا من الإعلان
عما عرف بأول فيلم مصري؛ ليلى، (إخراج وداد عرفي وستيفان روستي، 1927). خصوصًا وأن المشروع بدأته وأنتجته وأخرجته جزئيًّا امرأة؛ هي عزيزة أمير "كما لعبت دور البطولة الرئيسية في الفيلم". لا شيء يبدو عاديًا على الإطلاق بشأن هذا الحدث في المنجز الفني المصري.
بالإضافة إلى الصحافة، دعمت القامات الأدبية الشهيرة، مثل طه حسين وأحمد شوقي، عزيزة أمير،
وحضر العرض الأول له عدد من الشخصيات الشهيرة، من بينهم الاقتصادي الوطني الذي لم يعرف عنه دعمه للنساء، مؤسس شركة مصر للتمثيل والسينما/ ستديو مصر، طلعت باشا حرب، الذي أكَّد أن "عزيزة أمير
حققت ما فشل الرجال في تحقيقه". وعُقد له عرض خاص داخل قصر الملك فؤاد، الذي تم تكريس حكمه تحت مظلة وضع «الحماية المؤقتة» الذي دشنت به بريطانيا مرحلة مصر الديموقراطية.
حقق فيلم «ليلى» نجاحًا كبيرًا، واسترد ثلاثة أضعاف تكاليف إنتاجه، وذلك بعدد قليل من العروض، وقد جاءت «مصريته» تمامًا في الوقت المناسب وبالشكل المناسب، ما شجع على جذب الجمهور من جميع الأطياف.
أعاد الفيلم وصانعته صياغة سلسلة من النقاشات الضرورية حول الهوية الوطنية والتحرر، وأزعم أنهما أنجزا ذلك، عبر فسيفساء معقدة من القصص
الرمزية، والأنماط المعاصرة لكتابة التاريخ، والإشارات المحيلة إلى الجغرافيا السياسية، لعبتها نساء خياليات وحقيقيات. ويمتد هذا النمط المتشابك من الاهتمامات، من خصوصية إنتاج الفيلم واستقباله في أواخر العشرينيات، حتى السرديات التي لا تزال تُروى بانتظام عن فيلم ليلى حتى الآن. لم تنل عزيزة أمير تمجيدًا مستمرًا في الدراسات السينمائية العربية العامة والتاريخية الخاصة فحسب، فلم يكن من الممكن تهميش مكانتها كامرأة، أو اختلاق وضع استثنائي لها، مثلما كان سيحدث لو عملت في الغرب (حيث لا تزال غير معروفة إلى حد كبير).
في الآونة الأخيرة فقط اعتمدتها باحثات
أعاد فيلم «ليلى» وصانعته عزيزة أمير صياغة سلسلة من النقاشات حول الهوية والتحرر -الصورة من أرشيف مدينة الرقمي
عرب مثل منى غندور وماريان خوري بطلة نسوية صريحة. وحتى الآن فمكان عزيزة يقع بشكل آمن وحصري تقريبًا ضمن السرديات السائدة التي يطرحها، إلى حد كبير، كُتَّاب ذكور. وهذا يخبرنا الكثير عن كيفية اعتبار مبادئ وتعهدات تحرير المرأة، غير قابلة للفصل عن النضال الأوسع المناهض للإمبريالية، وهو افتراض مشحون أحيانًا يسعى هذا المقال إلى التحقق منه. وهكذا، سرعان ما أعيدت صياغة أسطورة «ليلى»، بعدما انتفت فرصة العودة إلى النص الأصلي من أجل بعض التفكير النقدي: فلا توجد الآن مطبوعة تحوي نص الفيلم. كما تتباين وجهات النظر حول تفاصيله بشكل ملحوظ
في السرديات العديدة المنتشرة عنه، وهو ما يجعل خسارة الفيلم أكثر من مجرد مأساة أرشيفية أخرى؛ لقد أصبح «الفيلم» الآن وعاءً شبحيًّا للعديد من الأوهام السياسية والتطلعات المرتقبة.
ويبدو أن من اطلعوا على النص الأصلي مرروا هذه المعلومات إلى البقية التي لم تشاهده (المثير للاهتمام أن قلة من الناس يعترفون أنهم لم يشاهدوا ليلى قط)، وقد بدأ هذا سلسلة من التقارير شابها الكثير من سوء الفهم، إذ حُورت عمدًا، أو أعيدت صياغتها وفقًا لاهتمامات كل متحدث.
سيكون تتبع هذه التباينات في وصف الفيلم المفقود مغامرة رائعة في حد ذاتها لأي مؤرخ مهتم بالثقافة المصرية.
غير أن ما أحرص على تحقيقه هو كيف أدى هذا الفيلم، الذي عُرض منذ فترة طويلة، إلى نمو القوميات والحركات النسوية الناشئة، مع وضع السياسة الرمزية والمكانية في الاعتبار. وعليه فمن الحكمة النظر إلى ما بقي من المصدر والسياق الأصليين المفترضين، بدلاً من البحث في متن المراجع التي تشير إلى الفيلم.
وسنجد مجموعة واضحة من المواضيع المناهضة للاستعمار، والمؤيدة للقومية، الشبيهة بالشعارات التي تكررت في العديد من السرديات المذكورة عن الفيلم: قروية شابة، ليلى (عزيزة أمير)، تهب نفسها لبدوي محلي، أحمد (وداد عرفي)، الذي يهرب لاحقًا مع سائحة
أجنبية، تاركًا ليلى حامل خارج إطار الزواج، وعرضة لتحرش مُسن خسيس، سليم (أحمد جلال).
في هذا المقال، تتردد أصداء مخاوف مماثلة بشأن دور «الزائر»، القادم من النسيج العالمي، الاستعماري غالبًا، لثقافة السينما المصرية في عشرينيات القرن الماضي، ويتردد صداها كذلك من موقعي كباحثة أجنبية تتبعت الاستجابات المتفردة لكل الزوار السابقين الموجودين وسط أسطورة ليلى. يتحدد نسيج الفيلم بوضوح في فضاء مدينة القاهرة المعاصرة التي تخلصت من الاستعمار جزئيًّا، لكنها ظلت متعددة الثقافات، بوجود العديد من "الأجانب" المصريين، والأقليات "العرقية"
الواقعة في المنطقة بين المحلي والمستعمر.
لكن ما حدود المجال العام التي سمحت لعزيزة أمير آنذاك بدخول هذه الفضاءات بطريقة لم يسبق لها مثيل بأي حال من الأحوال سابقًا؟ فقد نشطت خطابات التحرر الوطني، والخطابة المناهضة للاستعمار، والعالمية، والچندر التي عكسها وأثارها «ليلى»، إلى حد كبير من خلال ما نسميه بالإنجليزية «الرمزية». والرمزية واحدة من أكثر أشكال التعبير غير المباشر تفصيلاً وصلابة وسردية، وربما هي الأنسب لفهم الشخصيات الخيالية المهمة كشخصيات الأفلام. وقد ظهرت مناقشات ملحة وحادة بالإنجليزية
بمغامرتها، دخلت عزيزة أمير المجال العام ونشطت خطابات مناهضة الاستعمار والعالمية والجندر -الصورة من أرشيف مدينة الرقمي
حول سياسة إسناد وظيفة مجازية لمثل هذه المواد، بدأت بمقال فريدريك چيمسون Fredric Jameson «أدب العالم الثالث في عصر الرأسمالية متعددة الجنسيات» وتضمنت، على سبيل المثال، تحفظات الباحثة راي تشاو Rey Chow بشأن هذا المنهج.
حذرتنا هذه الجدالات لاحقًا من صعوبات تفسير ما يسمى بـ«تعبيرات العالم الثالث» ومن مخاطر المواقف المنعزلة. وبطبيعة الحال، فإن معظم أشكال الفن السردي وجميع أنظمة الإشارات الاعتباطية تكون على الدوام رمزية/ مجازية، لا حرفية، في نقلها للأفكار؛ لكن الأكثر إثارة للقلق إجمالاً هو الإصرار (المُقيد بشكل ملحوظ)، في
كل مرة يستدعى فيها هذا الأسلوب، على أن النضال الوطني هو الموضوع الجوهري. لكن ماذا عن النصوص التي تتطلب قراءتها علانيةً ووضوحًا بهذه الطريقة، مثلما هو الحال مع شخصية ليلى وشخصية عزيزة أمير؟ نصيب الأسد من الروايات النقدية والتاريخية عن الفيلم وصانعه، مثل رواية ناقد الأهرام، مشبعة بالخطاب المجازي والحماسة القومية في وصف الفيلم وتقديره. عمومًا، مثلما يشير أنتوني جورمان Anthony Gorman: «ظلت الأمة في الدراسات التاريخية المصرية، إلى حد كبير ودون منازع، موضوعًا لخطاب رئيسي تجسد في النضال من أجل الاستقلال الوطني، وتبنت هذه
الوحدة المفاهيمية لغة التحرر». بدأ هذا الاتجاه في القرن التاسع عشر مع أعمال رفاعة الطهطاوي، ثم صار نموذجًا سياسيًّا مهيمنًّا طول القرن العشرين (وبخاصة في عهد جمال عبد الناصر)، لتنتهي إلى الكتابات عن فيلم ليلى.
ومع غياب نص الفيلم الذي يمكن العودة إليه للبحث عن المزيد من الحقائق الملموسة، استثمر الكتاب في «ليلى»كل مكانة الرمز/ المجاز، وأصنام الإنجاز المصري. وبالمثل، فإن التعبير المجازي ليس غريبًا على السياقات المصرية بأي حال من الأحوال.
وإثبات وجود الأسلوب المجازي في كل القصص والسرديات العربية والمحادثات اليومية (مثلما في أي لغة يمكن ذكرها)
ينطوي على مجموعة طويلة جدًا من الإحداثيات التاريخية التي لا مجال لعرضها هنا، ومع ذلك تظل فكرة ذات أهمية كبرى بالنسبة لنا، في فهم السلاسة والطلاقة التي يتعامل بها معظم المصريين.
لا توجد كلمة واحدة للمجاز في اللغة العربية، مما يشير، ربما، إلى أن وجودها اليومي لا يميزها، كما تفعل التصنيفات الأكثر تعقيدًا في اللغة الإنجليزية (الاستعارة، والتشبيه، وما إلى ذلك). وبالإضافة إلى عدم وجودها (وهو ادعاء يُفترض غالبًا أنه ضد التفسيرات الرمزية في السينما الوطنية)، فهي قريبة جدًا لدرجة أنها لا تستحق اعتراف المصريين بها. على الرغم من أن المجازات/ الرموز
غالبًا ما تبدو ثابتة إلى حد ما (وربما هذا هو هدفها السياسي)، فغالبًا ما يتم التغاضي عن ثباتها الدلالي الدقيق، وحيويتها من خلال الإشارات المتغيرة والمتقلبة.
يحركنا المجاز/ الرمز بين المادي وغير المادي، واللغة والموضوع، والخيال والتجلي، بطرق ربما بدت تكتيكية بطبيعتها للمصريين الذين يعيشون في بلد غير محرر تمامًا وغير مستعمر رسميًّا، ويحاول أن ينفض عنه 2400 سنة من النفوذ الأجنبي الغريب.
توفر القصة الرمزية طريقة لتصوير عناصر متسعة، سواء كان ذلك قوى مجهولة في صراعات القوى العالمية، أو مُثُل خيالية وطنية لشعب هو وحدة
ظروف إنتاج فيلم «ليلى» فتحت مجالاً للمناقشات الرمزية كما حدث حول الحجاب في العشرينات- أرشيف مدينة الرقمي
واحدة. فهو يربط ويجمع معًا كيانات ربما لم يكن من الممكن تصور تحالفها من قبل (مثل X و Y)، وهي عناصر حيوية للغاية في المقاومة الشعبية. المجاز إحدى الكلمات الرئيسية الدالة على الرمزية في اللغة العربية، من جذر الفعل (جاز)؛ ويعني "يسمح"، وهي ذات دلالات شعرية أوسع تخص الحرية، أكثر مما لها في اللغة الإنجليزية، وتظهر أهميتها في ظروف إنتاج فيلم «ليلى».
ومع أن الأمر قد يبدو مبتذلاً (المجاز عمومًا تلاعب ماهر بالكليشيهات)، فالممارسات المجازية يمكن مقارنتها بالأفكار حول الحجاب التي كانت منتشرة في مصر في العشرينيات، ولا
تزال تشتبك بشكل مثير للجدل مع الحركة النسوية العالمية حتى الآن.
رمز، مثل الحجاب، يفتح الفرصة لما لا ينبغي السماح له باختراق المجال العام بشكل مقبول من أشكال التنكر؛ وهو وضع ينطوي على خطر إستراتيچي، إذ يُدخل الخاص إلى العام، وهذه المداخل إلى المساحات المشتركة والمُسيَّسة عنصر أساسي في السرديات الرمزية التي يبدأها «ليلى»، لأسباب ليس أقلها أنها تعيد عملية تحويل الأساطير إلى تلك المساحات نفسها. وسأسعى من خلال هذا المقال إلى كشف مقولات التحرر الوطني وتحرر المرأة المرتبطان بالاستعارة؛ وأساليب تجريد التراث الاستعماري من آثاره الرمزية المنهكة
والتوفيق بينه وبين المُثُل التحررية المصرية؛ والأساليب التي تستخدم لاستدعاء هذه التطلعات من الآفاق السامية المجردة للخيال الوطني إلى شوارع القاهرة الثورية المعاصرة. كل هذا عبر وعي وإعادة صياغة مستمرين للوعي التاريخي المصري.
نقطة انطلاق بديلة
في الكوكب الوحيد: مصر، يمكن للمرء أن يجد وصفًا للمقبرة الشمالية بالقاهرة؛ المعروفة شعبيًّا باسم مدينة الموتى. بدأت المقبرة الشمالية منطقة صحراوية خارج أسوار المدينة، قدمت لسلاطين وأمراء المماليك مساحة بناء غير محدودة حرموا منها في المدينة المكتظة بالفعل..
لم تكن مجمعات الأضرحة الواسعة التي بنوها مجرد مقابر، بل أماكن للترفيه أيضًا، وهذا جزء من تقليد مصري ذي جذور فرعونية، يقطع بأن الناس اعتادوا التنزه بين القبور. حتى المقابر العائلية بالغة التواضع، صممت لتشمل غرفة يمكن للزوار المبيت فيها ليلاً.
وقد لجأ متشردو المدينة إلى الإقامة في المقابر منذ القرن الرابع عشر، مما أدى إلى الصورة الحالية؛ حيث يتعايش الأحياء والأموات بسلاسة شديدة!
في بعض المقابر، تُستخدم التوابيت كطاولات، وينشر الغسيل بين شواهد القبور. كما أن المنطقة مزودة بكل الخدمات؛ من مياه وغاز وكهرباء، ويوجد مركز شرطة محلي ومكتب بريد.
وفي الجمع والأعياد يتوافد الزوار للنزهة، ويدفعون الإكراميات احترامًا للموتى.
مثل العديد العناصر محل البحث والتحليل في هذا المقال، فمدينة الموتى مساحة حقيقية للإقامة. وكوسيلة مجازية لفهم التاريخ المصري والسياسة، تعترف بالوضع الحقيقي والأسطوري لكل المواقع الجغرافية، فإن مدينة الموتى تحوي كل مشكلات السكان والمجتمع، والزيارات متعددة الأغراض، وأماكن السكن، والتاريخ الممتد، فيما يمثل إعادة تأكيد على الهوية الوطنية (التي تشير إلى ماضي مصر المجيد) وكيفية مواجهة الفقر، والافتقار إلى مساحة خصوصية أكثر ملاءمة.
مدينة الموتى في القاهرة لم تكن مجرد مقابر، بل أماكن للترفيه أيضاً- الصورة من صفحة ويكيبيديا
تتوفر مصادر معلومات أخرى أكثر دقة عن مدينة الموتى، لكنني أشعر بالحاجة إلى توضيحها، وتقديمها بشكل رمزي بالقدر نفسه. أشعر حتى أن عليَّ تقديم صورة نمطية عن حالتي كزائر، بالعودة إلى دليل سياحي باللغة الإنجليزية (يستهدف "مسافرًا مقدامًا").
وهذا يضيف طبقة أخرى غير قابلة للمحو، إلى متن السرديات المكتوبة عن «ليلى». طبقة ترفض السماح لمحلل خارجي باتخاذ موقف المراقب تجاه الأدوار التي مُحيت. كما أن شخصية الزائر ليست بعيدة عن سياق "ليلى"، كما قد يفترض المرء: ليس فقط أنه لا يشكل فهمي الخاص لمصر، بل لممارسات مماثلة أثرت على النصوص
التأسيسية للتاريخ العربي المكتوب بداية من القرنين الرابع عشر والخامس عشر، في أعمال علماء مثل ابن بطوطة، وابن جبير، وابن خلدون، الذي جمعوا تحقيقاتهم/كتاباتهم بشأن ثقافتهم من خلال تجارب السفر عبر الشتات العربي الواسع.
ومثلما تمتص التعددية الثقافية في مصر عادة الاختلاف بدلاً من إزاحته، فإن أنماط وتقاليد الضيافة العربية التي سمحت دائمًا بمثل هذا البحث، تكذب أي محاولات فظة لمنع الدخول. ومع ذلك، فإن بعض الزوار لا يلتزمون دائمًا بأعراف الاحترام هذه، مثلما قد يكون الحال عند زيارة المقابر.
وهذا الوعي المؤسس على تجارب متعددة من التفكك والانتقال عنصر أساسي في نسيج تاريخ السينما المصرية أيضًا. ومثل أي مكان آخر في العالم، فقد خاض التجار والمهاجرون والمستعمرون والسكان المحليون المضطربون ذوو الوعي الوطني المستجد مسارات داخل هذا المجال من الإبداع، إذ ترك كل واحد منهم بصمة واضحة محددة على الأرض.
تأكدت مفاهيم التعايش والوعي بالتاريخ التي تنبثق من هذا الفهم للسينما ومدينة الموتى من جديد من خلال الفعل العربي (أثر)، هذا الجذر لا يزودنا فقط بالاسم أثر (خراب، علامة، أثر، تراث) بل أيضًا
بالأفعال أثر (يتأثر)، (يثير)، يؤثر (تفضيل شيء على آخر، وهو الإجراء الذي يتناسب تمامًا مع الديموقراطية المنقوصة في الفترة قيد البحث). وهو أيضًا مصدر كلمة الثورة، التي تزودنا بشبكة من المعاني المترابطة كانت وثيقة الصلة بالوضع السياسي في مصر فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
ومثلما هو الحال مع أصل كلمة المجاز، تصنع اللغة نفسها الشكل الخاص بها لكلمة المقابر، مع أن كلمة التراث واشتقاقاته أقل تجريدًا، وأكثر قابلية للتعريف، كما أنها متعددة الوظائف أكثر من أي مقبرة غربية.
وليس من الضروري الاستغراق في محاولات فهم هذه الدلالات؛ فربما
تكون الآثار اللغوية أكثر خفوتًا مما هي عليه غالبًا في اللغة الإنجليزية. في المقابل، أود أن أتناول التاريخ المصري وسياق تصور ليلى تزامنًا مع التركيز على حساسيات مدينة الموتى، مستعينة ببعض الطاقة والتحذيرات المسبقة من التعبيرات المجازية. لذلك سأقرأ كل ما سبق وكتب في الماضي، ليس فقط عن الفيلم، بل أيضًا النقاشات بشأن الروايات التاريخية الأصولية، كالكتب التي كُيفت في كثير من الأحيان لتناسب الاحتياجات المعاصرة التي حافظ بعضها عمدًا على مظهره وواجباته الأولية المفترضة، وتجدد البعض الآخر وأصابه الكثير من التغييرات لدرجة أنه لم يعد من الممكن تمييز ما كان عليه في
السابق. يوفر المجاز الأكثر تعقيدًا المتمثل في مدينة الموتى جوانب تكميلية للمعارضات البالية ثنائية الأبعاد، مثل التقليد في مقابل الحداثة، والاستعمار في مقابل التحرر، على عكس الصورة التي يحاول المعلقون حصر مصر في القرن العشرين (وبخاصة نسائها) فيها.
تفسح مدينة الموتى المجال لجدالات سياسية تاريخية دقيقة تميز ظروف إنتاج فيلم "ليلى" وأحداثه وسياقات استهلاكه، كما تشير الرسوم المتبقية من الفيلم إلى أن صناعته ومناخ تلقيه يكرران الطرق التي يبني بها مستوطنو مدينة الموتى ويعيدون صياغة الأغراض الموجودة بالفعل، ويضعون أغراضًا جديدة فوق الأغراض القديمة،
مع الاحتفاظ في الوقت نفسه ببعض الدلالات الأصلية.
المجاز وبناء الأمة والنسوية في مصر
منذ البداية، لم يكن من الممكن قط استقبال «ليلى» باعتباره «مجرد فيلم»؛ فقد قدر له أن يأخذ مكانة أكثر أيقونية، وقد أدى غيابه المادي إلى إطالة أمد الفرصة لحشو تراثه بكل أشكال الرغبات الفردية والجماعية إلى أجل غير مسمى. كان الفيلم عند صدوره مثقلاً بتوقعات وتطلعات دولة شبه مستقلة حديثًا، لم تنتج بعد فيلمها الطويل الأول. إذ نجد في جميع المراجعات والتعليقات آنذاك انشغالاً بمكانة ليلى ومبدعته، خصوصًا فيما يتعلق بمفهوم تاريخي محدد ومعقد للروح
المصرية. ويبدو واضحًا من لهجة معظم الاستجابات للفيلم، أن «ليلى» ظهر في عصر كانت مصر فيه مستعدة تمامًا للاعتراف بنفسها كأمة، وإن لم تكن، في بعض الحالات، مهووسة بهذه الفكرة. لم تتضمن هذه الاهتمامات المسبقة تحديد وتأسيس الفن والصناعة الوطنية فحسب، بل شملت أيضًا العثور على حاملي المعايير المناسبين لهذه المؤسسات. دخل فيلم «ليلى» وصانعته عزيزة أمير بفارغ الصبر إلى المعركة هنا، وليس من المستغرب أن تؤدي طرق العرض المجازية دورًا مركزيًّا في تأسيس مثل هذه الأيقونات.
يُقال لنا إن رواية «ليلى» تحكي عن فتاة ريفية بريئة، هجرها خطيبها ذات يوم
لم يكن من الممكن استقبال «ليلى» باعتباره "مجرد فيلم"-الصورة لعزيزة أمير من أرشيف مدينة الرقمي
من أجل امرأة أجنبية، فتعرضت للتحرش الجنسي والابتزاز على يد رجل مسن. هذا الملخص القصير هو، بشكل واضح، ما تبقى من التفاصيل التي ظلت موحدة في الروايات العديدة للحبكة، لذلك سأركز على هذه المواضيع والتطورات الأكثر إيجازًا؛ الدخيل القاسي، وجاذبية السحر الأجنبي على السكان المحليين الذين يسهل تشتيت انتباههم، وتفشي الفساد الداخلي، وكل هذه رموز مألوفة للأطماع الدولية ذات تأثير على المشاهدين المصريين. كما يعلي التقديم المجازي لـ «مصر» من خلال فيلم "ليلى" من شأن البلاد بطريقة تم التغاضي عنها حتى الآن في الإنتاج السينمائي. فلم تعد مصر
مجرد صورة على علبة شوكولاتة، أو في قصص الرحلات، أو بديلاً رومانسيًّا يمكن أن تجده في هوليوود، بل أصبحت بطلة الرواية "عربية" ومصرية معًا.
ومثلما أصبحت مقابر مدينة الموتى تعبيرًا عن هوس بشيء أكبر بكثير عند لزوارها، صبَّت ليلى كل أنواع الاهتمامات السياسية الأكثر تجريدًا في هذا المثال البسيط الذي تم التمرن عليه كثيرًا. توافقًا مع أسلوب واضعي اليد في تكييف المقبرة لتناسب احتياجاتهم، غيَّرت عزيزة أمير النهاية الأولى للفيلم بعد أن اشتكى الجمهور المصري.
ومع أن القصة الرمزية تعتمد دائمًا على اتساق كبير في الاستقبال، فإن هذه
البادرة (غير المسبوقة في صناعة الأفلام المصرية حتى الآن) تشير إلى استعدادها للامتثال لآمال وتطلعات الجمهور الذي صنعت الفيلم من أجله. ويوجد هنا (إلى حد ما) إحساس بمراجعة جماعية للتقاليد وصناعة الأيقونات لتناسب جموع "الشعب المصري" المتطور حديثًا مع دخوله المرحلة الديموقراطية من تاريخه.
تربط المبادئ العامة الملزمة هنا بين "المرأة" و"مصر" و"المشاهد المصري" بكل الطرق الديناميكية، ليس أقلها الإشارة إلى مدى ملاءمة المرأة لتكون راوية وموضوعًا لمثل هذه القصص الوطنية. وبأثر رجعي، منحت هذه العلاقات عزيزة أميرة نفسها مكانة
مميزة، صنعتها الكفاءة، أو الموهبة، وربما المصادفة. في سينما العصر الذهبي الناصري، كانت آليات السرد المماثلة التي تعاملت مع الظلم، من خلال مناقشة الضحية الأنثوية، هي القاعدة. وهو ما أدى أخيرًا إلى منح عزيزة أمير مكانتها باعتبارها من الأسلاف المؤسسين!
ومثل عملية استغلال الموارد التي يقوم بها سكان مدينة الموتى (حيث تشوب الانتهازية إعادة الاستيلاء على المواقع المختارة)، يمكن استخدام بعض الوثائق المختارة والإجراءات والأسس التي يمكن عليها تأسيس الموقع المناسب لفيلم «ليلى» ضمن تاريخ النسوية الوطنية. من المهم التأكيد على مدى اضطراب
مثل هذه الصلات ومجازيتها، مع الاعتراف أيضًا بالإمكانات السياسية لهذه الصلات غير المستقرة في بناء سردية مناسبة لسياق إنتاج الفيلم، وهي سردية يمكن تجميعها على النحو التالي: بسبب الاضطرابات الوطنية واسعة النطاق، أصدرت بريطانيا إعلان استقلال مصر في 28 فبراير 1922.
ومثل أماكن أخرى من التاريخ العربي، جاء هذا التحرير مصحوبًا بسلسلة من الشروط التقييدية، بما في ذلك حماية المصالح الأجنبية على الأراضي المصرية (مثل السيطرة على قناة السويس، وأرباح تجارة القطن، بالإضافة إلى السياسة الخارجية المصرية). والإصرار على احتفاظ الحاكم السابق؛
الملك فؤاد، بالكلمة الفصل في الشؤون السياسية وسلطة حل أي هيئة برلمانية يتم إنشاؤها.
وهنا تتجلى عدم القدرة على التطور والتعددية، حجر الزاوية في القصة المجازية/ رمزية وفي التاريخ نفسه، حتى في التحليلات "الواقعية" الأكثر جلاءً آنذاك. وما يمكن تفسير حدوثه على أرض الواقع هو محاولة تشكيل نموذج ديموقراطي، كالذي وعد به سابقًا سعد زغلول رئيس حزب الوفد، وقائد الثورة التي بدأت عام 1919، وضع هذا أيضًا الأسس لأنواع معينة من القصص الرمزية التي يمثلها فيلم «ليلى».
إذا اعتمدنا على دلالات الكلمة العربية مجاز، يمكن التقاط إحساس بالتفويض
داخل وخارج تفسير عزيزة أمير لمصر. غالبًا ما يكون التفويض مطلوبًا عند الإقدام على شيء خطير إلى حد ما؛ وهي خصائص تمنحها سلطة عليا تضع قواعدها، مثلما هو الوضع في بلد لم يكن قد أنشأ برلماناً مستقلاً، إلى حد ما، إلا قبل سنوات قليلة من صدور الفيلم. وما أدى إلى ذلك هو دستور عام 1923 الذي وعد المصريين بأنهم سوف «يتمتعون بالحقوق المدنية والسياسية على قدم المساواة، ويخضعون على قدم المساواة للواجبات والالتزامات العامة بغض النظر عن العرق أو اللغة أو الدين»، ومنحهم حق الاقتراع العام، ثم بعد ثلاثة أسابيع، أضيف مادة إلى الدستور تمنع النساء من الحق في
التمثيل البرلماني. لم يكن مفاجئًا أن يفوز حزب الوفد بالانتخابات الأولى، ويصبح سعد زغلول رئيسًا للوزراء، وفي أولى خطواته واجه البرلمان نفس المعضلات المرتبطة بالاستخدامات المحتملة لمدينة الموتى. لكن في هذه الحال، تم تفضيل "الحفاظ" (على مفهوم معين للتقاليد فيما يتعلق بالچندر) على "التنمية" (فيما يتعلق أصوات المواطنات). وبحثًا عن نوع آخر من الكتابة والتوثيق، تحديدًا في التاريخ الاجتماعي للمرأة في مصر، يكتشف المرء وجود حركة نسوية أوسع نشأت في أوائل القرن العشرين، والتأكيد على أنه لا يمكن فصل فيلم «ليلى» عن مُثله الأساسية أو مبادئه المستوحاة من البيان المجازي
هدى شعراوي عادت مع سعد زغلول من المنفى،وخرجت من السفينة بدون حجابها المعتاد-الصورة من أرشيف مدينة الرقمي
الأكبر. وكانت الناشطة النسوية الرائدة في مصر، هدى شعراوي، قد عادت مع سعد زغلول من المنفى الذي أبعده إليه البريطانيون في أوروبا. وفي لفتة رمزية عميقة، خرجت هدى شعراوي من السفينة (بدعم كامل من سعد) بلا حجابها المعتاد. وعلى الفور، أصبح هذا المشهد أحد التشابكات الأكثر رمزية عند (توجه معين) من الحركة النسوية والقومية المصرية. وبدلًا من لعبة الظهور والإخفاء التقليدية التي يتم استثمارها في الحجاب (الذي تتناوب عليه التقلبات المجازية)، حولت هدى شعراوي، مثلما فعلت عزيزة أمير أيضًا، نفسها إلى رمز: الرمز الذي مثَّل للتحرر العلني. تفترض السرديات
النسوية الأخيرة لهذه التطورات وجود صلة بين حرمان النساء من التصويت وتشكيل لجنة الوفد المركزية للسيدات، والاتحاد النسائي المصري، برئاسة هدى شعراوي، بالإضافة إلى تيارات أخرى، مثل المنظمات السياسية النسائية الإقليمية. على أكثر من مستوى، يمكن اعتبار نموذج المنظمات التي عملت على تجميع النساء موازية لنموذج الحزب السياسي، مع تطلعات مماثلة في المجال العام. ومع ذلك، يبدو أن هذه النوادي والجمعيات ركزت أيضًا على القضايا التي نجحت بشكل جيد في التعامل مع بعض المفاهيم التقليدية للعمل الخيري النسائي في قطاع النخبة، في البداية كانت اهتماماتهم خيرية،
لكنهم شجعوا أيضًا على زيادة التعليم والتفاعل مع الحياة العامة، فضلاً عن التحسينات الاجتماعية الواسعة في مجالات الطب والنظافة والتخفيف من حدة الفقر.
تستمر عملية إعادة صياغة الممارسات الراسخة تماشيًا مع الممارسات التي تحدث في مدينة الموتى:
البقاء داخل البنى الترحيبية في أثناء زيارة المقابر، والبقاء في سكون لأغراض أكثر إلحاحًا من البقاء على قيد الحياة، والوضع الهامشي الذي يميز كلا المجتمعين.
وهنا ينبغي التأكيد على الأهمية القصوى لوضع واضعي اليد الهامشي، ووضع الناشطات النسويات
بالنسبة لأي تحليل. كما يمكن القول إن الشخصيات النسائية القوية مثل عزيزة أمير، سعين بسبب عدم رضاهن عن حرمانهن من حقوقهن السياسية، إلى تكتيكات أخرى كان على مصر نفسها أيضًا أن تتبناها في مواجهة الضغوط البريطانية القوية.
وقد انطوى هذا على حركة تجاه مجال التجارة الثقافية المسيسة، إذ كان من المقرر أن تستثمر في السينما بشكل مباشر، لكنها نفسها تشابكت، على نطاق أصغر، مع إستراتيچية معقدة للمقاومة الاقتصادية.
تشير معظم الروايات التاريخية إلى أن سعد زغلول كان زعيمًا استبداديًا إلى حد ما، إذا كان في وضع حرج بسبب
الظروف المعيقة (بما في ذلك الوجود الكبير للجيش) التي خلفها البريطانيون، ولم يتمكن من تغييرها، قبل هزيمته على يد عدلي باشا يكن عام 1926 (قبل وفاته بعام).
وقد تأكد هذا العجز مع التعاقب السريع للقادة اللاحقين الذين استقالوا فور تعيينهم، وظلوا غير قادرين أيضًا على تحقيق الكثير في مواجهة القبضة الحديدية لبريطانيا والملك، مما أدى إلى تفشي أجواء من خيبة الأمل والعجز في مصر. أدرك العديد من المواطنين تمام الإدراك الحاجة إلى إحالات وتحليلات غير مباشرة؛ مُثُل رمزية يمكن للأغلبية التوافق عليها، لكن من غير المتوقع بالضرورة أن تتحقق في أي مستقبل
كان سعد زغلول زعيمًا مستبدا إلى حد ما، إذ كان في وضع حرج بسبب المعوقات التي التي خلفها الاحتلال البريطاني - سعد زغلول - أرشيف مدينة الرقمي
قريب. ويبرز هذا التفاعل بوضوح ليس فقط من رواية ليلى، بل أيضًا من الأساليب التي أُجبرت عزيزة أمير والحركة النسوية على العمل في نطاقها. هذا إذن أحد تفسيرات الوضع في مصر فترة تصوير فيلم «ليلى»: في كثير من النواحي، كان المكان وسياساته لا يزالان يبحثان عن الخلاص والأبطال، وهكذا ليس من الصعب فهم القوائم الأيقونية في مصر، التي ستحاط بها عزيزة أمير لاحقًا.
ومع ذلك، فإن تثمين الفرد، باعتباره تمثيلاً لشيء أعظم، منقذًا أعلى، أو مُحركًا «للشعب»، لم يكن شيئًا جديدًا تم اختراعه فجأة في تلك اللحظة. فقد كانت فكرة الفرد كممثل للقوة القومية
موجودة، وهي الفرضية ذاتها التي سمحت لعزيزة أمير أن تصبح بطلة مصرية لها مكانتها في تاريخ النساء البارزات التي بدأن بالظهور في مطلع القرن العشرين. وحتى قبل ذلك، كانت النخب العثمانية/التركية الشركسية.
التي حكمت مصر في القرن التاسع عشر ماضية في مشروعها لترجمة التاريخ الأوروبي، وقد ركزت غالبية هذه الأعمال المختارة على القيادة من الأعلى. وقد وجهت هذه النصوص إلى ضرورة تمثيل الحكماء والمحسنين للجانب الاستبدادي من الدولة، وهو اتجاه في كتابة التاريخ استمر حتى القرن 20.
وعبر نهج رمزي نموذجي، يخلص يوسف الشويري أن تاريخ هذه الفترة
«يتطلب، لتجديده، قائدًا قويًا يعيد [الأمة] من النسيان، وينفخ حياة جديدة في جسدها المحنط». وهكذا ليس من الصعب فهم ضرورة تفعيل الشخصيات الخاملة، سواء كانت حقيقية أو مجازية.
ويتابع الشويري "من هنا فإن قراءة التاريخ أو كتابته هي دعوة للعمل والمشاركة الفعالة في المجتمع. فهي ليست أقل من فلسفة سياسية وفق المعنى الكلاسيكي لأهدافها. كما أنها نشاط لا يقتصر على سرد الوقائع والأحداث؛ بل يخبرنا بما ينبغي علينا فعله". وهنا تجدر الإشارة إلى عدد المرات التي يُشار فيها إلى عزيزة أمير باعتبارها [رائدة]؛ وهو مصطلح
مألوف لدى الباحثين في السينما النسائية الصامتة، وله أصداء تاريخية مختلفة تمامًا في السياق الأمريكي. في اللغة العربية، تشير كلمة "رائد" كذلك إلى رتبة عسكرية مهمة، مما يشير إلى إحساس عزيزة أمير كقائدة لشعبها وقت الصراع.
ليلى وعزيزة و«مصر كامرأة»
في العديد من الكتابات النقدية التي تناولت أعمال عزيزة أمير، يوجد شعور بأنها لعبت هذه النوع من الأدوار الرمزية، إذ تنطلق اللغة من المدارات الشخصية إلى المدارات المجازية، وفي المناقشات التي دارت حول المخرجة، كان لها وجود متعدد، بدت عزيزة قادرة على تمثله، سواء في شخصيتها
اليومية، أو في الشخصيات التي خلقتها على مر السنين، بدءًا من فيلم "ليلى". هنا يمكن النظر إليها على أنها تمثل، بكل معنى الكلمة، مجموعة كاملة من التحولات والإمكانات في مكانة المرأة داخل الفن، وسياسات التحرير (خاصة تلك المعنية بالأمة)، والمنظمات المتغيرة للفضاء الاجتماعي. ومن أجل ترسيخ الصرح الذي يمكن بناؤه من كل هذه الآثار، سأعتمد على مقتطفات من سيرتها الذاتية. قبل أن تبدأ مسيرتها المهنية في السينما، صنعت عزيزة أمير اسمها على خشبة المسرح. في السنوات التي سبقت إنتاج فيلم "ليلى"، كانت شخصيات مثل يوسف وهبي (الممثل، والمنتج، وفيما بعد، الشخصية البارزة في
غلاف كتاب (مصر كامرأة) لبيث بارون.
السينما المصرية) قد ناشدت النساء المصريات المسلمات أن يتقدمن المجالس الاجتماعية، التي كانت مقصورة في السابق على الأجانب ومسيحيي المشرق أو اليهود.
وفي سياق محاولاته لجعل المهنة "الغريبة" محترمة، طلب يوسف وهبي من النساء الاستعداد لتولي أدوار الممثلات وصاحبات الأدوار العامة. كان هدف وهبي مدفوعًا بأهداف واضحة نحو البورجوازية وتمصير المسرح، وهي أهداف ارتبطت بشكل قوي بسياسة التحرر الوطني والتحرر النسوي.
وفقًا لاحتمالات مدينة الموتى، كان من المفترض أن تجتذب هذه المنطقة غير المأهولة سابقًا سكانًا جددًا، على الرغم
من كل الادعاءات بأن مثل هذه التحركات ليست مناسبة.
لم تدخر الحركة النسوية المصرية الصاعدة جهدًا لدعم النساء العاملات في هذا المجال، وأصبح استخدامها لبعض الخطابات التبريرية معيارًا نقديًّا سينمائيًّا مصريًّا في السنوات اللاحقة. سعيًّا للتأكيد على احترام الممثلات اللاتي ظهرن كموضوعات ونماذج يحتذى بها في المجلات النسوية آنذاك، شارك أعمالهن مرارًا وتكرارًا في نغمات الانتصارات القومية والنسائية بدلا من الانصياع لفكرة شرف العائلة. أزيحت الخصوصية الشخصية جانبًا لإفساح المجال أمام لغة «الصالح الأعظم»، تمامًا مثلما في حالتي القومية والمجاز.
ظهرت عزيزة أمير لتمثل شيئًا أعظم، ونوعًا من التعالي الرمزي الذي كان من المعتاد اعتباره أنثويًّا.
ويمكن القول إن الأمر بالنسبة لعزيزة بدأ جزءًا من ممارسة الحماية وصنع «علامة تجارية/ براند»، عندما غيرت اسمها من مفيدة هانم الشريعي/محمود غنيم في مفاوضاتها المبكرة حول سمعة الأسرة باعتبارها سيدة مسرح. وهنا يمكن النظر إلى ضرورة الإخفاء التي تصاحب القصة الرمزية باعتبارها استجابة عملية للتوافقات المحلية. وتتطلب هذه التسهيلات، أو ربما الضرورة الاجتماعية، الانتقال بذكاء بين أدوار الشخصية والفاعل أكثر من مجرد تمويه نموذجي فيما يتعلق بالأداء
الأنثوي وهو ما ينشأ هنا من ضرورات اجتماعية مصرية محددة، ويستمد منها قدرًا كبيرًا من قوته. وبالإضافة إلى ذلك، كانت إمكانية صياغة مثل هذه التجسيدات النسائية المجازية تتفتح بسرعة، وأثبتت شخصيات مثل عزيزة أنها محورية في هذا السياق.
ويبدو أن فكرة المرأة، أو المرأة كرمز قد شكلت مشكلة ما لبناة الأمة المصرية قبل عشرينيات القرن العشرين. وبسبب عادة الحجاب التي سادت في المناطق الحضرية، كان المظهر المثالي لتمثيل مصر هو إما «المرأة الفلاحة» (التي تعمل في الحقل دون غطاء للوجه)، أو موديل الأيقونة الفرعونية، التي لم يكن تصويرهما يثير حفيظة
النظام الاجتماعي، في حين أنه لا يزال يوحي لأولئك الذين يرغبون في ذلك، أن كشف النقاب قد يشكِّل جزءًا من عملية ثورية، كما تؤكد بيث بارون Beth Baron.
وتزامنًا مع كشف المرأة المصرية للنقاب، مُثِّلت مصر كامرأة؛ ولم تكن هذه عملية بديهية أو سلسة، بل استغرقت بعض الوقت. فلم يكن من الممكن تمثيل مصر بشكل فعال كامرأة إلا بعد الكثير من النقاش حول غطاء وجه المرأة. وأصبح كشف الحجاب آنذاك كناية عن الاستقلال الوطني، وظل الحجاب أيضًا بالنسبة للعديد من المسلمين كناية عن النقاء الوطني.
بائعات فى القاهرة، نهايات القرن التاسع عشر.. التصور التقليدي لمظهر المرأة المصرية.. الصورة من أرشيف مدينة الرقمي
لم تكن مصر كامرأة في ذلك الوقت نموذجًا مستوردًا من الماريان الفرنسية أو التمثيلات الأوروبية الأخرى.
[ماريان هي تجسيد للجمهورية الفرنسية. وتمثل القيم الدائمة التي أسست ارتباط مواطنيها بالجمهورية: "الحرية، المساواة، الأخوة"]. وقد عكست صور الأمة المصرية كامرأة لمحة من الوضع الاجتماعي للمرأة المحلية والخطاب المصري حول مكانتها في المجتمع.
قدم ظهور نموذج «المرأة الجديدة» في العشرينيات من القرن الماضي لنساء الطبقة المتوسطة المعاصرات خيارات أخرى من الملابس: فساتين قصيرة وقبعات بدلاً من الحجاب.
وكانت صفحات صحيفة «المصرية» (الناطقة باسم الاتحاد النسائي المصري، المعنية، بـ"النسوية، وعلم الاجتماع، والفن" كما أعلن على غلافها) مليئة بمثل هذه الصور لعضواتها. وأصبحت عزيزة أمير أيضًا واحدة منهن بطرق مجازية وصريحة؛ إذ استبدلت عادة الحجاب باستعارة جديدة، وهي كشف النقاب. ومع ذلك، اعتمدت أيضًا بسعادة على بعض المخزونات القياسية لصورة الوطن التي تم تكريسها من جديد في جميع أنحاء العالم.
ومن خلال التلاعب بالتشابهات المفترضة بانتظام بين الأم والأمة، فإن عبارة «لدي ابنة واحدة وهي السينما المصرية» تظهر بذكاء اختيارها لمهنة
عامة أكثر من مهنة الأمومة، مما يعكس الموقف المعاصر لصفية زغلول (زوجة البطل الوفدي) بدور أم المصريين.
وهنا يرد على أچندة الإنتاج الثقافي القومي (التي سأفصلها في القسم التالي) اقتراح بتوسيع نطاق واجبات المرأة، ومن الجدير بالذكر أن استعارة السينما المليئة بالأنوثة أصبح أيسر بكثير مما لو كانت ذكورية.
وكانت هذه خطوة حكيمة على عدد من المستويات؛ أولاً، اختارت الحركة النسوية داخل مصر، مثل الكثير من أشكالها العالمية الأخرى، التركيز على قوة المرأة ومكانتها داخل المنزل، وإلى حد كبير على تربية القوة القومية داخل المجال المنزلي.
فمن خلال التماس التقاليد الأكثر تركيزًا على الأسرة في هياكل القرابة العربية، ميزت الحركة النسوية المصرية نفسها بأنها منفصلة وغير مستوردة عن حركات تحرير المرأة الأجنبية الأخرى (مع أنه من السهل اكتشاف ترابطهما). ومن ثَم، تم التقليل من أهمية موقع عزيزة أمير المركزي خارج هذه المجالات الأنثوية المحددة، وذلك بسبب إصرارها على استخدام لغة الأمومة وانجرافها نحو فكرة "مصر كعائلة" التي استخلصت لإظهار تماسك مجموعة منفصلة إلى حد ما من الناس، الذين بدأوا مؤخرًا فقط في فهم أنفسهم كمجموعة خارج روابط الأسرة والتجمعات الدينية التقليدية.
وتماشيًا مع الثغرات السابقة التي توفرها الشخصيات النسائية المجازية، يعتمد فيلم "ليلى" بحماسة على رموز المرأة الريفية والبطلة الفرعونية، بالإصرار على تقديم تراث مصر المزدوج القديم والزراعي، كما يثير نقاشات معقدة حول فكرة الزائر.
يصر منظرون مثل هومي بابا Homi Bhabha على أن الهوية الوطنية تتشكل عادة من خلال الاستدعاء المتزامن للجديد والخالد/القديم، وعادة ما تعمل العديد من الارتباطات المصرية مع التاريخ، بشرط أن تكون التطورات الأخيرة مرتبطة دائمًا بالعودة إلى القديم: دمج العنصرين معًا. وهي ممارسات مألوفة في الأداء الاستعاري
ومن بعض عادات مدينة الموتى. تعبر عزيزة أمير، وكذلك حبكة "ليلى"، بكل وضوح عن هذا المُثل باستمرار. كانت عزيزة الجديدة؛ الممثلة المتمتعة بالنزاهة (السياسية)، والمخرجة "الأولى" للأفلام الروائية، وشخصية الأم التقليدية، الوطنية واضحة في إعادة تصورها لجميع أساليب عناصر الحياة المصرية التقليدية. ومع أن عاداتها وممارساتها حضرية إلى حد كبير، أصرت على صنع فيلمها عن الريف، وخلق بطلة ريفية، بنت بلد، النموذج الذي صار محترمًا ومكرسًا في الأفلام اللاحقة. ويظل الارتباط الفعلي للفيلم بالحياة الريفية (الغائب بشكل ملحوظ في الملابس الحريرية الأنيقة التي اختارتها عزيزة)
نقطة خلافية (لم تصل ثقافة السينما إلى الريف حتى انتشرت أجهزة التليفزيون). ومع ذلك، فالرمزية البعيدة المزروعة في "الريف" (فضلاً عن الإشارات السياسية التي تكررت كثيرًا باسم الأغلبية الريفية المصرية على مدى التاريخ المصري الحديث) أثبتت أنها لفتة شعبية، كرمت أيضًا الجذور الإقليمية للثورة العرابية عام 1882، وهو التمرد الذي صاغ للمرة الأولى شعار "مصر للمصريين".
آنذاك؛ تم التأكيد على مثل هذه المُثُل في الخطابات النسوية بشكل أكثر وضوحًا، إذ دمج غلاف مجلة (المصرية) L’Egyptienne رؤية الفن الحديث لعالم المرأة الجديد، برسم جريء لفلاحة
تمسك حجابها بحيث يكشف عن وجهها ورقبتها. ويرى المرء في الخلفية شخصية نسائية ثانية غير واضحة (ربما محجبة بالكامل) وقوسًا معماريًّا إسلاميًّا. والأهم من ذلك، أن الكثير من نساء النخبة اللاتي شكلن الاتحاد النسائي المصري ربما جئن أصلاً، وحصلن على ثرواتهن، من خلال ملكية هذه الأراضي. تصبح "الأرض" هنا إذن قومية وإقليمية واقتصادية، لكن ليس دون الصعوبات والمظالم التي يفرضها النظام الطبقي، الذي يزاح بشكل غريب لصالح فكرة تمجيد الفلاح. وقد كانت مثل هذه الأصداء الرمزية أيضًا تهربًا من صعوبات الهجرة الجماعية إلى المدن (وهو ما يبدو واضحًا في سكن مساحات
غير معتادة، مثل المقابر) التي لم تنجم عن التصنيع بقدر ما أثارها ازدحام المناطق الخصبة في الريف.
تنبغي الإشارة كذلك إلى أن الحياة الريفية، وبخاصة حياة القبائل البدوية، كانت غريبة حقًا بالنسبة للعديد من القاهريين، وفي هذا الإطار يجب أن ننظر إلى شخصية أحمد (خطيب ليلى). وبالإضافة إلى هذا التهرب من بناء الأمة الطبقية، الطبقية الجغرافية تحديدًا، يوجد استدعاء معقد للزمن في أسطورة مصر، وهو ما استغله أيضًا فيلم "ليلى" والتعبيرات النسوية المعاصرة، ففي رحلة البحث عن ماضٍ متحرر من الاستعمار، وعبق المجد المصري (الذي تجاوز بسهولة حجر عثرة متمثل في
اللغات والأديان المتنوعة)، أصبحت الأيقونات الفرعونية مهمة كدليل مرجعي على نسخة معينة من التقاليد المستمرة والأمة في مصر، وهو تلفيق معاصر ثوري موحد.
وكما يشير يوسف الشويري "يشكِّل التاريخ [العربي]... الخلفية التي يتم على أساسها إطلاق المناقشات النظرية. وكل فكرة أو حركة جديدة لها ما يبررها بالرجوع إلى أسلافها. وهذا ينطبق حتى على التحرر الجنسي، الذي تتبناه الأمثلة التاريخية".
في الواقع، شهد القرن التاسع عشر بحثًا متواصلًا عن الأمثلة والأصول والسوابق التاريخية.
وكان أحد أهم هذه النصوص هو الموسوعة التي كتبها سليم شحادة وسليم الخوري بعنوان "آثار الأدهار". باستخدام الكلمة الرنانة (آثار).
ومما لا شك فيه أن أحد الأسباب الرئيسية لهذه الممارسة المتمثلة في النظر إلى الماضي، مستمد من الخطاب الإسلامي، إذ يتم باستمرار البحث عن الكلية الإلهية، ويجب ربط التجارب الجديدة بالمذاهب الدينية السابقة. وهنا يتم تبجيل أشباح مدينة الموتى المجازيين، إذ تقدم زياراتها حاجة خاصة للتذكر واليقين! ومع ذلك، يوجد توتر ملحوظ هنا، كما هو الحال في كل كتابة التاريخ، بين سياسة كيفية تقديم وتسجيل الماضي، ومتطلبات ومعتقدات
محددة متداولة في الحاضر.
واعتمادًا على العصور الفرعونية، استخرج المصريون التاريخ الذي انتبهوا إليه إلى حد كبير من خلال البعثات الأثرية الأوروبية، حين اكتشفت مقبرة توت عنخ آمون في عام 1922. وعلى الرغم من المعاناة من العواقب، وما سببته، فقد أعاد المصريون بمهارة صياغة ثقافة الزائر الناهب، بحيث أدت إلى عملقة الأمة.
سميت شركة إنتاج عزيزة أمير «مجموعة سينما إيزيس»، ويبدو أن فيلم "ليلى" قد صوِّر جزئيًا بين أنقاض سقارة (وبالتالي حيث "المؤثرات")، حيث يعمل أحمد مرشدًا سياحيًّا وحارسًا للآثار، مفسرًا التفاصيل الغامضة
للأجانب الفضوليين. وفي الوقت نفسه، عرضت صحيفة "المصرية" مقالات عن نساء بارزات في العصور الفرعونية وقصصًا قصيرة مستلهمة من التاريخ المصري القديم. وفي عام إصدار فيلم "ليلى"، قدمت المجلة تغطية موسعة للحفل الخيري السنوي الذي أقامه الاتحاد النسائي المصري، بنشر صور لتابلوهات فنية لتسلسل زمني يبدأ من الملكة تيتي شيري، وحتشبسوت، وأبو الهول، وكليوباترا بملابس مستوحاة من الطراز الفرعوني، في إشارة إلى أن المرأة الجديدة، مرتبطة بسردية الأنثى القوية وتحررها.
فسرت كل من مصر الفرعونية والإسلامية باعتبارها عصور تتمتع فيها
المرأة بشيء من المساواة في الحقوق مع الرجل. وقد أضافت الممثلة والملحنة والمخرجة بهيجة حافظ إلى هذا التأكيد التاريخي، حين أهدت مقطوعة موسيقية من تأليفها بعنوان «الكرنك» (على اسم مجمع المعابد الفرعونية في الأقصر) إلى المتحف. وبعد عام؛ في عدد فبراير 1929 من مجلة «المصرية»، أعلنت على صفحات المجلة: ومع أنني من نسل الفراعنة فأنني صغيرة السن، وهذه هي قوتي، لأنني أملك الإيمان بنفسي، وبمستقبل بلادي الذي لا يمكن إلا أن يحقق المعجزات. وإن كنت أعبر عن نفسي بالفرنسية فذلك لأنني رسولة القضية المصرية في كل القارات. وأينما أذهب أنشر الحقيقة..
بهيجة حافظ..هل كانت لغتها الفرنسية لغة تحرر أم علامة اغتراب؟- أرشيف مدينة الرقمي
إن اهتمامي بالعدالة يرفعني فوق كل الأطراف، لهذا فأنا محبوبة ومحترمة أينما حللت. تتراجع أمامي كل الآراء، لأن نموذجي للتجديد يكمن في مهمة اجتماعية عميقة أساسها الإنصاف والأخوة.
ومع ذلك، لا ينبغي تجاهل مخاوف بهيجة حافظ وتبريرها درايتها بالفرنسية أكثر من العربية. إن التعددية الثقافية في مصر في هذا الوقت (التي تشكلت عبر آلاف السنين من الاستعمار الأجنبي والهجرات)، والمفاوضات الدائرة بشأن القومية، ونجاح فيلم "ليلى" في تجسيد بعض الاتجاهات الأحدث في الهوية المصرية، تحتاج إلى تفكيك دقيق.
بالنسبة لبعض النساء الثريات مثل بهيجة حافظ، كان التحدث بالفرنسية موقفًا متحديًا للحكم البريطاني؛ وارتباطًا بثقافة اجلبت للعالم نوعًا معينًا من الثورات، كان من السهل العثور على تأثيراتها (للأفضل أو للأسوأ) في التطلعات السياسية لهذه النخب (لاحظ الجملة الأخيرة من اعتراف بهيجة).
ومع ذلك، فاللجوء للغة أوروبية أخرى له دلالة واضحة: فئة قليلة من هؤلاء النساء الأكثر ثراءً يستطعن التحدث بالعربية بطلاقة، وهذا تجسيد لأشكال "التقدم" التي حذرت ليزا روفيل Lisa Rofel من أنها "ليست مجرد تشريعات محلية، ولا مجرد تمثلات لنموذج عالمي
بل ترجمات ثقافية قسرية لمشاريع مختلفة في العلوم والإدارة تسمى الحداثة.
يسلط استخدام كلمة «القسر» هنا الضوء على التنازلات المقدمة أمام الاستغلال المالي الخارجي، وهو ما ينعكس أيضًا بشكل مباشر على العقود البريطانية لـ "التحرر" المصري. وينطبق هذا أيضًا على الدلالات الأنثوية المتضاربة للأمة (وربما كان ذلك مفيدًا غالبًا) التي تبدو كأنها راغبة في العودة إلى الوراء واستعادة الماضي المجيد، كما تؤكد أيضًا انفصالها عن الأحداث الصادمة السابقة، وهنا يكون استخدام التاريخ مؤقتًا وانتهازيًّا، مثل فعل الإقامة في مدينة الموتى.
لقد أصبحت الآثار القديمة ملاجئ، ربما هي ملاجئ تقدم شيئًا محدودًا، لكنها توفر إمكانية معينة للتغيير الجذري. إعادة صياغة الموروثات الاستعمارية واعتمادًا على فكرة الأثر المستمدة من ماضيها الفرعوني، لم تستطع مصر أن تنسى أن ليست كل الآثار توفر طروحات مريحة للكبرياء الوطني، وأن التأثيرات ليست كلها ملائمة تمامًا. وقد ألقى اثنان من هذه الموروثات بظلالهما على الهوية الوطنية المصرية، وبدلاً من هدمهما، طورهما بعض المصريين بطرق محلية غريبة ومدهشة. الأول هو التطورات الاستعمارية التي ظهرت في شكل تكنولوچيات جديدة، والثاني هو الممارسات الإمبريالية غير العادلة في
في التجارة الدولية، وكلاهما أساسي لفهم سياق إنتاج فيلم "ليلى".
مجددًا، يتطلب تشييد هذا الهيكل التاريخي تعاملاً خاصًا ومتعمدًا مع سرديات معينة جمعت آثار محددة بعينها.
في تجميع سردي من هذا النوع أجد أنه من الحكمة إبراز الأنشطة ذات النزعة الاستعمارية المعقدة التي مكنت وعطلت الأمة "المستقلة" الوشيكة. خلال فترة الحكم التركي/ الشركسي للبلاد، شرع الحكام البارزون المتمركزون محليًّا (المتمصرون ذوي الأصول العثمانية) في حملة محسوبة سعيًا من أجل الحصول على الحكم الذاتي بعيدًا عن مركز السلطة البعيد في إسطنبول.
وبتتبع هؤلاء الذين استقروا في مدينة الموتى، نجد أنهم رأوا المزايا الچيوسياسية للسكن في الضواحي، وتحويل الظروف الحالية والمهملة داخل مثل هذه المساحة لصالحهم. كان هؤلاء الحكام العثمانيون، كما يذهب الباحثون في كثير من الأحيان، يرغبون في احتواء الاقتصاد المصري وجعله يعتمد على نفسه قدر الإمكان، لذلك كرسوا أنفسهم لمشاريع تنموية واسعة النطاق مثل بناء خطوط القطارات وشبكات الاتصالات (بما في ذلك التلغراف والاتصالات؛ أحد أقدم الأنظمة البريدية في العالم)، والتعليم الحكومي، والري المتقدم وبناء السدود، والتقدم العلمي في زراعة القطن، وبناء قناة السويس
(التي افتتحت عام 1869).
اجتاح التعطش لكل ما هو جديد البلاد، سواء أحب سكانها ذلك أم لا. ونستطيع هنا أن نشهد أيضًا إستراتيچية مدينة الموتى: بناء الموارد، وجمع الأدوات التي تتيح مساحة أكثر سيادة. وكان على السينما (كتقنية جديدة) أن تنزلق إلى هذا الخطاب بالذات، إذ ربطت التجارة المحلية بالتصنيع ذي الميول الانفصالية، كل هذا بناءً على أسس الماضي. وفي النهاية، تجاوزت مثل هذه المساعي الطموحة إمكانيات مصر المادية، على الرغم من تسارع مبيعات القطن (محصول التصدير الرئيسي للبلاد) آنذاك. وصل هذا الوضع إلى ذروته في عام 1882، عندما تدخلت بريطانيا،
أحد المستثمرين الرئيسيين، لتأمين مصالحها المالية، وإخماد الثورة العرابية التي استهدفت بشكل مباشر المجتمع الأوروبي القوي المختلط في البلاد. بعد هذا الغزو، ظل وجود عسكري واقتصادي وسياسي بريطاني بالغ التأثير على مصر (استولى على السلطة رسميًّا من الأتراك بعد إعلان مصر تحت "الحماية المؤقتة" مع بداية الحرب العالمية الأولى) حتى صعود عبد الناصر إلى السلطة في الخمسينيات.
طوال الحرب العالمية الأولى، أصيبت البلاد بالشلل بسبب التجنيد البريطاني للعمالة المصرية والتخفيض المتعمد لأسعار القطن؛ وفي الوقت نفسه، عانت مصر بشدة من نقص الواردات
رغم غياب الريف عن فيلم ليلى، ظل حضوره الرمزي أداة قومية شعبية تربط السينما بجذور الهوية منذ الثورة العرابية -أحمد عرابي- أرشيف مدينة الرقمي
الأوروبية الحيوية.
أحد الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من هذا الخطاب، الذي لن نستطيع إدراكه إلا إذا عدنا لتفحص آثار واضحة لفترة معينة من الماضي، هو أن التحديث كان ذا تاريخ طويل ومضطرب داخل المحاولات المصرية الساعية لأشكال أكثر استقلالية من الحكم. ويمكن قول الشيء نفسه عن تقنيات الأفلام التي بيعت، واستخدمت لتصوير مصر بطرق لا تخدم مصلحة المواطنين المصريين بشكل كبير. ويخبرنا التعامل مع جانب آخر من التاريخ الإمبراطوري أن العثمانيين شجعوا المصريين على الالتحاق بالتعليم التكنولوچي في أوروبا (وبخاصة فرنسا)،
حيث تعرف الطلاب على فلسفات وممارسات الدولة القومية العلمانية والديموقراطية.
ومن هذه المواجهات باسم التحديث والاستعمار (غالبًا ما يتم إخفاء نواياه تحت ستار الإحسان) انبعث شكل جديد، أكثر تكيفًا، من الليبرالية الأوروبية (على عكس التقليدية المحافظة القومية الأكثر "عضوية"). وهذا لا يعني بالطبع أن نموذج الدولة القومية كان النموذج المثالي في تلك المرحلة، لكنه ربما كان تكتيكًا ضروريًّا بالنظر إلى فرضيات أخرى من هذا النوع، وإدراك مصر أن عليها أن تقاتل وفقًا لهذه الشروط. ويبدو أن مثل هذه العقليات قد تسربت إلى الكتابات
الكتابات النسوية في ذلك الوقت مثل كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" (1899)، والمرأة الجديدة (1900).
وبدلاً من الحديث عن بطلات من المنطقة، كما فعلت معظم المقالات حول هذا الموضوع عبر التاريخ المصري والعربي/الإسلامي، امتلأت هذه الكتب بلغات الحرية والعقلانية. تبرز أنماط الوعي المتصلة أيضًا من الأدوار الجنسانية المتغيرة المؤثرة التي لم يقتصر تأثيرها على ارتياد النساء المتعلمات دور السينما فحسب، بل بدأن أيضًا الانخراط في صناعة الأفلام. وقد استخدمت تعبيرات مماثلة عمدًا كوسيلة شائعة للتواصل عندما وجهت مصر نداءها إلى عصبة الأمم لتضمها إلى
صفوفها، وتتمكن من التخلص من وضع الحماية البريطانية: وهو الطلب الذي رُفض بشكل قاطع. ويمكن القول إن مناشدة الحواس الدولية المتشكلة حديثًا للحقوق قد غذَّت قدرًا كبيرًا من السخط الذي أعقب أعمال الشغب في عام 1919.
حينها كانت مصر تتحدث لغة عالمية من المفترض أن تكون مفهومة، مثلما حاولت فيما بعد مع السينما، ولكن من الذي يتحدث بلغة عالمية؟ وهل كان على استعداد للاستماع، على الرغم من طلاقة المصريين القسرية في لغة الإسبرانتو الافتراضية لهذا النوع من الحوار السياسي؟ كان الكثيرون ينظرون إلى منارات الحرية العالمية المفترضة
على أنها مجرد نسج من الخيال بالنسبة لسكان مصر: استعارات/ مجازات فارغة غير ذات فائدة ملموسة بالنسبة لهم. ويمكن تفسير التكتيك المصري التالي باعتباره محاولة جادة لضمان قدر أكبر من الحكم الذاتي والعدالة، بالتخلص من بقايا القوى الإمبريالية في البلاد؛ وإعادة تدوير تلك العناصر التي لا تزال تعمل لصالحها؛ وإعادة بناء الهياكل الجديدة على أسس قديمة قد يبدو أن غرضها أن تكون انعكاسًا للقديم، لكنها بدلاً من ذلك قُدمت للمستفيدين المصريين.
وربما كان من أنجح هذه الإستراتيچيات، تلك التي أعادت تشكيل السيطرة المالي للأجانب، والممارسات الرمزية المرتبطة
بالتقنيات الجديدة. ليس مفاجئًا أن عزيزة أمير، والسينما المصرية عمومًا، ارتبطا ارتباطًا وثيقًا بالشخصية الرئيسية في عمليات إعادة الاستثمار في التراث العثماني/التركي/ الشركسي والأوروبي، وقد أشرت بالفعل إلى أن أحد الداعمين الرئيسيين لها هو الاقتصادي القومي طلعت حرب، الذي ينبغي التأكيد على أن طموحه الكبير لإدخال الاقتصاد والثقافة في النضال من أجل التحرير كان أمرًا بالغ الأهمية، كما أعتقد، لأي تحليل مسيّس لبواكير السينما المصرية. وفي عام 1911، نشر حرب كتابه "علاج مصر الاقتصادي ومشروع بنك المصريين أو بنك الأمة"؛ الذي اقترح فيه إنشاء نظام مصرفي تعاوني من شأنه أن يؤدي
التنافس فيه مع المصالح الأجنبية وملكية الموارد المصرية إلى وقف مصادرة الأرباح والفائض الناتج عن الأراضي المصرية. كان المخطط يأمل أيضًا في تنشيط رأس المال الخامل في منازل أثرياء مصر (على شكل مجوهرات، مهور، وما شابه) لبدء مخططات النهوض القومي.
تمامًا مثل مدينة الموتى، حيث أعيد تخصيص الموارد التي كانت لها أدوار رمزية إلى حد كبير (مثل المقابر) بسرعة لأغراض عملية أكثر إلحاحًا (على سبيل المثال، إسكان المشردين)، تولى طلعت حرب زمام الأمور بشكل خيالي، وأعاد صياغة بعض الاحتياطيات لتمويل مبادرات بناء الوطن..
ويتضح أن طبقات ملاك الأراضي الزراعية (أو نظيراتها الحضرية) انجذبت في يسر إلى خطط حرب لاصطفاف المصالح المالية ضد المستثمرين الأجانب، وقد آتت هذه الأفكار ثمارها في عام 1920 مع إنشاء طلعت حرب لبنك مصر.
بنهاية العقد، كانت شركة مصر قد غامرت وأنشأت، على سبيل المثال لا الحصر، أبرز شركاتها في مجال الشحن والنسيج والطيران، بالإضافة إلى شركة مصر للتمثيل والسينما التي تأسست عام 1925، وأنتجت ووزعت الأفلام في جميع أنحاء المنطقة. وأصبحت شركة مصر ما أسماه إريك ديفيز Erick DAvis "قطاعًا عامًا شبه حكومي"، أو
طالب طلعت حرب بسينما مصرية في موضوعها، مصرية في شخصياتها، مصرية في مشاهدها- طلعت حرب- أرشيف مدينة الرقمي
وما وصفه حرب صراحةً بأنه "مجتمع وطني لتحقيق المشروعات العامة التي ليست من مسؤولية الحكومة".
من المسلم به خلال هذه الفترة، أن غالبية البنوك في مصر ظلت تحت السيطرة الأجنبية، وفي منتصف الثلاثينيات واجه حرب الكثير من الضغوط للتنازل عن خططه، لكن على الرغم من ذلك، تطورت شركة مصر إلى كيان كان العرب، بمن في ذلك من هم خارج مصر، ينظرون إليه في كثير من الأحيان على أنه استجابة مناهضة للإمبريالية، إذ يحوِّل أكبر قدر ممكن من التجارة بعيدًا عن إمكانية تحقيق أرباح أجنبية في مناخ اقتصادي منفتح على مصر.
أحبط خيال سعد زغلول إذن بالتحرر الوطني الفوري على الجبهتين الاقتصادية والسياسية. ليصبح الأكثر أهمية لاستقبال ليلى في المستقبل هو أن الفنون - السينما على وجه الخصوص - شاركت بشكل كامل في هذه الخطة، مدفوعة بتطلعات لنشر المُثُل السياسية بين نسبة كبيرة من السكان الأميين.
ومع ذلك، كان حرب بطيئًا في اكتشاف القوة المطلقة للسينما، وخصوصًا في الفترة التي أنتج فيها فيلم "ليلى"، إذ تصوَّر أنها مجرد جهاز تسجيل ينشر أنشطة شركات مصر في الداخل والخارج من خلال أفلام وثائقية قصيرة ونشرات إخبارية. لذا فلم يظهر ستوديو مصر، كمؤسسة إنتاجية صناعية، للنور حتى
عام 1935، على الرغم من أن حرب بدأ في هذه الأثناء في شراء معدات رائد الأفلام محمد بيومي، وإنشاء معمل صغير لمرحلة ما بعد الإنتاج، والتدريب على استخدام الآلات. ومع ذلك، على الرغم من ادعاءاته بأن السينما المصرية يجب أن تسعى جاهدة لأن تكون صناعية وترويجية وتجارية وتعليمية، فقد فشل في البداية في رؤية كيف يمكن للسينما أن تحقق هذه الأهداف بشكلها الترفيهي النموذجي. وربما تطلب الأمر وجود امرأة على المسرح، واحدة على دراية كاملة بالسياسات الأيقونية، لتجميع كل خيوط هذه القومية معًا.
بالإضافة إلى ذلك، وخلال الفترة ذاتها
التي كانت فيها عزيزة أمير تصور فيلم "ليلى"، بدا حرب متشككًا للغاية في استعداد صانعي الأفلام في مصر لإنتاج الأفلام الطويلة، حتى إنه حاول في البداية إثناء عزيزة أمير عن مشروعها، مع أنه، وفقًا لبعض المصادر، دعاها لاستخدام الاستوديو الخاص به، ومن ثَم يمكن للمرء أن يقطع بدعم مؤسسة ذات توجهات قومية بما كان في الأساس مشروعًا ممولاً من القطاع الخاص. في وقت سابق من العام الذي عُرض فيه فيلم "ليلى"، ألقى حرب كلمة على مسرح حديقة الأزبكية، حث فيها على إنتاج سينما "مصرية في موضوعها، مصرية في شخصياتها، مصرية في مشاهدها".
ومن ثَم سلط الضوء على الأهمية السياسية والفوائد الجمالية للاعتماد على التاريخ والجغرافيا المصرية؛ وهو ما فعله فيلم آخر لمحمد بيومي، "في بلاد توت عنخ آمون" إخراج ڤيكتور روزيتو. (حاول إنتاجه في 1923) وعندما بدا أن "ليلى" قد حقق كل هذه الأهداف في وقت لاحق من العام، كان حرب أول من هنأ عزيزة أمير بتصريحه العلني أنها "حققت ما فشل الرجال في تحقيقه".
يوجد هنا إذن ما يمكن قوله عن قدرات عزيزة أمير على "الوصول إلى هناك أولاً"من خلال سياسة اللعبة المجازية؛ فقد تمكنت من دمج العناصر التي وسعت بشكل خيالي الإحساس بما يمكن أن تعنيه الأفلام، في تناقض مباشر
محمد بيومي المخرج والرائد السينمائي..كانت محاولاته انتاج سينما مصرية خالصة
مع حرفية استخدام طلعت حرب الوثائقي للتقنيات السينمائية.
حاولت عزيزة أمير تفعيل قوة الخيال والمجاز سعيًا لتحفيز الخيال الوطني ودمج الفاعلية الأنثوية في الصراع الثقافي والسياسي.
وعلى الرغم من اختلافاتهما، فإن أعمال حرب، وعزيزة أمير لاحقًا، ترجمت رؤاهما إلى إستراتيچيات عملت في مساحات مصرية حقيقية وملموسة، فبينما أسس حرب مصانع وشركات ذات توجهات قومية في جميع أنحاء البلاد، كانت عزيزة تصور مساحاتها وسكانها. تحويل رمزية مشهد المدينة
من السمات الجديرة بالملاحظة في فيلم "ليلى" أنه بجانب اللقطات المأخوذة
لمواقع سياحية خلابة، ظهرت شوارع القاهرة التي يسكنها المحليون الفقراء. وتكشف حقيقة التصوير في المواقع الطبيعية عن علاقة بين الرمزية الوطنية والسياسة الاجتماعية للمناظر الطبيعية في القاهرة وضواحيها. وتنبهنا هذه اللقطات من خلال هذا التجاور، إلى بروز الزائر، الذي يطارد البنية السردية لليلى، ويتجلى بشكل واضح في مشاهد الفيلم والتصوير الذي استخدم سقارة كخلفية.
وهو في نفس الوقت مشبع بالأسئلة حول خروج المرأة إلى المجال العام. ولفهم الآثار المترتبة على هذه الخصائص، من المهم الاعتماد على المصادر التاريخية التي تشير إلى أن
البلاد ككل، في هذه اللحظة من الزمن، كانت في حالة حراك داخلي. ويشير أندريه ريموند Andrea Raimond إلى أنه في عام 1927؛ العام الذي أنتج فيه فيلم "ليلى"، كان عدد سكان القاهرة يزيد قليلاً عن المليون نسمة، ومع ذلك ففي العاصمة وحدها 614000 فقط من هؤلاء السكان. ولعل الشعور بعدم الكشف عن الهوية والحداثة التي ولدتها هذه الهجرة، يفسر الجرأة التي ميزت ظهور المرأة في المجال العام، وشجعت إمكانيات أوسع لتقاسم أفكار غذت الروح الوطنية والنسوية على حد سواء. إن لقاءات عزيزة أمير، العشوائية إلى حد ما، مع شخصيات مدنية مهمة (مثل يوسف وهبي) هو ما أدى إلى
لاحقًا إلى استحسانها لتقديم هذا الانعكاس، الذي كان في حد ذاته صدى للعديد من أشكال الثقافة الشعبية المصرية، وربما كان لها صدى لدى جمهورها، باعتبارها أسطورة المصادفة الكبرى، على الرغم من كل الصعاب في عالم قاس ومساحة من التدافع الطبقي جسدتها القاهرة في تلك الحقبة بالنسبة للكثيرين.
بالإضافة إلى ذلك، كانت مصر لعدة قرون نقطة التقاء لثلاث قارات، وفي 1927 كان عدد سكان القاهرة في عام يضم 180 ألف مواطن أجنبي.
وتكتب شريفة زهور "تألف خُمس سكان [القاهرة] من أقليات دينية ومواطنين أجانب.
ولكن، كما أشار [الباحث] رودنبيك Rodinbeck وآخرون، فإن الأذواق والتطلعات وأساليب الحياة المختلفة أنتجت نوعًا من الفصام الثقافي، الذي شمل في بعض الأحيان ما يمكن تسميته بعبادة المستورد وتدهور المحلي". وهكذا جسَّد فيلم "ليلى" نفسه، كما لم يفعل أي فيلم قبله، مقدمًا تنويعات التعددية الثقافية الحضرية هذه دون تقويض مصر. ومع أن عزيزة أمير اعتمدت على مجموعة مختارة من المغتربين والأجانب المتمصرين الذين يعملون في السينما والمسرح (بما في ذلك طاقم العمل من أماكن بعيدة مثل تركيا والمجر والولايات المتحدة)، فقد استطاعت من صياغة تفاعلهم معًا،
إذ كان هناك عنصر يتلاءم بسلاسة مع المعايير الجديدة الفخورة بمصريتها المتداولة في عشرينيات القرن العشرين؛ قوميتها الصريحة في اتهاماتها بالاستغلال (الداخلي والخارجي)، وفي الوقت نفسه تعترف بالسمت العالمي العميق للعاصمة آنذاك.
ومثلما هو الحال في أماكن أخرى من العالم، انضمت مجموعة من المهاجرين، والسكان غير المحليين المستقرين منذ فترة طويلة، والأقليات العرقية أو الدينية إلى مجموعة سكانية "نموذجية" أكثر وضوحًا، في خلق شعور وطني (ملزم دوليًّا) بالهوية التي يمكن أن تربط بين مجموعة متنوعة من الشعوب.
ومثلما تحتاج التطورات في أي ثقافة سينمائية إلى أن تُفهم من ناحية العلاقات الطويلة العابرة للحدود الوطنية، واستيعاب الهجرات، كذلك يجب على السينما المصرية أن تُفهم.
والحديث عن هذا لا يعني الإشارة إلى مسؤولية التأثير أجنبي في أي دراسة تناولت الفيلم. فهنا ترسخ الهوية الوطنية نفسها جزئيًّا كعقلية، لا من خلال مؤسسة خارجة عن الاستعمار، وهو وضع لا يمكن إدراج سوى عدد قليل من هؤلاء الأشخاص ضمنه بدقة (على الرغم من أن أمن "المجتمع الأجنبي" كان تحديدًا، أحد الشروط التي دعمت الحماية البريطانية).
لعبت هذه الأشكال المتنوعة المتكيفة
من التعددية الثقافية، والتفاعل بين الطبقات، والقومية الشاملة دورها في شوارع القاهرة نفسها، حيث يعتبر مشهد تصوير فيلم تقوده امرأة أمرًا غريبًا؛ لكنه مجرد جانب آخر من جوانب فوضى الحياة في مدينة سريعة التغير. وبمزيد من الدراسة يمكن ملاحظة أن التخطيط الفعلي للمدينة، وتصميمها المعماري، وإرث الغزو الذي مر عليها، قد خلق أنشطة (ثورية) مثل أنشطة عزيزة أمير. في تلك الفترة قُسِّمت القاهرة إلى قسمين: المدينة القديمة التي تعود إلى العصور الوسطى، والتطورات "الأجنبية" الأحدث التي استوطنتها أيضًا بعض الطبقات الأكثر ثراءً من النخبة المحلية.
التخطيط الفعلي للمدينة، وتصميمها المعماري، وإرث الغزو الذي مر عليها، خلق أنشطة (ثورية) مثل أنشطة عزيزة أمير.
هذا الانقسام تجاوزته عزيزة أميرة وفيلمها والنخب النسوية القومية آنذاك بأساليب سياسية ذكية. ربما يضيف هذا الحراك التاريخي الخاص وزنًا أكبر إلى المكانة التي حققها الفيلم، إذ أثرت البقايا الصلبة للماضي الاقتصادي الاستعماري (المتجسد في جغرافية القاهرة نفسها) بقوة على استقبال فيلم "ليلى" النسوي القومي. في القرن التاسع عشر، وبالإضافة إلى مخططات التحديث الأخرى، قدم الخديو إسماعيل أول مخطط لتطوير للقاهرة، وهو مشروع يشبه المخططات الأوروبية، وعلى عكس الحساسية المزعجة وعشوائية المدينة القديمة بُني الحي الجديد على مساحة غير مطورة، جنبًا إلى جنب مع مراكز
أكثر رسوخًا، وتميز بشوارع واسعة وڤيلات. ومثلما حدث مع مبادرات التحديث الأخرى، تجاوزت ميزانية مشروع (القاهرة الجديدة/وسط البلد) ما كان مفترضًا بشكل كبير (وذلك جزئيًّا بسبب الانتهازية وانعدام ضمير المطورين الأوروبيين)، الأمر الذي ساعد في التعجيل بالإفلاس الذي أدى إلى زيادة جحافل المستعمرين التجاريين والسياسيين.
على مستوى التجربة الحياتية المسيسة، لا بد أن الشوارع الواسعة والڤيلات التي ميزت القاهرة الجديدة قلبت الحياة المصرية التقليدية رأسًا على عقب؛ إذ توارت المجمعات السكنية التقليدية في العالم العربي، المنغلقة
المتماشية إلى حد كبير مع انغلاق الأسر (وبخاصة النساء)، أمام النوافذ الخارجية للڤيلات المحاطة بالحدائق التي جعلت الوجود أكثر عمومية بصورة كبيرة.
ومع أن هليوبوليس- مصر الجديدة، الضاحية الأخرى التي طورت في الفترة من 1870 إلى 1930 (سُميت عمدًا على اسم المستوطنة المصرية القديمة التي تحمل نفس الاسم)، حاولت دمج أنماط "الأرابيسك" في تصميم فيلاتها، فقد كانت هذه مجرد تفاصيل سطحية. خصوصًا بعد انتشار الموضة الأوروبية للتنزه في شوارع مناطق معينة، كما أدى تخطيط المدن في ذلك العصر إلى زيادة أعداد المتنزهات والحدائق، وبخاصة
في منطقة الأزبكية، بقرب من المسارح ودور السينما، حيث بدأت عزيزة أمير مسيرتها المهنية.
جدير بالذكر هنا أنه مهما كانت أفكار غير المتفاعلين مع هذه الأنشطة الحضرية، فقد قدمت الأعداد الهائلة من القوات البريطانية في البلاد الحماية لهذه الحركات (والانغماس فيها)، فظهرت المتاجر والمعارض الفنية وقاعات الشاي المملوكة لأوروبيين، مما شجع النساء الأثرياء على المزيد من الممارسات الاستهلاكية، بعدما كان التسوق في الأجيال السابقة مقصورًا على الخدم، أو عبر التجار الزائرين. وصار التركيز الآن منصبًّا على الترفيه والتسلية (مع ظهور السينما قريبًا) التي تتم
خارج المساحات المعزولة في أفنية المنازل العربية التقليدية. مجددًا يمكن للمرء تفسير وجود هذه الأنماط الجديدة والتفاوضية، بافتراض أنها سمحت، للأفضل أو للأسوأ، بنوع معين من الاستقلال.
وقد أجبر هذا المزيج المربك من العام والخاص والجماعي القاهرة على إعادة التفكير فيما تمثله أنماط الحياة المنفصلة عن عمد في كثير من الأحيان، تمامًا مثلما فعلت الاستخدامات المتعددة التي ميزت مدينة الموتى من قبل. وعلى الرغم من تأثيراتها الاستعمارية المطبوعة، فقد تم الاستيلاء على هذه المساحات الحضرية الجديدة بطرق قومية معينة خلال سنوات الفوران
الثوري وسنوات ما بعد الاستقلال. وكجزء من الفوران المستمر لمخطط ثورة 1919، نزلت أعداد كبيرة غير مسبوقة من النساء (المحجبات) إلى الشوارع، ونظمن أنفسهن عبر الهاتف، وهو استخدام للتكنولوچيا أعاد صياغة الفوائد المختلطة للبرامج التنموية في مصر، وقد انضمت هؤلاء النساء إلى رجال من خلفيات طبقية وعرقية ودينية مختلفة في تظاهراتهم، مما شجع المزيد من الأعداد على الخروج احتجاجًا على مقتل امرأة تدعى حميدة خليل، على يد جندي بريطاني. وبدأت عمليات مقاطعة المتاجر البريطانية في العشرينيات من القرن الماضي، وهكذا أصبحت الشوارع الواسعة الجديدة
مساحات للسخط العمومي. وهو مستوى من التضامن لم يسبق له مثيل في التاريخ المصري الحديث تجاوز جميع أنواع الحدود الاجتماعية. ومن الواضح أن مثل هذا النشاط القومي متعدد الثقافات أثر على الطرق التي تم بها تأليف فيلم "ليلى" وتفسيره والاحتفاء به (إذا أخذنا في الاعتبار لغة المراجعات المعاصرة).
أصبح الفضاء المشترك مستثمرًا بحس قومي جماعي؛ وتدريجيًّا أصبحت النسوية والسينما، بحساسياتهما العامة المتشابهة، أجزاءً من هذا الحس الجماعي، بطرق كان من الصعب على طلعت حرب أن يتخيلها. دون أي سرديات معاصرة، لا يمكن للمرء إلا أن
يتخيل ما يعنيه بالنسبة للمرأة أن تقوم بالتصوير في هذه البيئة. إن هذه القضايا المنعكسة دوليًّا والمتعلقة بكسر التقاليد، وإقامة علاقات جديدة بين الچندر وبين العام والخاص، تنتقل من خلال طبيعة السينما ذاتها.
يحرص الفيلم على التوازن بين الحضور والغياب المرتبط بالحجاب المعبر عن احترام خاص لنشاط المرأة في المجال الخارجي. وعلى عكس الأشكال الأخرى من الترفيه المصري الذي تهيمن عليها الإناث، مثل الرقص الشرقي (الذي كان آنذاك علنيًّا، أو يقام في المنازل)، لم تواجه السينما الفروق بين الجنسين في الفضاء الاجتماعي (المنزلي مقابل العام) التي تدعم أساليب الحياة العربية
أصبحت الشوارع الواسعة الجديدة مساحات للسخط العمومي؛في تضامن التضامن لم يسبق له مثيل
التقليدية بنفس الطريقة. ماذا قدمت مساحة التصوير كبديل أو كإعادة صياغة لهذا المفهوم؟ أكان العمل بهذه الطريقة مقبولاً، وإذا كان الأمر كذلك، فلمن؟ من المؤكد أن عزيزة أمير كانت الأولى فقط من بين عدد كبير من المخرجات والمنتجات، كان من بينهن، في غضون سنوات قليلة، بهيجة حافظ، وآسيا داغر، وفاطمة رشدي، وماري كويني، وأمينة محمد.
ولا بد أن مشاهدة الأفلام في حد ذاتها كان عليها أن تعيد التفاوض حول وجودها، في هذه المساحات الجغرافية والرمزية المختلفة، ومن المؤكد كذلك أن السينما انخرطت في خلق سلع استلزمت خروج النساء، الخاضع
للتحكم الشديد من المشهد المنزلي وصولاً لفضاء المشاهدة. وكما لاحظت كارين ڤان نيوكيرك Karin Van Nieukerk في بحثها عن "الراقصات الشرقيات"، فإن "القبول أو عدم القبول بالفنانات الاستعراضيات لا يتعلق فقط بالنوع، بل أيضًا بسياق الأداء
كيف إذن وفَّرت هذه الوسيلة السينمائية المعتمدة حديثًا إلى حد ما، أسلوبًا بديلاً للظهور العام (النسائي) تحت رعاية الفكرة القومية؟ ومع أن عزيزة أمير ناقشت بعناية ونجاح احتمالات ظهور مثل هذه المظاهر على المستوى الرمزي والسردي، فربما استقبلت إلى أنشطتها الفعلية بشكل مختلف.
فاطمة رشدي كانت في زمانها ممثلة المسرح الأولى .. الصورة من أرشيف مدينة الرقمي
ومن المؤكد أن وجودها، وحضور الفنانات المعاصرات الأخريات، كان مسموحًا به ومُقدرًا، لكنه ربما كان شيئًا لم يكن الجمهور راغبًا في أن تشارك فيه بناتهم، وهذا ينطبق على نشاط الحركة النسوية كذلك (العديد من أبطالها الرئيسيين، مثل الممثلات، كن بلا أب). وهكذا كان هناك خطر قائم دائمًا في أن تصبح النساء (إلى جانب الفئات "المهمشة" الأخرى) المنخرطات في هذه المشاريع، مثل العديد من الشخصيات المدفونة في مدينة الموتى؛ إذ مُحيت هوياتهن قسرًا كي تتمكن الحياة (بما في ذلك القومية) ذات الطبيعة الأكثر عملية من المضي قدمًا. وقد اعتمدت المواقف المفضلة، لأولئك الذين لم
يتمكنوا من تقديم أنفسهم من خلال النماذج الرائدة الأكثر تحفظًا، على محور تمكن من الصمود في وجه الحركة والسكون الضروريين للقومية الناشئة. وهذا هو المكان الذي يوجد فيه الرمز أيضًا، فكما يقول ر. راداكريشنان R. Radhakrishnan، يكتسب رمز "المرأة" قوته "من عدم قدرته على إنتاج تاريخه الخاص استجابةً لإحساسه الداخلي بالهوية، إذ تجعل الآيديولوجية القومية المرأة ضحية وإلهة في آن واحد. تصبح المرأة الاسم المجازي لفشل تاريخي محدد: الفشل في ترويض السياسي، أو الوجودي مع المعرفي داخل هيئة غير منقسمة.
ويبدو أن نشاط عزيزة أمير في صناعة
الأفلام يوضح ويقدم اقتراحات شاملة لهذا التفاعل بين المتخيل والمنجز، كما تجسد شخصيتها وعملها الاستقرار والتهميش والحراك، والقبول الشامل للمعايير، والتأكيد على الاختلاف الذي كان مطلوبًا في هذه اللحظة في بناء الأمة "النسوية". يتجلى هذا أيضًا من خلال تحركاتها (أيا كانت) كامرأة في المدينة. وقد سمحت مواقفها المشكوك فيها، في كثير من الأحيان، فيما يتعلق بالاتصال بالخارج والطبقة، بالاعتراف بتصدعات الهوية الوطنية المصرية، وتسجيلها بأقل الدلالات غموضًا. وقد اعترف أولئك الذين احتضنوها، وكذلك السينما المشكوك فيها بنفس القدر، بهذا البعد أيضًا.
ومثل النضال من أجل الروح المصرية، ببروزها كخاصية للنضال التحرري، ونضالها في إرساء الوضوح والتماسك، كان ظهور السينما هجينًا.
وتم إلى حد كبير من خلال الرمزية - وهو الشكل الذي يكرس للهويات المنفصلة والمشتركة، الفعلية والمتخيلة، القديمة والجديدة الموجودة في آن واحد، وفي النهاية، فكل هذه التكوينات تعتمد نغمات عديدة لازمة لجذب وتعريف شيء بالغ التنوع والانقسام مثل الأمة.
*نشرت الدراسة في دورية Camera Obscura، العدد 22، في 1 مايو 2007