الحب والطبقة في زمن تحرير المرأة 

كواليس "حملة" فاطمة سري

الحب والطبقة في زمن تحرير المرأة 

  • أسبوعي
  • ملفات
  • كتابة

كيف تحولت مذكرات مغنية لوثيقة تكشف تناقضات الطبقة العليا المصرية بعد ثورة 1919؟ وهل كانت مجلة المسرح منبرًا للحقيقة أم مجرد أداة في معركة الفضائح؟ هل فاطمة سري ضحية أم رائدة نسوية دافعت عن حقها؟

 أثناء البحث عن فاطمة سري لاحظت أوصافًا عديدة تسبق اسمها: الصعلوكة، مطربة من الدرجة الثانية، مطربة نص لبة، هامشية، غانية، الخبيرة بألاعيب الرجال. لكن صحافة تلك الفترة لم تكن تعتبر فاطمة سري مطربة هامشية أو من الدرجة الثانية، بل على العكس، مثلاً في مقال بعنوان "مطرباتنا في المرآة.. فاطمة سري"، منشور في مجلة الكواكب بتوقيع "خبير"، يوليو 1932: "يقول الفنيون إنها وإن كانت تعتبر من مطربات الدرجة الأولى فليست بالفنانة الممتازة. ولكن سل (شباك التذاكر) يخبرك الخبر اليقين أنها عندما تغني وتطرب تفيض بالربح على متعهد الليلة، وعندما تسأله يجيبك

(فيها سر والسلام)".
مع أنها كانت مطربة معروفة، تظهر على أغلفة المجلات، ولديها معجبون، لكنها بالنسبة لجمهور المجلات؛ شخصية غامضة، المعلومات المتاحة عنها قليلة، حتى إنها في مذكراتها لم تهتم بأن تذكر مَن هي قبل أن تعرف محمد شعراوي كما أن تاريخ ميلادها ما يزال إشكاليًّا.

سيدة شرقية تنشر مذكراتها
منذ البداية، حرصت مجلة المسرح على طرح هذه المذكرات كوثيقة تتضمن الحقيقة، حقيقة ما جرى بين محمد شعراوي وفاطمة سري، بعد قرابة عام من تداول أخبار هذه العلاقة على صفحات الصحف والمجلات،

على الرغم من أنها كانت مطربة معروفة، وتظهر على أغلفة المجلات، ولديها معجبون، لكنها تبدو شخصية غامضة

واتهمت الصحف على اختلافها بأنها "تكتب ما يعن لها. وما قد لا يكون له أساس من الصحة"، لذا تنشر المسرح رواية فاطمة سري باعتبارها رواية تصحح كل الأكاذيب وتضع الحقائق في نصابها، وليست مجرد وجهة نظر طرف من أطراف القضية. ويبدو أن مجلة المسرح قد نجحت من خلال إتاحة المساحة لإسماع صوت فاطمة في جعل روايتها الوثيقة الوحيدة المتاحة عما حدث، مستغلة إن الطرف الآخر، جبهة شعراوي، ظلت متكتمة، مستخدمة أساليب الضغط على الأطراف الفاعلة في الكواليس لكي لا تظهر علنًا؛ ربما لشعورها بالإحراج أو تحقيرًا من فاطمة وقضيتها!

من ناحيتها، استهلت فاطمة سري مذكراتها، التي رُويت على لسانها كأنها توجه دفاعها في قاعة محكم بعبارة "نشر هذه المذكرات الغرض منه عرض أمري على محكمة الرأي العام لكيلا تصدر حكمها ضدي اعتباطًا كما تصدره على كل امرأة في مثل ظروفي وظروف محمد شعراوي..". وتلاها ملاحظتين، الأولى أنها تقدم الحقيقة، على خلاف ما يعرفه الناس، والثانية بأنها تدرك أن خطوتها هذه "جرأة"، وقد يراها البعض "غرابة"؛ لأن "مصر لم تر إلى هذه اللحظة سيدة شرقية نشرت مذكراتها على أية حادثة من الحوادث التي صادمتها في الحياة"، وربما يكون ذلك صحيحًا، سواء أدركته بنفسها، أو كان 

من وحي محرر المذكرات(المجهول).
ترجح نهاد صليحة في دراستها المهمة "المرأة بين الفن والعشق والزواج"، أن مذكرات فاطمة هي "أول وثيقة تطرح صراحة موضوع الزواج العرفي من وجهة نظر امرأة". وقد يعني اختيار مطربة مشهورة أن تتحدث في شؤون الحب والزواج علانية سقوط عصر الحريم، بلجوء النساء إلى إدارة صراعاتهن مع الرجال، عبر الصحف دون اختيار الشكوى بأسماء مستعارة، أو عبر وسطاء رجال. كانت فاطمة سري تشكل أبرز عضو في الجبهة المضادة لفريق شعراوي، جبهة الأفندية، ولجوئها إلى مجلة المسرح لكتابة مذكراتها إحدى وسائلها للضغط،

بحثًا عن جوانب تميز، قررت "المسرح" أن تهتم بشؤون المسرح المحلي، على غير عادة الصحف المصورة في تلك الأيام..

وإدارة صراع تكسير العظام مع آل شعراوي، في لحظة ربما لم تكن موازين القوى في صالح فاطمة وخصوصًا أن نفوذ هدى شعراوي-في الكواليس- كان أقوى وأكثر تأثيرًا!
تطرح نهاد صليحة في بحثها، أسباب أخرى للجوء فاطمة سري لنشر مذكراتها في مجلة مهتمة بالفن في مصر، فتقول إنها جاءت ضمن "حملة إعلامية"، سبقتها صورًا وأخبارًا وتقارير، بالإضافة إلى إعلانات وحوارات صحفية، تمهيدًا لعودة فاطمة إلى الغناء من جديد، بعد عامين من الاعتزال الإجباري، الذي أعقب زواجها من محمد شعراوي وحملها، ثم انفصالها عنه بالطلاق. وهو ما نجحت فيه المجلة، 

فأصبحت فاطمة سري بفعل رواج أخبار قضيتها في الصحف وأمام ساحات القضاء، مطلوبة من جديد في المسارح والصالات. كانت الصحف الفنية في تلك الفترة تعد فاطمة سري -من حيث المكانة- بعد منيرة المهدية، أم كلثوم، وفتحية أحمد.
انتقلت عدوى الدعاية لفاطمة سري إلى مجلة المصور، التي نشرت إعلانًا من شركة أوديون للتسجيلات عن أسطوانات "المطربة المحبوبة السيدة فاطمة سري" (نوفمبر 1927). وعندما توقفت مجلة المسرح عن الصدور، عقب وفاة رئيس تحريرها، وصدرت في نسخة جديدة، ظلت فاطمة سري تظهر على أغلفتها، ومن خلال إعلانات

رغم الود بين فاطمة وشركة أوديون، قاضتها الشركة لإخلالها باتفاقهما بالاعتزال بعد الزواج ؛مجلة المصور 18 نوفمبر 1927

رغم الود بين فاطمة وشركة أوديون، قاضتها الشركة لإخلالها باتفاقهما بالاعتزال بعد الزواج ؛مجلة المصور 18 نوفمبر 1927

شركة أوديون أيضًا.ولاحقًا، عندما كانت القضية ما زالت متداولة في ساحات القضاء، نجحت في التعاقد مع صالتي بديعة مصابني وماري منصور للغناء، لتصبح أول مَّن يخالف العرف في شارع عماد الدين بأن يقتصر عمل الفنان على صالة واحدة فقط(مجلة الدنيا المصورة، نوفمبر 1930).

لماذا دعمت مجلة المسرح فاطمة سري ضد محمد شعراوي؟

صدر العدد الأول من مجلة المسرح في 9 نوفمبر 1925. ولم تستمر سوى عامين فقط، إذ توقفت عقب وفاة صاحبها ورئيس تحريرها محمد عبد المجيد حلمي، ثم صدرت في نسخة جديدة

بفريق المحررين نفسه باسم "الناقد".
ظهرت المسرح كمغامرة صحفية بالتعاون بين زميلين عملا في القسم الفني بصحيفتي "كوكب الشرق" و"خيال الظل"، هما: محمد عبد المجيد حلمي، وجمال الدين حافظ عوض، اتفقا على إصدار مجلة أسبوعية "نثير حول المسرح ضجة كبيرة نلفت إليها نظر الجمهور"، ثم تقدما بطلب الترخيص إلى وزارة الداخلية. (من افتتاحية عدد 16 نوفمبر 1925). وكانت خطتهما بسيطة، اختصرها عبد المجيد حلمي في عبارة "انتزع رحمتك، واستعمل حكمتك"
بحثًا عن جوانب تميز، قررت "المسرح" أن تهتم بشؤون المسرح المحلي،

على غير عادة الصحف المصورة في تلك الأيام، التي اهتمت بممثلي السينما الصامتة والمسرح الأوروبي والأمريكي، وتهمل الفنانين المحليين، ويعتبرون أن نشر صور المصريين "معابة وعارًا"؛ لأن "طبقة "الأرتيست" عندنا -كما يقولون- طبقة منحلة".
من يطالع أعداد المجلة على مدار عامين، قد يشكك في أن الحكمة كان لها مكان في تحرير موادها، فهناك فرق شاسع بين الهدف الذي صدرت من أجله، وما آلت إليه الممارسة الفعلية، فقد ذكرت المجلة في افتتاحية العدد الأول إن "المسرح" هدفها هو النهوض بالفن، وأن تصبح سلاحًا من أسلحة "الجهاد الفني"، إلا أنها سرعان

من يقرأ المذكرات يستطيع أن يلمس نبرة متكررة في الحديث عن المال، وحرص فاطمة في كل مناسبة على التأكيد أنها لم تستفد شيئًا

ما أصبحت مجلة تهتم بأخبار الشائعات والنميمة، وأداة يستخدمها الفنانون من أجل إدارة صراعاتهم الخاصة. نجحت المجلة في صنع سجل أسبوعي يوثق عروض وأخبار المسرح المصري في سنوات العشرينيات، لكن باستخدام لغة عدوانية وقاسية ومبتذلة أقرب إلى اللغة المحكية منها إلى الفصحى. ومذكرات فاطمة سري لم تكن بعيدة عن ذلك، بل تعبيرًا عنه.
على سبيل المثال، هذا الخبر المنشور في عدد 16 نوفمبر 1925 عن الفنان ستيفان روستي، الذي كان نجمًا لامعًا: "اسطفان روستي قد اشترى أتوموبيلا "توسيتر" تراه دائمًا ملطوعًا إلى جانب الباب الخلفي للتياترو".

كثير من أخبار الكواليس من نميمة وشائعات نشرتها المجلة دون أسماء، حتى إن محرر الباب نفسه اختار اسمًا مستعارًا هو "شارلي شابلن"، هذا الخبر مثلاً: ".. وشعنونة هذه امرأة مترجلة، أو رجل مخنث على جانب كبير من صفاقة الوجه والتلامة. بعثت هذه الشعنونة بخطاب إلى إدارة التحرير تشكوني، وتشكو من نشر نوع معين من الأخبار المسرحية التي لا تروق لحضرتها. وطلبت أن نتبع نصائح خاصة أدلت بها إلينا..".
الغريب أن المجلة وهي تحاول أن تجد لنفسها موطأ قدم في الصحافة الفنية، باستهدافها الفنانين المحليين، انطلقت من منظور أخلاقي لا فني،

بأن احتقرت هذه الطائفة من الناس، نساءً ورجالاً، وعمدت إلى إهانتهم والحط من شأنهم، ولم تخلُ افتتاحياتها من سبهم وتوجيه الاتهامات لهم، دون الاهتمام ببيان السبب. ففي افتتاحية عدد 15 أغسطس 1927، التي جاءت بعنوان "أخلاق ونفسيات حقيرة في الجو المسرحي": "على كره مني إذا أنا خضت في الحديث عن وسط يكاد يكون أبطاله نفاية الأوساط الاجتماعية جميعًا، وبطلاته حثالات ما تضاءل من البيئة المصرية..". وفي نهاية تلك "الكلمة الهادئة"، تهددهم المجلة بأن يصلحوا من شأنهم "وإلا كان لنا معهم شأن آخر".

حديث فاطمة سري عن حتمية فوزها بالقضية لم يكن محض شعور أو تمن، بل يقين نبع من استشارتها لعدد من المحامين

نأتي لفاطمة سري ومذكراتها، التي أفسحت لها هذه المجلة مساحة 13 حلقة كاملة؛ ضمن حملة إعلامية استمرت عامين، بالإضافة إلى الأخبار والصور والحوارات والإعلانات وصورة الغلاف.
يمكن النظر إلى مذكرات فاطمة سري، المنشورة على مجلة المسرح، على أنها جزء من سياسة المجلة، التي اختارت أن تقف مع طرف ضد آخر بشكل عام منذ بداية إصدارها، وأن تدير الصراعات بمساعدة أصحابها وبالنيابة عنهم، قد لا تكون خدمة مدفوعة الأجر، لكن لا يمكن أن نستبعد أنها خدمة من أجل مزيد من الربح وجذب الإعلانات،

وجذب أكبر عدد من محبي الفضائح والنميمة وأخبار ما يجري في الكواليس وسباب مشاجرات قارعة الطريق، من الصعب -في ضوء ما يُنشر في المجلة، أن نعتقد -حتى وإن لم تشكك المجلة في صحة الزواج- أنها وقفت مدافعة عن موقف فاطمة سري ثقة في صدق قضيتها أو تدعيمًا لها ضد أطراف أقوى منها. مع ذلك، من حسن الحظ، جاءت النتيجة النهائية أن نشر المذكرات أسهم -وما يزال- في أن نرى القضية من وجهة نظر امرأة، جُردت منذ البداية من كل مصادر قوتها في صراعها مع ذوي ثروة ضخمة ونفوذ.

ضحيت شهرتي ومركزي وفائدتي المادية
فاطمة سري اسمها الحقيقي فاطمة سيد المرواني، من مواليد 1904، يعني أنها تكبر محمد شعراوي بعامين فقط، لكن الباحث أيمن عثمان، يقول إنها كانت في الثلاثين من عمرها عندما تزوجت محمد شعراوي، وهو في التاسعة عشرة من عمره، أي أنها تكبره بأكثر من عشر سنوات. وهذا احتمال وارد فتلاعب الفنانين في أعمارهم مسألة شائعة، لكن الفارق العمري بينهما يترجم مباشرة إلى أن فاطمة سري متلاعبة بشاب ما يزال طالبًا في الجامعة، ويجعلها الطرف المستغل في العلاقة، من وجهة نظر فريق هدى شعراوي.

بدأت فاطمة سري العمل كمطربة مسرحية، وتنقلت بين الفرق فعملت مع فرقة الريحاني وعلي الكسار..

طرحت فاطمة هذه النقطة في مذكراتها، وأشارت إلى أن الرأي العام المنقسم بينها وبين آل شعراوي، قد يرى فيها امرأة متلاعبة، صاحبة تجارب -تزوجت مرتين، وطلقت، وكان شيوع نبأ علاقتها بمحمد شعراوي سببًا في أن ينتزع منها طليقها ولديها- استغلت صغر سن محمد شعراوي للاستفادة من ثروته وشهرة عائلته ونفوذ والدته، لتصبح رسميًّا فردًا من آل شعراوي، لكنها تنفى أن هذا كان غرضها من هذه العلاقة: "اكتبوا عني ما شئتم، قولوا إنني كنت أحاول استغلال هذه العاطفة، أذكروا أنني قسوت لأستبد بعواطف ذلك الشاب وأعبث بقلبه المندفع(..) فكل أقوالكم وكل فلسفتكم

لا تمنعني أنا من إدراك ما أدركت ولا من التألم مما تألمت". وقد أفسحت مساحة كبيرة في مذكراتها للحديث عن كيف تطورت علاقتها بمحمد شعراوي، وأنه لاحقها وألح في رغبته بالارتباط بها، والمشاعر المتضاربة التي انتابتها في كل مرة يظهر في حياتها، إلى أن شعرت بالحب نحوه. مع تأكيدها على إن كل الاعتبارات التي قد يراها الناس ميزات بارزة في هذا الرجل-سنتناولها فيما بعد- مع أهميتها، لم تعنها في الواقع، بل كانت تقلل من شأنها وتخشى من تأثيرها على مستقبل علاقتها به "لم أكن أحب شباب محمد، ولا ثروته، ولا اسمه، بل لم أكن أفكر حتى في مركز عائلته، إنما كنت أحب محمد وحده

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

فاطمة لا تحب المجازفة، لو معها مليون جنيه لن تنفقها لإنشاء فرقة تمثيل، وهذا لا يعني أنها لا تحب المجازفة في الحياة. مجلة المسرح 10 مارس 1927- أرشيف مدينة الرقمي.

مجردًا من كل شيء..".
من يقرأ المذكرات يستطيع أن يلمس نبرة متكررة في الحديث عن المال، وحرص فاطمة في كل مناسبة على التأكيد أنها لم تستفد شيئًا من علاقتها بمحمد شعراوي، بل خسرت مالها وضحت بعملها وايرادها الشهري الذي كان يصل إلى مائتي جنيه، بالإضافة إلى اضطرارها لإنهاء عقد شركة أوديون والقضية التي أقامتها ضدها وخسرتها؛ بسبب رفض محمد شعراوي عودتها للفن، مثلاً: "ليتذكر الناس أنني كمغنية ضحيت شهرتي ومركزي وفائدتي المادية حين قبلت معاشرة محمد شعراوي؛ بناء على التعاقد الذي تم بيننا،

كذلك ضحيت كل ما عرض علي من المال عند طلب التسوية من قبل المحامي الذي يدير حركة تصرفات زوجي في دفاعه ضدي..". وهي هنا تقصد المحامي إبراهيم الهلباوي المعروف بـ "جلاد دنشواي" الذي كان أحد الوسطاء لإنهاء الأزمة، بأن عرض عليها قرابة العشرين ألف جنيه في مقابل الصمت. وذكرته صراحة في موضع آخر من الحلقات، وقالت إن هناك من كان يلومها على التضحية بهذا المبلغ الكبير "ومن آخر يحسرني على رفضي العشرة آلاف بل العشرين ألف من الجنيهات التي عرضها عليّ الهلباوي بك في مقابل عدم مطالبتي لزوجي بحقوقي وحقوق ابنته..".

وتعود من جديد لتقول: "هل كنت محتاجة للمال وأنا أربح منه المئات في كل شهر بدون تضحية؟..".
يبدو أن المال كان يشغل حيزًا كبيرًا من عقل فاطمة سري- في معظم الحلقات كان هناك إشارة للمال- وكانت حسابات المكسب والخسارة تحسم الكثير من مواقفها، لكن ليس دائمًا، فهي وإن رفضت مبلغًا كبيرًا من المال تقدمت به أسرة شعراوي في مقابل تنازلها عن القضية، وأن تُنسب الطفلة لرجل آخر، كما رفضت مبلغًا شهريًّا تبرعت به هدى شعراوي من أجل نفقة الطفلة، إلا أنها حرصت في المقابل على حقوق ابنتها المعنوية والمادية أيضًا. فهي تعرف أن الاستمرار في القضية،

عند وفاة والده علي شعراوي، لم يكن محمد قد اكتسب معرفة كبيرة بالعالم، واقتصرت صداقاته على أعضاء عائلته ومحيطها المحدود

مع الاحتمالية الكبيرة للفوز بها، يعني أن ليلى ستصبح وريثة لمحمد شعراوي، أي أن أي مبلغ ستتقدم به الأسرة للتسوية، لن يكون شيئًا أمام الميراث المستقبلي للطفلة. وكانت تدرك أيضًا أن حرمانها من ابنتها قد يكون نهاية الطريق الذي اختارته منذ البداية، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك.
هنا تجدر الإشارة إلى أن حديث فاطمة سري عن حتمية فوزها بالقضية لم يكن محض شعور أو تمن، بل يقين نبع من استشارتها لعدد من المحامين، منهم مثلاً فكري أباظة، الذي كان صحفيًّا مرموقًا أيضًا وعضوًا في البرلمان، ولم تذكره صراحة في مذكراتها، بل اكتفت بالإشارة: "قبل أن أقدم عريضة دعواي إلى

المحكمة فكرت في استشارة بعض رجال القانون المعروفين. وكان أول من خطر في بالي محام كبير له مكانة سامية بمداركه ومعارفه وهو الآن عضو بمجلس النواب فشرحت له أمرى واستشرته في رفع الدعوى فحرضني على رفعها ضامنا لي ربحها..". وكان لفكري أباظة دور كبير في الكواليس، عندما أخبر سعد زغلول -قبل وفاته عام 1927- بأن هدى شعراوي تمارس نفوذًا على القضاء الشرعي لحسم القضية لصالح ابنها، فتحول موقفه لدعم فاطمة سري ورفض توجيه القضاء لصالح آل شعراوي رغم مساندته لهم في البداية.

خُلقت لأكون زوجة وربة بيت 
وفقًا لمجلة المسرح يونيو 1927، بدأت فاطمة سري العمل مطربة مسرحية، وتنقلت بين الفرق فعملت مع فرقة الريحاني وعلي الكسار، والتحقت بفرقة "ترقية التمثيل العربي"، كما كانت تغني بين الفصول على مسرح رمسيس. في مرحلة تالية غنت فاطمة سري بمصاحبة التخت، بعد أن أصبحت مشهورة كمطربة، وظلت تعمل بمصاحبة التخت، حتى تزوجت من محمد شعراوي، الذي منعها من الغناء نهائيًّا، فاعتزلت. وقيل إن زوجها الآخر سيد البشلاوي لعب دورًا في تنمية مواهبها الفنية، فاستعان بالمطرب

إن كانت هدى شعراوي سترفض زواجه من مغنية فإن محمد شعراوي تعامل مع الأمر منذ البداية باعتباره نزوة، علاقة عابرة..

والملحن داوود حسني لتدريبها. تذكر نهاد صليحة في دراستها- السابق الإشارة إليها- على لسان الصحفية في دار الهلال أماني فريد، التي أجرت حوارًا مع فاطمة سري في مرحلة متقدمة من حياتها، أن فاطمة كانت: "جميلة، رشيقة، جذابة، ذات صوت رخيم، ودودة، مضيافة، دائمة الابتسام حتى وهي تغني. وإلى جانب جمالها، كانت تتمتع بذكاء فطري حاد في فهم البشر، والتعامل معهم، وكسب ودهم خاصة الرجال..".
محرر مجلة الكواكب الذي كتب مقال "مطرباتنا في المرآة"، عن فاطمة سري لمس في شخصيتها جوانب متعددة، بخلاف أنها مطربة وممثلة، فقال: "الفتانة، المالية الاقتصادية، السياسية،

أم الأولاد، المكافحة الجبارة، وزبونة النيابة والمحاكم الشرعية والمختلطة والأهلية والمجالس الحسبية. فهي ليست شخصية واحدة بل عدة شخصيات".
اللافت في مذكرات فاطمة سري أنها لم تكن تحب مهنتها أو تقدر عملها: "أنني خُلقت لأكون زوجة وربة بيت لا مغنية منطلقة، وقد كنت على الدوام زوجة شرعية لها كرامة.."، وهي تذكر هذا الرأي في معرض دفاعها عن انصياعها لرغبة محمد شعراوي في أن تعتزل الغناء بمجرد زواجهما، فهي وإن كانت مطربة وممثلة واستطاعت أن تكسب الكثير من المال والشهرة من هذا العمل إلا أنها كانت دومًا على استعداد

للتضحية بـ"الشهرة والمال والربح الوافر في مقابل الهناء الصحيح في مهد غرام يحفظ كرامتي ويضمن لي راحة البال والطمأنينة..".
المعنى نفسه كررته بصورة أخرى، في حوار لها مع مجلة روز اليوسف -22 سبتمبر 1927- فقالت إنها تتمنى لابنتها ليلى "نصيبًا غير نصيب أمها وأن تظل بعيدة عن المسرح وعن التخت"، وأنها إذا خسرت معركتها مع محمد شعراوي، فليس أمام ليلى إلا أن "تكون مطربة مثلي تكسب عيشها على التخت بين الأنوار والنظرات والأقاويل". فما كان من الصحفي الذي أجرى الحوار إلا أن يعنونه "حفيدة شعراوي باشا تشتغل مطربة"

قضية فاطمة سري لإثبات بنوة ليلى إلى محمد شعراوي لم تؤثر على حياته العامة، فقد ظل يرتاد الملاهي

من ناحية، هذه التصريحات تبدو ازدواجية واحتقار للمهنة التي منحتها الحرية والشهرة والاستقلال المادي، ومن ناحية أخرى يمكن وصفها بأنها نوع من التلاعب، وجزء من حرب فاطمة سري النفسية ضد خصومها، فليس بالضرورة لليلى أن تصبح مطربة لمجرد أن والدتها كذلك، كما إن فاطمة لم تنف أن لديها ثروة كبيرة، وليست بحاجة إلى أموال أسرة شعراوي، فكان يمكنها تربية ليلى مثل شقيقيها، وبالتأكيد عودتها للفن، بعد طلاقها من محمد شعراوي، ليس لكي تنفق على ابنة محمد شعراوي بل "حبًا في الشهرة والأضواء والانطلاق وإن المبرر الذي تسوقه علنًا كان المقصود به التشهير بأسرة زوجها" -

كما تذكر نهاد صليحة.

من هو محمد شعراوي
من الجوانب التي يمكن ملاحظتها، تصوير فاطمة سري لشخصية محمد شعراوي من خلال التأكيد المرة بعد المرة على سلوكه العنيف وألفاظه البذيئة التي استخدمها لينال منها بعد انتهت علاقتهما، والمتأمل للمذكرات يمكن أن يرى محمد شعراوي شابًا ثريًّا مدللاً، متلونًا، ضعيف الشخصية وسهل الانقياد، كان يبدو كشخصية ابن الباشا الذي أفسده التدليل في فيلم "العزيمة"، شخصية ذات بُعد واحد، مثلاً وصفته فاطمة: "هو شاب وللشباب عيوب كثيرة: نزوات الطيش، والرعونة

والتقلب، وعدم الوفاء، وعدم المبالاة ثم عدم تقرير التضحية". وفي موضع آخر: "ظهر أنه الشاب الذي له كل صفات الشباب الأرعن القاسي المشتط..".
تصف سنية شعراوي والدها محمد، في كتابها "وكشفت وجهها.. حياة هدى شعراوي أول ناشطة نسائية مصرية"، بأنه كان "ضئيل البنية، داكن البشرة، شرقي الملامح ويتمتع بالجاذبية، كما كان قارئًا نهمًا. يكاد يكون منعزلاً. لديه جانب يجعله أقرب إلى الباحث منه إلى المثقف". وكان منجذبًا للمبادئ التي تشكل عالم هدى وعلي شعراوي. لكن لم يكن لديه طموحات دنيوية، على الرغم من إن الرجل في منزلته يعد ليصبح

وافق محمد مبدئيًّا على الزواج من منيرة عاصم سنة 1930، لكن والدته تدخلت مرة أخرى لتعيد تشكيل حياته..

وزيرًا في المستقبل. عند وفاة والده علي شعراوي، لم يكن محمد قد اكتسب معرفة كبيرة بالعالم، واقتصرت صداقاته على أعضاء عائلته ومحيطها المحدود، يشعر بالراحة أكثر في حضرة النساء. وعندما تزوج (مواليد 1906) من فاطمة سري، كان لا يزال طالبًا في كلية الحقوق.
كان لوفاة علي شعراوي تأثير كبير على ابنيه من هدى، محمد وبثنة، لكن لكل منهما طريقته الخاصة في الحزن، في حين بحثت بثنة عن التعويض عن أبيها من خلال الزواج من رجل يكبرها سنًا، وكان سياسيًّا صاعدًا هو محمود سامي باشا، ووصل لمنصب وزير الاتصالات، وعُين سفيرًا لمصر في سفارتها الجديدة

في الولايات المتحدة.
أما محمد شعراوي، فقد تحول حزنه على فقد أبيه إلى تمرد، بعد أن أصبح مستقلاً ماديًّا لديه ثروته الخاصة "بدا وكأنه يغترف بكلتا يديه الحرية المفاجأة الناجمة عن رحيل والده"، وبعد أن كان يمضي معظم وقته بين كتبه وأساتذته، أصبح يستمتع بحرية فعل ما يشاء، وإنفاق أمواله دون محاسبة "إن تحرره المباغت من عين والده اليقظة عليه كشف بعض علامات الضعف المثيرة للقلق في مثل هذه السن الصغيرة"، كما تقول سنية شعراوي.
تطرح فيروز كراوية في مقالها "فاطمة وفاطمة وحساب معادلات الشرف"، فرضية أن اختيار محمد شعراوي

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

"وكشفت وجهها"، كتاب الحفيدة سنية عن جدتها هدى شعراوي، صدرت نسخته العربية بالعنوان نفسه عن المركز القومي للترجمة، ترجمة نشوى الأزهري، 2019

الزواج العرفي من فاطمة سري؛ لاستحالة قبول والدته هدى شعراوي بزواجه من مغنية. لكن هذا-في رأيي- ليس دقيقاً، لأنه إذا كانت هدى شعراوي سترفض زواجه من مغنية فإن العنصر الأغلب هو تعامل محمد شعراوي  منذ البداية باعتباره في نزوة، علاقة عابرة، ونوعًا من ممارسته للتمرد على والدته باختياره نموذجًا يعتبره معكوس شخصيتها، ونوعًا من العقاب لها على عدم تفرغها لواجباتها العائلية، وأيضا تمردًا على طبقته الاجتماعية، وشكلاً من أشكال ممارسة حريته على حياته الخاصة وأمواله التي ورثها، بعد غياب سلطة أبيه القوية والمقيدة. ويمكن اعتبار إن زواج محمد شعراوي وفاطمة سري أحد 

النتائج المباشرة للوفاة المبكرة للأب.
ويذكر مكاوي سعيد في كتابه "القاهرة وما فيها"، إن محمد شعراوي كان متزوجًا بالفعل عندما بدأت علاقته بفاطمة سري، وأن شيوع سر هذه العلاقة تسبب له في بعض المشكلات الأسرية، لكن هذا أيضا ليس دقيقاً، فقصة الزواج الرسمي الأول لمحمد شعراوي كانت في الواقع أكثر من قصة زواج عادية، بالطبع كان لنزوات محمد يد في هذه الزيجة، لكنها فعلياًحدثت بعد انتهاء قضية فاطمة سري، إذ تزوج من منيرة عاصم في صيف 1932.
قبل أن نسرد قصة الزواج التي ستسهم في إضافة خطوط إلى بورتريه محمد شعراوي، يجب أن نشير إلى أن قضية

فاطمة سري لإثبات بنوة ليلى إلى محمد شعراوي لم تؤثر على حياته العامة، فقد ظل يرتاد الملاهي وكان نجمًا من نجوم ليالي القاهرة، يحضر سباقات الخيل، بل واستمر في دراسة الحقوق، ونجح في أن يصبح أصغر الأعضاء المنتخبين سنًّا في مجلس الشيوخ سنة 1927، أي أن شيوع أخبار علاقته بفاطمة سري وخلافاتهما لم تؤثر على مساره المهني. وكانت هدى تعتمد على مساندته في البرلمان، وكعضو أيضًا في الاتحاد البرلماني الدولي. وتقول سنية شعراوي عن والدها، إنه كان يتبرع بانتظام بمبالغ ضخمة لقضايا التعليم والصحة ويعتبر من المساهمين الرئيسيين في تمويل الصناعات الناشئة في مصر

لم تتخذ فاطمة قرارًا بمقاضاة محمد شعراوي قبل أن تقف على حقيقة موقف والدته هدى..

من خلال استثماره في بنك مصر.
كان زواج محمد شعراوي من منيرة عاصم انتصارًا لهدى نفسها، فقد عرفت أن الطرفين لم يرغبا في الزواج، والحقيقة أن هدى شعراوي لم تعي أن منيرة نفسها "كانت مستعدة لفعل أي شيء في العالم لئلا تتزوج بمحمد، وأنها كانت تتوسل لأمها ليل نهار أن تُنحي الفكرة جانبا وتتركها لحالها"، لكن هدى شعراوي كان لديها هدف مصممة على تحقيقه، بغض النظر عن مدى قبول الطرفين، أو عدم وجود انجذاب أو مشاعر رومانسية بينهما، فلم تكن هدى تطلب ذلك؛ لأن هي نفسها تزوجت دون أن تحب زوجها أو تختاره، لذلك لم تجد أي مانع في أن تزوِّج

ابنها بالطريقة نفسها، من فتاة مثل منيرة "شابة ممتلئة بالصحة ولها العديد من الأخوة، وسوف ترزق بالتأكيد بالعديد من الأطفال، منهم ذكور يصبحون ورثة لمحمد ولثروته الهائلة". كانت الفتاة من ضمن كتيبة شكلتها هدى للتدخل السريع في الأحياء الأكثر فقرًا، كما أنها "عذبة الطبع، بسيطة وغير مدعية"، وهي بذلك قادرة على أن تحقق التوازن مع شخصية ابنها المتقلبة، لكن ظلت تتجاهل المرة بعد المرة أن ابنها بالأساس غير راغب وغير مستعد لحياة مستقرة مع زوجة وأولاد، وفيما بعد لم تعد تتقبل أن يرفض الزواج من فتاة اختارتها له بنفسها.

وبعد مواجهة مع أمه، حاسمة وقاسية، وجد محمد نفسه مهزوزًا ومنزعجًا، فوافق أخيرًا على الزواج، لكن علاقته بها لم تعد كما كانت من قبل. وتقول سنية عن والدها، إنه كان معتادًا أن يفتح قلبه لوالدته ويتحدث معها بصراحة ووضوح كما كانت تطلب دائمًا من الأشخاص القريبين منها، لكنه أصبح منغلقًا وغير راغب في التحدث عن شؤونه، بل وبخها في إحدى المناقشات الغاضبة بينهما، وقال لها: "إنه يعرف أنها ليس لديها وقت من أجله، وإنها لا تصغي أبدًا لما يقوله، وإنه لا جدوى من محاولة التواصل معها". ومع ذلك ظل يتبرع بانتظام للاتحاد النسائي المصري.

يرى مصطفى أمين في كتابه "شخصيات لا تنسى" إن هدى شعراوي كانت "امرأة قوية في عهد لم يعرف قوة النساء"، وهذا رأي مجحف..

وافق محمد مبدئيًّا على الزواج من منيرة عاصم سنة 1930، لكن والدته تدخلت مرة أخرى لتعيد تشكيل حياته، فقد اتفقت مع صهرها محمود سامي باشا على أن ينضم محمد شعراوي إلى الفريق الدبلوماسي في السفارة المصرية بلندن لمدة عامين؛ بهدف إعادة صياغة شخصية محمد وجعله أكثر قوة واستقلالية؛ كانت تريد أن تمنحه المميزات التي يجنيها الشباب المصريين الذين كانت ترسلهم للدراسة في الخارج، فقد اعتقدت أن سنوات الدراسة بعيدًا عن الوطن تجعلهم أكثر نضجًا وثقة بالنفس، وتؤهلهم لتحمل المسؤولية. فهل نجحت هدى في مسعاها؟

حسب وصف سنية شعراوي لحياة والديها، فقد أسهمت هدى بتأسيس زواج تعس آخر، وعاشت منيرة عاصم في منزل هدى شعراوي حياة مهمشة؛ فقد منعها زوجها من المشاركة في نشاط الاتحاد النسائي، مع أنها توجد بين "خلية نساء" تشاركن في العديد من الأنشطة المهمة والمثيرة. بالإضافة لذلك، شعرت منيرة إن دورها الوحيد أن تكون منجبة للأبناء الذكور لمحمد شعراوي، ولم يتوان الجميع عن تنبيهها في كل مرة تنجب فيها بنتا أنها فشلت في مهمتها الوحيدة، فقد كانت هدى تبدي شعورًا فاترا عند مولد طفلة، وعلى الرغم من تأكيدها سعادتها بانضمام طفلة جديدة للعائلة، فإنها في الوقت نفسه تشدد

هدى شعراوي ليست في الصورة، لكن ظلها يمكن الشعور به على حضور ابنها في حفل تابينها؛محاطاً بشقيقتها بثنة وسيدات المجتمع -أرشيف مدينة الرقمي.

هدى شعراوي ليست في الصورة، لكن ظلها يمكن الشعور به على حضور ابنها في حفل تابينها؛محاطاً بشقيقتها بثنة وسيدات المجتمع -أرشيف مدينة الرقمي.

على ضرورة إنجاب طفل ذكر، وتطلب من منيرة "أن تأتي بطفل آخر بأسرع ما يمكن".. فيما بعد ستلوم هدى منيرة على أنها لم تستطع السيطرة على زوجها ومنعه من حياة اللهو. فقد استمر في الخروج بمفرده، بصحبة أصدقائه، ويسهر كل ليلة في أوبرچ الأهرام وغيرها من الأماكن المشابهة؛ وتذكر ابنته سنية أن أصدقاءه كان لهم تأثير سيء عليه، وكانوا يستفيدون من صحبته لأنه يدفع ثمن الطعام والشراب ومرافقة الراقصات والمغنيات!
أنجب محمد شعراوي ومنيرة عاصم أول طفل ذكر لهما بعد عشر سنوات من الزواج، في 5 سبتمبر "وبات ميراثه في مأمن من أي منافسين محتملين".

ومع أنه لم يكن سعيدًا مع زوجته فقد أخبرها برغبته في صبي آخر "حتى يكون وضع العائلة أكثر أمانًا"
هناك ملمحان في شخصية محمد شعراوي، تجدر الإشارة إليهما: الأول، أن محمدًا لم يتوقف عن الحب خارج الزواج، ولا عن إنجاب الأطفال أيضًا، فعندما التقت الناقدة نهاد صليحة بالنحات عبد البديع عبد الحي، الذي عمل طباخًا في قصر هدى شعراوي، وساعدته في تنمية مواهبه عبر إرساله ليتعلم على يد الفنان السويدي بوريس فريدمان كلوزيل، قال عبد الحي عن محمد "كل شوية يعشق واحدة ويجيب ولاد" ، وكما لاحظت نهاد صليحة، نطق كلمة "العشق"

في نبرة استنكار واستهجان، كأن العشق أمر لا يليق بالسادة، ويسبب المصائب في كل الأحوال. وعلى عكس ما ذكرته فاطمة في مذكراتها، قال عبد البديع أيضًا إن هدى هي من أجبرت ابنها على الاعتراف بطفلته من فاطمة سري وأرسلته مجبرًا إلى الصعيد فترة من الزمن؛ لإبعاده عن الإغواء؛ نظرًا لتعدد علاقاته النسائية وأبنائه غير الشرعيين.
في كتابه "شخصيات لا تنسى" مصطفي أمين أشار إلى أن محمد شعراوي تزوج من مطربة تدعى أحلام وأنجب منها ثلاثة أبناء، أما الباحث أيمن عثمان فذكر أن الرجل أُتهم سنة 1955 بالشروع في قتل زوجته الثالثة "الراقصة لطيفة"،

عندما أثيرت قضية فاطمة سري، لم تكن هدى شعراوي رئيسة للجنة الوفد، فقد استقالت في نوفمبر 1924

نقلاً عن مجلة "أهل الفن"، أغسطس 1955. ومع الأسف يظل هذا الجانب من حياة محمد شعراوي غامضًا، فقد أحجمت والدته عن الحديث عن حياته في مذكراتها، والأمر نفسه فعلته ابنته سنية.
الملمح الثاني، ما ذكرته سنية في حديثها التلفزيوني مع منى الشاذلي، بأن والدها هو أول إقطاعي يدخل السجن، وتصادر أمواله؛ بسبب انتقاده لسياسة الإصلاح الزراعي في فترة الوحدة مع سوريا. وقالت إن منزل هدى شعراوي في 2 شارع قصر النيل أمام المتحف المصري، هُدم بسبب معارضة والدها العلنية لجمال عبد الناصر.

رسالة إلى هدى شعراوي:
طالبة الإنصاف


تعتقد فاطمة سري أن هدى شعراوي كانت تعرف بأمر علاقتها بابنها محمد، وأنها لعبت دورًا في الكيفية التي انفصل بها عنها، وترى أن قراره بعدم الاعتراف بابنته "ليلى"، كان تنفيذًا لرغبة والدته، فتقول: "ولا يصح أبدًا أن ألقي على عاتق هدى هانم شعراوي تبعة هذا الانفصال، إنما يجب أن أقول فقط أنها تعجلت الأمور وأملت مشيئتها على ولدها بصورة غير حكيمة كانت سببًا في التصرفات غير الرشيدة التي لجأ إليها ولدها في الانفصال عني..".

لم تتخذ فاطمة قرارًا بمقاضاة محمد شعراوي قبل أن تقف على حقيقة موقف والدته هدى، وبررت موقفها هذا بأن القضية ستجعل اسم عائلة شعراوي "مضغة في الأفواه"، وحرصًا على السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي "فلها منزلة عظيمة في نفسي فلقد غنيت في قصرها ووصلني منها خطاب شكر". قررت فاطمة أن تراسلها، فكتبت لها، ووضعت لها مهلة، ستكون بعدها حرة في أن تتخذ ما شائت من مواقف لحماية حقوق ابنتها. أرسلت خطابها بالبريد وانتظرت الرد.
يرى مصطفى أمين في كتابه "شخصيات لا تنسى" إن هدى شعراوي كانت "امرأة قوية في عهد لم يعرف قوة النساء"،

عندما حضرت مؤتمر روما سافرة الوجه، رأت هدى وسيزا أن الوقت قد حان لخلع النقاب علنًا؛ وسيكون ضربًا من النفاق إن لم تفعلا

وهذا رأي مجحف على كل حال، ويفتح الأبواب لمناقشة من هي المرأة القوية بالتحديد، لكن ما نعرفه أن دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة، وقد قوبلت بعواصف سياسية واجتماعية عنيفة، أفرزت أصواتًا شكلت القيادات النسائية الأولى في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، منهن مثلاً ملك حفني ناصف "باحثة البادية"، التي ألقت العديد من الخطب والمحاضرات ونشرت البحوث حول قضية المرأة، وعنيت بقوانين الأحوال الشخصية وقضية تعدد الزوجات تحديدًا؛ ربما لأنها عانت من هذه المشكلة في زيجتها بعبد الستار الباسل، شقيق حمد الباسل،

أحد قادة ثورة 1919. وسيكون لملك حفني أثر كبير فيما بعد في تشكيل خطوات هدى شعراوي الإصلاحية في قضية المرأة.
عندما أُثيرت قضية فاطمة سري للمرة الأولى في نهايات عام 1925، كانت هدى شعراوي تُعرف بـ"زعيمة النهضة النسائية"، وفي التاريخ القريب كان الناس لا يزالون يتذكرون لها قيادتها لتظاهرة نسائية كبيرة في 16 مارس 1919، كبداية لمشاركة المرأة المصرية في الكفاح الشعبي ضد الاحتلال البريطاني. وكانت هذه التظاهرة بداية المشاركات العامة لها في النشاط السياسي والاجتماعي، ولم تتوقف عندها، فقد اختيرت في يناير 1920 رئيسةً

للجنة المركزية للسيدات في حزب الوفد- بعد الإفراج عن سعد زغلول- وكان أول بيانات اللجنة، بيان سياسي احتجاجًا على اللورد ملنر، بصفتهن "ممثلات النساء في مصر".
وتنقل د. آمال كامل بيومي في كتابها "الحركة النسائية في مصر ما بين الثورتين 1919 و 1952"، عن الصحفية الأمريكية جريس تومسون سيتون، زارت مصر وأصدرت كتابًا عام 1922، ذكرت فيه أن صفية زغلول هي الزعيمة الروحية للنساء والرجال في مصر، لكن "الرئاسة الفعلية في يد سيدة مصرية ثانية عظيمة، هي السيدة هدى شعراوي"، ووصفتها بأنها سيدة هادئة، رزينة، زعيمة وقائدة "تحمل في وجهها

حسب رواية فاطمة سري فشلت هدى شعراوي في إثبات نزاهتها كزعيمة نسوية، عندما رفضت نسب حفيدتها

شخصيتها تلك القوة الصافية المتدفقة (..) ووراء مظهرها المهذب الشامخ يحس الإنسان أن هناك عقلاً مرتبًا وإرادة صلبة".
أسهمت عوامل عديدة في أن تصبح هدى شعراوي الوجه النسائي البارز لثورة 1919، وتأصيل صورتها كزعيمة للنساء، إذ استمرت لسنوات رئيس اللجنة المركزية للنساء في حزب الوفد، وتأسيسها فيما بعد الاتحاد النسائي المصري، وقدرتها على النفاذ إلى الصحف، ولا ننسى أن هدى تمتعت بميزة لم تتمتع بها نساء أخريات، من طبقتها الاجتماعية، وهي دعم زوجها علي شعراوي لها، وإيمانه بدورها السياسي والاجتماعي،

فكانت تتمتع بحرية الخروج وعقد اللقاءات وتنظيم الحفلات لدعم نشاطها النسائي، وساعدتها في ذلك شخصيتها القيادية، وقدرتها على التنظيم وإدارة العمل الجماعي بمساعدة النساء الأخريات في الأنشطة السياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى توافر الموارد المادية سواء من خلال إسهاماتها وزوجها، أو تبرعات نساء الطبقة العليا والمتوسطة لدعم نشاطها الخيري والإنساني.
واصلت هدى شعراوي المشاركة في الأحداث السياسية، كرئيسة للجنة الوفد المركزية للسيدات، حتى أُعلن تصريح 28 فبراير سنة 1922 واعتبر خطوة أولى في سبيل الاستقلال الفعلي.

غالباً كانت هدى شعراوي تركز على نساء طبقتها، في الصورة كتب المصور أنها بصحبة حرم علوبة باشا وحرم الدكتور إبراهيم شوقي-أرشيف مدينة الرقمي.

غالباً كانت هدى شعراوي تركز على نساء طبقتها، في الصورة كتب المصور أنها بصحبة حرم علوبة باشا وحرم الدكتور إبراهيم شوقي-أرشيف مدينة الرقمي.

لكن في عام 1924 وقع خلاف بينها وبين سعد زغلول، الذي أصبح رئيسًا للوزراء، فقد حاولت مع لجنة الوفد صياغة تعديلات ترغب في إدخالها على خطاب سعد زغلول الذي ألقاه في افتتاح البرلمان، كلها مطالب تتعلق بالسياسة العامة، وليس من بينها مطالب نسوية، فرأت أنه يخذل مصر، ويهتم بصورته العامة، ويضعف في مواجهة البريطانيين، متشبثًا بمنصب رئيس الوزراء، متبعًا سلوكًا أنانيًّا.
عندما أثيرت قضية فاطمة سري، لم تكن هدى شعراوي رئيسة للجنة الوفد، فقد استقالت في نوفمبر 1924 بعد استقالة سعد زغلول من رئاسة الوزراء، وانتهت علاقتها رسميًّا بحزب الوفد.

ومن ناحية أخرى، كرئيسة للاتحاد للاتحاد النسائي المصري، بدأت بمشاركة العديد من الفتيات بتنفيذ برامج "ذات طابع عملي بحت"، بداية بإقامة عيادة ومستوصف في حي السيدة زينب، إلى تكوين ما سمي بـ"الجيش السريع"، لتقديم الرعاية للفقراء في منازلهم، فكانت المتطوعات يرسلن إلى الأحياء الفقيرة ومعهن قطع الصابون والمنظفات ومستلزمات الإسعافات الأولية، وكان من بين المتطوعات، ابنتا خال هدى، حواء وحورية إدريس، إلى جانب عديد من طالبات سبق أن ارسلتهن فى منح دراسية بالخارج، ومنهن أمينة وكريمة السعيد وسهير القلماوي.

لكن الحدث الذي صاغ صورة هدى شعراوي بوصفها زعيمة للحركة النسائية المصرية، كان خلع النقاب ومعها سيزا نبراوي، عقب وصولها من مؤتمر دولي في روما في مايو 1923. تذكر سنية شعراوي -حفيدة هدى- في كتابها، أن هدى وعدت في وقت سابق بخلع النقاب؛ عندما يكون الوقت ملائمًا لذلك، وعندما حضرت مؤتمر روما سافرة الوجه، رأت هدى وسيزا أن الوقت قد حان لخلع النقاب علنًا؛ وسيكون ضربًا من النفاق إن لم تفعلا، لكنها قلقة من هذه الخطوة الثورية؛ خوفًا من تأثيرها على الحياة الزوجية لابنتها بثنة، المتزوجة من محمود سامي باشا، ومن حسن الحظ كان سامي

الطبقة العليا في مصر كانت تستهلك الغناء النسائي للتسلية أو في المناسبات. وهذا ينطبق تمامًا على هدى شعراوي

في انتظارها على رصيف ميناء الإسكندرية "وحينما صعد على الباخرة تحدثت معه عن خطتها لنزع النقاب حتى تطمئن إن فعلها لن يمثل له فضيحة". رحب محمود سامي بالخطوة بل وشجعها وقال لها: "إنه يعتقد أنه قد آن الأوان لاتخاذ تلك الحركة في مصر. وأن سمعة هدى التي لا غبار عليها سوف تضفي الشرعية على هذه الحركة". وعندما وصلت هدى وسيزا بالقطار إلى القاهرة "نزلتا من القطار مكشوفتي الوجه وواجهتا لحظة من الصمت المذهول، أعقبها قيام كل النساء من دائرتهما واللائي جئن للاستقبال بنزع نقابهن"- حسب وصف سنية شعراوي. وقد لاقت تلك

الخطوة الثورية صدى لدى العديد من نساء مصر، في الأيام التالية.

لذة الحرية المطلقة
المتأمل لمذكرات فاطمة سري لا يمكنه الوقوف على حقيقة موقف هدى شعراوي من قصة زواج ابنها من مطربة وإنجابه منها، فالرواية التي تقدمها فاطمة متناقضة، ولا يمكن الاعتماد عليها، فهي تارة تعتقد أنها ضغطت على ابنها من أجل رفض نسب الطفلة، وأنها المحرضة الوحيدة لابنها على سلوكه تجاه الطفلة، وتارة أخرى تلومها على أنها "تقف مكتوفة الذراعين أمام ابنها وهي ترى سيدة تطالب بحقها وحق ابنتها في حين أنها تملأ

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

هدى شعراوي وسيزا نبراوي سكرتيرتها وتلميذتها التي شاركتها اللحظة الفارقة بخلع الحجاب علنًا، وأكملت بعدها مسيرة الاتحاد النسائي.
الصورة من أرشيف مدينة الرقمي.

الصحف المحلية والأجنبية بدفاعها عن حق المرأة..".
أدركت فاطمة سري وهي تخاطب هدى شعراوي في رسالتها الطويلة أنها لا تتحدث إلى أم عادية، بل إن صراعها مع محمد شعراوي هو محك قوي واختبار لصدق المبادئ التي تنادي بها هدى علنًا. وبالنسبة لفاطمة فشلت هدى في إثبات نزاهتها كزعيمة نسوية، عندما فشلت في إنصاف فاطمة وابنتها ليلى، فقد ردت هدى شعراوي على رسالة فاطمة، بأن أرسلت سكرتيرها الخاص، برسالة تقول إن "هدى هانم مستعدة من قبيل الشفقة والبر أن تخصص شهريًّا مبلغًا -مما تخصصه للإحسان- لهذه الطفلة ينفق على نشأتها

وتربيتها..". وهذا أقصى ما تستطيع فعله من أجل الطفلة.
اللافت أن فاطمة عقدت مقارنة بينها وبين هدى شعراوي، في خطابها إليها، من زاوية الحرية، ووجدت أنهما امرأتان تمتعتا بـ "الحرية المطلقة"، وتدركان معنى أن تعيش المرأة باستقلالية، بعيدًا عن قيود الارتباط برجل شرقي. وربما أرادت من هذه المقارنة أن تطلع هدى شعراوي على أنها كامرأة قد ضحت بالكثير، الكثير جدًا، من أجل زواجها بمحمد شعراوي، أي أن هذا الزواج لم يزيدها بل انتقص منها، وأفقدها مع المال والشهرة، وأفقدها الحرية: "فقد عشت قبل معرفتي بابنك وكنت منزهة محبوبة

كممثلة أتكسب كثيرًا وربما أكثر مما كان يعطيه لي أبنك وكنت متمتعة بالحرية المطلقة، وأنت أدرى بلذة الحرية المطلقة التي تدافعين عنها". تقول ذلك، وفي موضع آخر من المذكرات ذكرت أنها خُلقت لتكون أم وربة منزل لا امرأة منطلقة.
بدت الحياة الخاصة لهدى شعراوي على النقيض تمامًا من حياتها العامة، خاصة بعد الوفاة المفاجئة لعلي شعراوي سنة 1922، فقد انقطعت الحياة الزوجية بينهما بعد خلافهما السياسي بسبب موقف علي المبكر من سعد زغلول وعزلته عن رفقاء الثورة، وكانت وفاة علي وحيدا في فندق مينا هاوس بالقرب من الأهرام؛ أثر أزمة قلبية "نقطة فارقة

هناك حلقة مفقودة، فحرص فاطمة سري على حقوق ليلى لا يتناسب إطلاقًا مع رفضها كجنين في السابق، وسعيها لإجهاضها

في حياة هدى ولحظة من لحظات الحزن والندم"، كما تذكر حفيدتها سنية شعراوي.
تصف سنية الحفيدة جدها علي شعراوي بأنه كان سابقًا لعصره في إيمانه بأن المرأة قادرة على لعب دور في الحياة السياسية، وقالت إن هدى كانت معجبة به لنظرته الجادة وإحساسه بالمسؤولية، وبعد وفاته أصبحت المسؤولة الوحيدة عن ابنيها: بثنة ومحمد، كما أخذت على عاتقها مسؤوليات تتعلق بشقيقي ملك حفني ناصف، مجد الدين وكوكب. فكانت تسدد نفقات دراستهما بالخارج؛ مجد الدين في باريس حيث أصبح رئيسًا لجمعية الطلاب المصريين،

في حين كانت كوكب تدرس الطب في إنجلترا. ومجد الدين حفني ناصف هو مبعوث هدى شعراوي إلى فاطمة سري عندما اشتعلت الأزمة.
شكل أكثر من حدث الدوافع وراء موقف هدى شعراوي تجاه فاطمة سري: الأول، هو الوفاة المبكرة لشقيقها عمر سلطان. في فبراير 1918 فقدت هدى شقيقها عمر، وهو لا يزال في السابعة والثلاثين، وقبل وفاته كانت الأسرة تشكو من أن عمر "يحيا حياة غير مسؤولة"، ويسافر بصورة متكررة إلى أوروبا، وفسر البعض اضطراب حياة عمر بفقدانه صديقه مصطفى كامل، والنزاع بينه وبين أعضاء الحزب الوطني، لكن هدى رأت أن السبب أنه أصبح

لا يبدو كلام سنية شعراوي عن هدوء وعزلة أبيها (يسار الصورة) مطابقًا لحياة اللهو التي تنقلها المذكرات وشهادات الآخرين.<br>الصورة من موقع فليكر.

لا يبدو كلام سنية شعراوي عن هدوء وعزلة أبيها (يسار الصورة) مطابقًا لحياة اللهو التي تنقلها المذكرات وشهادات الآخرين.
الصورة من موقع فليكر.

فاحش الثراء في سن مبكرة جدًا، الأمر نفسه الذي تكرر مع محمد عقب وفاة والده ولم يزل مراهقًا.
الحدث الثاني، هو مقتل علي كامل فهمي في لندن على يد زوجته الفرنسية في يوليو 1923، بعد ستة أشهر من الزواج. كان علي فهمي، من أقرباء هدى شعراوي، وورث في سن العشرين ثروة هائلة، وله نشاط اجتماعي واسع؛ فقد أقام مستشفى ومدرسة في مغاغة، بالقرب من المنيا حيث أملاك عائلته، بالإضافة إلى تمويل منح دراسية لطلبة القرية مسقط رأس والده، لكنه في الوقت نفسه عاش "حياة غير مسؤولة"، وأدى سخائه في إنفاق أمواله إلى أن

عرف بالأمير علي فهمي، وتعرف في أوروبا على امرأة تكبره بعشر سنوات، تدعى مارجريت ميلر، من أصول متواضعة، تزوجت قبله مرتين، ولديها طفلة. لكن رغم مما يحيط بها من غموض، وسمعتها "المريبة" -كما وصفتها سنية شعراوي- تزوجها علي فهمي، وبعد أشهر أطلقت عليه النار في فندق سافوي بلندن. لكن المحكمة برأتها فيما بعد. يمكن الرجوع لكتاب "مأساة مدام فهمي" لصلاح عيسى، فقد تناول القضية بالتفصيل، وناقش الأساليب التي اتبعها دفاع مارجريت لتبرئتها رغم اعترافها بارتكاب الجريمة.
تذكر فيروز كراوية في كتابها "كل ده كان ليه.. سردية نقدية

عن الأغنية والصدارة"، أن الطبقة العليا في مصر كانت تستهلك الغناء النسائي للتسلية أو في المناسبات. وهذا ينطبق تمامًا على هدى شعراوي التي كثيرًا ما دعت الفنانات والفنانين لإحياء حفلات بمنزلها، لجذب المتبرعين لنشاطها الخيري، لكنها في الوقت نفسه لم تحترمهن بل كانت تزدريهن، فقد ربطت في مقال لها بعنوان "خلاعة النساء ومحال الرقص"، بين المرأة التي تعمل في مجال الترفيه وبين من تتخذ "الخلاعة والزينة مصيدة لاقتناص ضعفاء الإرادة من الرجال". أي أن المطربة أو الممثلة -مثل فاطمة سري- هي مجرد صائدة رجال، لذا،

شكَّلت القضية اختبارًا مثاليًّا لقيم ومبادىء كل طرف، ومحكًا معقدًا أمام مؤسسة القضاء في بلد يعرف الأحزاب والعصبيات

أنصب جانب كبير من ثورة هدى شعراوي على زيجة ابنها محمد من فاطمة سري على أن الأخيرة مطربة وعالمة من عوالم شارع عماد الدين.
كما كانت تلك الزيجة، دليلاً قاسيًا على أن هدى لم تنجح في السيطرة على شؤون عائلتها المباشرة، ولم تستطع التوازن بين التزاماتها العائلية ونشاطها الاجتماعي والسياسي وسفرها الدائم. لذا، كان زواج محمد شعراوي من فاطمة سري حدثًا تسبب في حزنها وندمها على الوقت الذي أنفقته في التزاماتها العامة وحماستها لأمور خارج نطاق العائلة. ولن يكون الحدث الوحيد.

لكن ما ذنب ابنتي تلك الطفلة البريئة!
من يقرأ المذكرات قد يتبادر إلي ذهنه سؤال: لماذا تقاضي فاطمة سري زوجها؟ ولماذا تسرد أدق تفاصيل علاقتهما، والتشهير به على صفحات المجلات؟ هل من أجل الانتقام من محمد شعراوي بعد الطريقة المهينة التي عاملها بها بعد أن انتهت علاقتهما، أم من أجل نيل حقوق الطفلة البريئة ليلى؟ أم السببين معا؟
من ملامح فطنة فاطمة سري أنها أدركت ما يتداوله الرأي العام حول قصتها وقضيتها، فطرحت بعضًا منه خلال مذكراتها بصورة افتراضية: "هبوا أن محمدا أخطأ في إيجاد هذه العلاقة وأنني أخطأت مثله فكلانا عليه

أن يحتمل نتائج هذا الخطأ. ولكن ما ذنب ابنتي تلك الطفلة البريئة؟!". لكن هناك حلقة مفقودة، فحرص فاطمة سري على حقوق ليلى لا يتناسب إطلاقًا مع رفضها كجنين في السابق، وسعيها لإجهاضها "أيقنت بأن هذا الجنين سيقوم حائلاً بيني وبين زوجي يوما ما، فعقدت العزم على الإجهاض ليدوم الحب ولتبقى المعاشرة الزوجية بعيدة عن كل المنغصات..". كما أن محمد شعراوي أيضًا، لم يرحب بالجنين منذ البداية، وعندما ذهبا في رحلة إلى أوروبا، طلب إليها أن تترك الرضيعة هناك وتعود؛ خاصة وأنه كان دائم الشك في سلوكها، دائم التفتيش في غرفتها باحثًا عن رجل آخر،

منحت هدى شعراوي بخروجها في ثورة 1919 فاطمة سري الفرصة والوسيلة لكي تطرح رؤيتها لعلاقتها مع محمد شعراوي

ثم يعود ويعتذر "بأن الغيرة وحدها هي التي تحمله على الشك"!
أظهرت ثورة 1919 ازدواجية المجتمع المصري فيما يتعلق بالنظر إلى الفنانين، فمع أنهم شاركوا مثل غيرهم من طوائف المجتمع وفئاته، وخرجت تظاهرات من كل مسرح، وكانوا بملابس التمثيل المختلفة، وذكرت روز اليوسف في مذكراتها قصة التظاهرة التي خرجت تتقدمها على عربة حنطور، وهي تحمل علمًا كبيرًا، بصحبة ماري إبراهيم ومعهما محرر الأهرام عبد الحليم الغمراوي. كما كانت المسارح وغرف الممثلين مأوى للمتظاهرين الهاربين من رصاص جنود الاحتلال، ومع ذلك

لم ينظر إلى هذه التضحيات في ظل ثورة 1919 بعين الاعتبار، بل ظل الفن محتقرًا؛ لذا عندما اشتعلت أزمة فاطمة، حسم البعض موقفه بسهولة بناء على مكانة هدى وابنها في مواجهة مطربة من عوالم شارع عماد الدين، أي أن الانحياز جاء بغض النظر عن صدق ما تدعيه فاطمة في صحة زواجها من محمد شعراوي ونسب ابنته إليه، حتى مع ظهور "ليلى" مع والدتها في جلسات المحكمة، وأصبح واضحًا مدى الشبه بينها وبين والدها -مصطفى أمين قال كان وجه ليلى شعراوي أهم وثيقة رسمية تؤكد بالدليل القاطع أنها ابنة محمد شعراوي- ظل الرأي العام

منقسمًا، وضم جانب هدى شعراوي الملك أحمد فؤاد، وقانونيين بارزين وسياسيين وبرلمانيين وصحفيين، وأناس عاديين؛ لأن فاطمة سري مطربة! لكن فاطمة سري كان لديها فريقها أيضًا، خاصة من أصحاب الأصول الريفية، ومع أنها لم تذكره صراحة في مذكراتها فإن مصطفى النحاس هو من أشار عليها في فيينا أن تأخذ صورة بالزنكوغراف من الإقرار الذي كتبه محمد شعراوي معترفًا فيه بالزواج وبالجنين، وعندما عادت فاطمة سري إلى مصر وطالبها محمد بالإقرار منحته الصورة، محتفظة بالأصل الذي كان أهم وثيقة في ملف قضية نسب الطفلة "ليلى".

كانت حياة الفنانات تمرداً على تقاليد مجتمع محافظ، سواء كن ممثلات أو مغنيات، سواء ارتدين ملابسهن بحرية أو تمسكن بالحجاب

هل هي أول قضية نسب؟
عادة ما تُطرح قضية فاطمة سري ضد محمد شعراوي على أنها أول قضية نسب في مصر، لكنِ هذه المعلومة ليست دقيقة؛ فالصحافة المعاصرة للقضية لم تطرحها من هذه الزاوية، ولم تشر إلى ذلك رغم التغطية الواسعة للقضية. لذا، لا يمكن النظر إلى قضية فاطمة سري في مواجهة محمد شعراوي لإثبات نسب الطفلة "ليلى"، التي بدأت رسميًّا في ديسمبر من عام 1925 على أنها أول قضية نسب في مصر في عصرها الحديث، ويمكن رصد العديد من القصص الصحفية والأخبار المتناثرة في صحافة تلك الفترة عن نزاع مشابه،

بين العشرينيات والثلاثينيات، دون أن تلمس أي جانب غير عادي في تغطية الصحيفة، بل طُرحت القضايا على أنها نزاع متكرر، ليس جديدًا، ومألوفًا للمجتمع.
ما ميز قضية المطربة فاطمة سري ضد الوجيه الشاب محمد شعراوي، ابن الزعيمة النسائية وسيدة المجتمع والسياسية هدى شعراوي، أن كل أطرافها الرئيسية والثانوية من المشاهير، خاصة المثلث: سري/ شعراوي الابن/هدى الأم كانوا نجومًا في المجتمع، وحملت القضية عناصر إثارتها في أطرافها وموضوعها وسبب النزاع، وهو طفلة تنتظر اعتراف أب تنادي والدته

يبدو هنا أن صحافة تلك الفترة كانت معتادة على نشر قضايا النسب. مجلة الدنيا المصورة 31 أغسطس 1930

يبدو هنا أن صحافة تلك الفترة كانت معتادة على نشر قضايا النسب. مجلة الدنيا المصورة 31 أغسطس 1930

بحقوق المرأة والطفل في الداخل والخارج. فقد شكَّلت القضية اختبارًا مثاليًّا لقيم ومبادىء كل طرف، ومحكًا معقدًا أمام مؤسسة القضاء في بلد يعرف الأحزاب والعصبيات ويتمتع فيه طرف رئيس بنفوذ هائل يمتد إلى جهاز الدولة التنفيذي والتشريعي. فكانت مسرحية من عدة فصول أدى فيها كل طرف دورًا، ويحمل دوافع ظاهرة وأخرى مخفية، وكان المطلوب من الصحافة أن تحتفظ بعنصر الإثارة والتشويق لأطول فترة ممكنة. وهذه المذكرات التي نحن بصددها ليست بعيدة عن تلك الفكرة!

العشرينات ..لم تكن العصر الذهبي المفقود
يطرح رافاييل كورماك في كتابه "منتصف الليل في القاهرة.. نجمات مصر في العشرينيات الصاخبة"، رؤية جديرة بالمناقشة حول ما تمثله قصة فاطمة سري، وتجعل من استعادة هذه القصة الآن -بعد 100 عام- مسألة مهمة، ويقول إنه لا ينبغي أن ننظر إلى قاهرة العشرينيات على أنها "قصة عصر ذهبي مفقود"؛ فلم تكن الحياة سهلة خاصة للنساء "إذ واجهن الاستخفاف والتحيز وحتى العنف، وتحولن إلى مثيرات للجنس من قبل رجال أرادوا امتلاك أو مراقبة أجسادهن".

ويضيف أننا بحاجة إلى طرح طريقة أخرى للنظر لحياة هؤلاء النساء، اللاتي "يتم تشجيعنا على الإعجاب بهؤلاء النجمات واستخفافهن بأعراف المجتمع، ولكن ليس لتقليدهن"، طريقة تبتعد عن إن هؤلاء النساء عشن حياة حافلة ثم انتهين إلى المعاناة والإهمال، وينطبق الأمر تمامًا على قصة فاطمة سري، على الرغم من إن قضية النسب ونشر المذكرات ساهما في انتعاش الحياة المهنية لفاطمة سري، فأصبحت "مطلوبة" في كل مكان للغناء، لكن سرعان ما اختفى اهتمام الصحافة بها بعد أن هدأت إثارة القضية، وأصبح واضحًا للصحفيين أن القضية ستستمر سنوات بين أروقة المحاكم.

قدم فيلم "فاطمة" نقدًا لسوء سلوك الأغنياء، وصوَّرهم مستهترين، عاطلين عن العمل، عابثين، نساءً ورجالاً..

يصف كورماك الأمر على النحو التالي: إن نجاح فاطمة في إثبات بنوة ابنتها "ليلى" لمحمد شعراوي بعد صراع استمر 7 سنوات، كان سببًا في فشل حياتها الفنية، فاعتزلت عام 1933، لكنها عادت مرة أخرى في عام 1938 حين وظفها القصر كواحدة من العديد من المغنيات لتغني في الاحتفال بالزفاف الملكي، أي زواج الملك فاروق من فريدة.
لكن كورماك لا يرغب في أن ننظر للقصة على هذا النحو، بل من زاوية أخرى، أن مصر عقب ثورة 1919 قدمت شيئًا غير ملموس لكنه حيوي، وهو أنها منحت النساء الفرصة في إسماع أصواتهن، ووعدًا وأملاً في أن "يشققن طريقهن في عالم جديد،

هذا الإحساس بالفرصة هو ما يجعل هذه الفترة جذابة للغاية".
لا شك أن مشاركة هدى شعراوي وغيرها من نساء الطبقة العليا في التظاهرة الشهيرة للتنديد بالاحتلال البريطاني، مارس 1919، شكلت نقطة تحول فيما يتعلق بمشاركة النساء في الحياة العامة، وطرح آرائهن السياسية جنبًا إلى جنب مع الرجال، كما شكلت ما سماه "الفرصة" للنساء للخروج من أسر الحرملك. أي يمكن النظر للقضية على النحو التالي: منحت هدى شعراوي بخروجها في ثورة 1919 فاطمة سري الفرصة والوسيلة لكي تطرح رؤيتها لعلاقتها مع محمد شعراوي، في ظل الصراع على نسب ابنتهما ليلى،

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

غلاف كتاب "منتصف الليل في القاهرة"، ويتناول هيمنة النساء، سواء نجمات مسرح أو شاشة أو منتجات على صناعة الترفيه المصرية.

وتستخدم الصحافة من أجل الدفاع عن نفسها أمام الرأي العام، ووسيلة للانتقام، وهي فرصة لم تكن متاحة لخصومها.

فاطمة سري رائدة نسوية أيضًا
بنى رافاييل كورماك كتابه "منتصف الليل في القاهرة" على أن تاريخًا موازيًّا للنسوية المصرية دُوِّن في الملاهي الليلية والمسارح والكباريهات، وأن منيرة المهدية، وبديعة مصابني، وروز اليوسف، وعزيزة أمير، وفاطمة رشدي، وأم كلثوم وفاطمة سري بالطبع، كن رائدات نسويات مع الناشطات التقليديات من الطبقة العليا والمتوسطة، وشكلن ملامح الحركة

النسوية في بدايات القرن العشرين: هدى شعراوي ونبوية موسى ومي زيادة وسيزا نبراوي وغيرهن. لن نتفق مع طرح كورماك؛ إذ طالما كانت حياة الفنانات خروجًا على تقاليد مجتمع محافظ، سواء كن ممثلات أو مغنيات، سواء ارتدين ملابسهن بحرية أو تمسكن بالحجاب، إذا كن ممثلات أو مطربات فقط أو كان هذا العمل واجهة لنشاط آخر، فالعاملات في مجال الترفيه متمردات بداية على عائلتهن الأصلية، وربما يكون العمل بالفن نتيجة لانهيار الأسرة التقليدية أو تفسخها، فحياة الفنانات في القرن التاسع عشر لا تختلف كثيرًا عن القرن العشرين، فقد احتفظت بملامح مشتركة،

سواء أدركت الفنانة ذلك أو لم تدرك. أما الناشطات اللاتي وصفهن رافاييل كورماك بالتقليديات، كان لديهن داعم دائمًا، سواء من أزواجهن أو آبائهن، وكن واعيات لما ينادين به من حقوق، وسبل تحقيق طموحاتهن، كما أدركن آبائهن المؤسسين والمؤسسات، وجاءت مطالبهن استكمالاً وتأكيدًا لما سبقهن من دعوات، كما كن على اتصال بالنسويات في العالم، ويحضرن المؤتمر، ويمثلن مصر هناك وحملن علمها، كما لم يكن يأملن في تغيير وضعهن ليصبحن مثلاً ربات بيوت، مثلما رأت فاطمة سري نفسها، وأن وضع وحياة المطربة لا تناسبها. كل ذلك حتى وإن لم يكن مكترثات إذا شكلن حركة نسوية أم لا.

احتفظت أم كلثوم لنفسها في فيلم "فاطمة" بمواصفات شخصيتها السينمائية المفضلة: الاحتشام، والجدية

كما لا يمكن لنا اختصار النسوية في أنها تمرد عشوائي على السلطة الأبوية، أو ممارسة الحرية بمعزل عن سلطة الدولة أو الأب.
وإقامة مطربة دعوى قضائية لإثبات نسب طفلتها هو صراع داخل الحركة النسوية المصرية لا من خارجها أو بشكل مواز لها، وإن كانت هدى شعراوي قاومت في شبابها المبكر "تعدد الزوجات"؛ لأنه مسَّ حياتها الشخصية، واعتبر ذلك موقفها السياسي الأول، يمكن لنا اعتبار فاطمة سري نسوية أيضًا ليس لأنها مطربة، بل لأنها استخدمت حقها في مقاضاة محمد شعراوي لإقرار حقوقها وحقوق ابنتها. بالإضافة لذلك،

كانت فاطمة سري واعية للمأزق الذي وضعت فيه هدى شعراوي، وإثبات ازدواجية معاييرها، وكانت ترغب في فضح تلك الازدواجية، عندما أشارت إلى دفاع هدى عن حقوق المرأة والطفل، وهي بالتأكيد قد قرأت في الصحف أخبار ذلك المؤتمر الذي دُعيت إليه هدى شعراوي، في جراتس بالنمسا، سبتمبر 1924، لحضور الدورة السادسة للمجلس الدولى للمرأة، الذي كان يناقش في موضوع "حماية الطفل وإلغاء الدعارة"، وانتقدت فيه هدى الوضع الاجتماعي والقانوني في مصر فيما يتعلق بالزواج، وهاجمت الامتيازات الأجنبية؛

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

في بيتها أيضًا أسست هدى شعراوي 1923 الاتحاد النسائي المصري، الذي طالب بمساواة المرأة بالرجل في جميع المجالات. المصور 7 مايو 1926.

التي تُخضع الأجانب المقيمين في مصر لقوانين بلادهم؛ وأوضحت في المؤتمر إن هذه القوانين لها علاقة بالمرأة، إذ تمنع الحكومة المصرية من إتخاذ إجراءات فعالة ضد بيوت الدعارة التي يمتلكها الأجانب!

فيلم "فاطمة"... فن تدليل الجمهور عندما حوَّل مصطفى أمين قصة فاطمة سري ومحمد شعراوي للسينما في فيلم "فاطمة"، لم يستطع أن يُبقي على مهنة المرأة الأصلية "مطربة وممثلة"، فأصبحت فاطمة ممرضة تعيش في حي شعبي، محبوبة من جميع أهل الحي لتفانيها في رعايتهم، وتعول والدتها وابن شقيقها المتوفى، وعندما تزوجت من

فتحي/أنور وجدي الشاب الثري والمستهتر، بعقد عرفي، أقام لها أهل الحي زفافا كبيرًا، غنوا معها ولها "نورك يا ست الكل نور حينا". ثم تترك عملها عندما تتزوج؛ تلبية لرغبته، لكن عندما ينفر فتحي من الحياة مع فاطمة في منزلها المتواضع ويسأم من تقاليد وعادات جيرانها، وجميعهم من الطبقة العاملة، يهجرها، ويتنصل من مولودها منه، يغضب رجال الحي فيقررون رفع دعوى قضائية بالنيابة عنها لإثبات نسب الطفل. يقول المعلم: "هو فاهم أن فاطمة ملهاش راجل يدافع عنها.. كلنا رجالتها". ويرد عليه شخص آخر: هي قضيتها؟ دي قضية الحارة كلها".

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

بفيلم فاطمة غيَّرت أم كلثوم جلدها السينمائي وتخلت عن دور الجارية بعد 20 عامًا على القصة الأصلية. غلاف مجلة المصور 17 ديسمبر 1947

قدم فيلم "فاطمة" نقدًا لسوء سلوك الأغنياء، وصوَّرهم مستهترين، عاطلين عن العمل، عابثين، نساءً ورجالاً، في حين أن مجتمع الحي الشعبي من فاطمة وجيرانها بشر متضامنون، محافظون على العادات والتقاليد المصرية، يعرفون كيف يقدرون المرأة الشريفة التي تقاوم الإغواء وتلتزم بالتقاليد، فقالت فاطمة لفتحي وهو يحاول إقناعها بأن تقيم معه علاقة دون زواج: "أشرف لي أكون زوجة لعامل بسيط على أني أكون صديقة لغني عظيم". انتصر الفيلم في النهاية لفاطمة وأهل حيها، بأن ذهب فتحي طواعية إلى المحكمة معترفًا بطفله نادمًا على ما فعله. ووقفت أم كلثوم تغني "نصرة قوية" موجهة التحية

ظروف زيارة هدى شعراوي لموقع تصوير فيلم فاطمة ليست معروفة، هل كانت منتبهة إلى أن الفيلم يحكي قصة زواج ابنها من فاطمة سري؟

ظروف زيارة هدى شعراوي لموقع تصوير فيلم فاطمة ليست معروفة، هل كانت منتبهة إلى أن الفيلم يحكي قصة زواج ابنها من فاطمة سري؟

لأهل حيها الذين لم ينقسموا كما حدث مع مجتمع الباشاوات والأفندية في قضية فاطمة سري ضد علي شعراوي.
توجد صورة متداولة لهدى شعراوي في زيارة لموقع تصوير فيلم "فاطمة"، لم تظهر أم كلثوم في الصورة، ويقال إنها هربت حتى لا تقابلها، لذا ربما ليست مصادفة أن فيلم "فاطمة" عُرض للمرة الأولى في 15 ديسمبر عام 1947 أي بعد وفاة الرائدة النسائية هدى شعراوي بثلاثة أيام فقط.
رغم تخليها عن شخصية "الجارية" كأفلامها السابقة، احتفظت أم كلثوم لنفسها في فيلم "فاطمة" بمواصفات شخصيتها السينمائية المفضلة: الاحتشام، والجدية، والإخلاص،

والالتزام الأخلاقي والاستماع إلى صوت الضمير، والكبرياء، بالإضافة إلى حرصها أن تكون "امرأة شرقية" تحمل علاقتها بالرجل بُعدا تقليديًّا، فقد تركت فاطمة مهنتها إرضاء لفتحي، ولم تتصد بنفسها للدفاع عن قضيتها فامتثلت لإرادة رجال الحي، وأعتقد أنها بذلك لم ترض الأنثى فيها فقط، بل أرضت غرور الرجل/المشاهد أيضًا

اقرأ أيضاً

المذكرات الكاملة للمطربة فاطمة سري

المذكرات الكاملة للمطربة فاطمة سري

رسالة من المغنية إلى زعيمة النسوية

رسالة من المغنية إلى زعيمة النسوية

غرام بلا انتقام والأم تقود المعركة

غرام بلا انتقام والأم تقود المعركة