في انتظار المقاول.. المسلح

محو غزة بالحرب والإعمار

في انتظار المقاول.. المسلح

  • أسبوعي
  • ملفات
  • كتابة

ماذا بعد حفلة " سيد العالم"..هل يكون إعادة الإعمار استكمالاًً للحرب؟ غزة مرآة كبيرة لمحو المدن وعيشها في الخراب الدائم

"لقد وصل سيد هذا العالم". قالها بكل فخر المذيع الذي تربت حنجرته على أداء "شاويش المسرح" أو نبطشي الأفراح الشعبية. ومن أجل النجاح الكبير في وظيفته يشحن جسده كله بالمبالغة المفرطة في الأوصاف والافتعال في إظهار العواطف ليشعر أصحاب الفرح والأموال بالرضا.
"سيد العالم" هو صاحب الاستعراض لكنه لا يدفع، ولا يثير الفرحة، لكن بيده وحده أن يوقف آلة القتل في غزة، وهذا ما جعله "االسيد المنتظر" من ملايين البشر لينال مليون ونصف المليون فلسطيني استراحة من الموت الجماعي.

يعلم ترامب وهو في طريقه إلى حفل "شرم الشيخ" حجم قوته، ينتشي بها، يستخدمها في حسم الصفقات، فهو سليل أيديولوجيات الحياة صفقة وكل شيء سلعة يباع ويشترى، وما الدنيا إلا سوق كبير. وبهذه النشوة يتهادى على سلم طائرته محافظًا على خصلات شعره البرتقالية في وضع طيران دائم. وعلى مشيته لتُحرك الرثاء والسخرية. ويحافظ أخيرًا على طاقة تبث في كل حركة وكلمة مزيج لا يستوعبه العقل من الابتذال والهلع.
لكنه غالبًا لا يعلم أن السلام لا يبدأ بوقف العنف، بل بالعدالة. هذه مقولات تنتمي إلى فكرة

 ترامب كان واضحًا وهو يحول العدالة إلى"صفقة"
والحقيقة إلى صرعة (ترند)ويوجه كلامه إلى إنسان لا يراه مواطنًا بل مستهلكًا

"الإنسانية الكونية" التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية (الحقوق، المساواة، العدالة، التضامن، السلام، البيئة) وينسفها ترامب ليثبت أنه البطل القادم ليدمر النخبة السياسية التي تعيش على هذه الأفكار.
يحقق ترامب انتصاره بقدرته على لملمة الخطاب الشعبوي المعادي لهذه النخبة البيروقراطية التي يسمونها في أمريكا "سكان مكاتب"، وهم الذين يستخدمون الأفكار والقيم واجهة لفشلهم وخضوعهم لكارتيلات المصالح حول العالم. وهذه النخبة تعطلها أفكارها وتفتقد إلى كفاءة يتمتع بها ترامب وهو يلعب دور كاشف الحقيقة العارية.

وهذا ما فعله ترامب في "صفقة غزة" كما أسماها من اللحظة الأولى. كان واضحًا وهو يحول العدالة إلى صفقة. والحقيقة إلى صرعة (ترند). ويوجه كلامه إلى إنسان لا يراه مواطنًا بل مستهلكًا. ولم يغب في أي لحظة أنه يقسم العالم تقسيمًا واضحًا بين "نحن" و"هم". ثنائية تمنحه قدرات فائقة على التعبئة خلف خطواته، وتسويق نجاحاته حتى بين الكارهين له، ومع أنه يزرع الانقسام والإقصاء والتمييز يعيد تعريف القيم من منظور مصلحي ضيق يعظم ترامب من ألفاظه عن القيم الأخلاقية ليستخدمها أدوات في التفاوض، وعملة يتداولها

حسب الطلب. ويعيد تعريفها تعريف براجماتي: "الحرية" تعني حرية السوق. "العدالة" تعني الأمن الداخلي. "السلام" يعني الصفقات.
"سيد العالم" يتعامل مع القيم الإنسانية بمنطق التسويق. "أنا القادر على وقف القتل" و"أنا الذي يمنحكم أحدث آلات القتل". وهو هنا ليس جامع تناقضات، هو بائع " الخردة " البشرية بعد إعادة تدويرها حسب مواصفات العصر. يلعب الدور المزدوج للمقاول وتاجر السلاح. يتحدث لكل طرف بلغة تشعره بالامتلاء. لكنه يحدد الفارق بين الذين يستحقون من وجهة نظره أن يكونوا "نحن" ومن الذين يبقون في خانة "هم"

الجميع عند"سيد العالم"  زبائن يبيع بهم ولهم أهم صفقاته في الولاية الثانية: إعلان "إمبراطورية المقاول الذي يحكم العالم"

حتى لو دفعوا أموالاً واعتبروا أنفسهم في مقام الحلفاء. بينما الجميع زبائن في قوائم مختلفة. يبيع بهم ولهم أهم صفقاته في الولاية الثانية: إعلان "إمبراطورية المقاول الذي يحكم العالم".

1
"ركبت جمل مع جدتي، على طول طريق رملي، وبدأت في البكاء" حكى عايش يونس لمراسل B B C عن أسوأ لحظة في حياته ما زالت حاضرة في ذهنه رغم مرور77 عامًا على اضطراره إلى الهرب من قريته التي سميت على اسم القديسة المسيحية باربرا: شفيعة الحمى والموت المفاجئ.

عايش حكى للمراسل عن هروبه من قريته وسط 200 ألف فلسطيني بعد حرب 1948؛ حشروا في الممر الساحلي الصغير الذي أوصلهم لغزة. كان يحكي جالسًا على كرسي بلاستيكي على الرمال العارية خارج خيمته التي هرب إليها من جحيم الحرب الأخيرة تاركًا بيته في جنوب غزة بعد إنذار الاحتلال الإسرائيلي ليقول: "لقد عدنا إلى ما بدأنا به، وعدنا إلى الخيام، وما زلنا لا نعرف كم من الوقت سنبقى هنا". عايش مسجون في دائرة لا يتقدم فيها الزمن. وما زال حلمه هو "العودة إلى باربرا، مع عائلتي الممتدة بأكملها،  ومرة أخرى تذوق الفاكهة التي أتذكرها من هناك..

عايش يونس يحكى لمراسل الBBC عن هروبه الأبدي؛ الصورة الأصلية نشرت مع القصة الصحفية؛ومثل كل الصور في المقال كلها سكيتشات بالذكاء الصناعي

عايش يونس يحكى لمراسل الBBC عن هروبه الأبدي؛ الصورة الأصلية نشرت مع القصة الصحفية؛ومثل كل الصور في المقال كلها سكيتشات بالذكاء الصناعي

الرجل وصل إلى 89 عامًا من عمره ورأى بيته/وطنه يعاد بناؤه عدة مرات إلا أنه يقول "لا أعتقد أن غزة لديها مستقبل".
عايش بطل القصة الصحفية ممنوع من التواصل مع ذكرياته (العائلة) والحواس (الفاكهة). هارب أبدي يُهدم بيته كلما استقر فيه. لا يستطيع تخيل المستقبل في مواجهة "الإبادة الحضرية" وهو وصف للفيلسوف الفرنسي بول فيريليو، ينطبق على مدينة غزة التي لم تكن ضحية جانبية بل العدو الرئيسي للحرب، لأنها تمثل الحياة المشتركة والاختلاط بين الناس والذاكرة أي النقيض البنيوي للحرب. وفي مفهوم الإبادة الحضرية التدمير ليس حادثًا استثنائيًّا، بل أصبح أحد أشكال

إنتاج النظام العالمي: كل حرب تُخاض لتعيد صياغة المكان على مقاس أحلام المسيطرين. حيث تجرب غزة تقنيات الحرب والسيطرة: الحصار المستمر، المراقبة الجوية الشاملة، استهداف البنية التحتية الحضرية (ماء، كهرباء، مستشفيات، جامعات)، تقنيات "إدارة الحياة تحت الحد الأدنى للبقاء". ما يحدث في غزة ليس تدميرًا عشوائيًّا، بل إدارة للدمار وفق خريطة تعرف مكان وتاريخ كل إنسان يمكنه أن يشارك في المقاومة أو يرفض التعاون مع المحتل،والقنابل الذكية تستهدف الأطفال والنساء لتوقف إمتداد الأجيال أو كما قال جارنا في المقهى"

الحرب دي عاوزه تخلص على نسلهم.. على امتدادهم..عاوزه تخلص عليهم وعلى مستقبلهم..".كل بيت يُقصف هو جزء من "حرب ذكية" هي في حقيقتها هندسة لخراب المدينة. في الحروب السابقة، كانت المدينة تُقصف ثم يعاد إعمارها. في غزة، يجري العكس: تقصف لتمنع من العودة إلى الوجود. والدمار هنا ليس مجرد أداة حرب، بل سياسة محو كامل للوجود الاجتماعي، الذاكرة، إمكانية المستقبل.
غزة اليوم تمثل نهاية الوعد بالمدينة الحديثة، التي ولدت فيها التكنولوچيا لبناء المدن والآن لمحوها. الاقتصاد الذي وعد بالازدهار ينتج حصارًا وتجويعًا.

الرجل وصل إلى 89 عامًا من عمره ورأى بيته/وطنه يعاد بناؤه عدة مرات إلا أنه يقول "لا أعتقد أن غزة لديها مستقبل"

والإعلام الذي وعد بالشفافية يغطي الجريمة بالصمت. ليس ذلك فقط بل غزة هي نهاية فكرة أن التقدم والحداثة يعنيان الحياة الأفضل.
اجتمعت في غزة كل أشكال الدمار العسكري، الاقتصادي، الرمزي في مساحة صغيرة محاصَرة، تُراقَب وتقصف وتصوَّر لحظة بلحظة، كأن العالم يشاهد نفسه وهو يهدم ما بناه.
غزة أصبحت مجاز المدينة الحديثة حين تصل إلى نهايتها المأساوية.. حين يغادر المقاول المقاعد الخلفية ويجلس على الكرسي الكبير ليكون الإعمار بيد المدمر إعلان سيطرة وإعادة تشكيل للمجتمع وهندسة للمدينة كما يخدم مصالح المسيطرين.

حين يغادر المقاول المقاعد الخلفية يكون الإعمار بيد المدمر إعلان سيطرة وإعادة تشكيل للمجتمع؛ الصورة الأصلية لحسني صلاح من موقع px

حين يغادر المقاول المقاعد الخلفية يكون الإعمار بيد المدمر إعلان سيطرة وإعادة تشكيل للمجتمع؛ الصورة الأصلية لحسني صلاح من موقع px

2
لم يبدأ محو غزة بعد 7 أكتوبر 2023. خطة محكمة هي الهدف والهوى عند اليمين المتطرف، وبالنسبة لمنافسيهم الوسطيين أو العماليين؛ هي العقيدة الخفية التي تكتفي بدفع الفلسطينيين إلى شتات لا عودة منه. الخطوة الأهم عند كل الأطراف هي السيطرة على الصوت، هل يسمع العالم الفلسطينيين باعتبارهم شعب يبحث عن حقه بتقرير مصيره أم يسمع صرخاتهم كضحايا ينتظرون الإغاثة والمعونات والدموع؟ يغيب صوت فلسطين والفلسطينيين. صوت غزة المجتمع، البشر، الذاكرة، الوجع،

ونسمع أصوات متداخلة في هارموني مثير للانبهار عن الرحمة والإنقاذ والوجه الطيب من العالم. تستدعى الصورة دون صوت المدينة وأصحابها. صورة تتناغم بين الدمار والمذبحة لتوليد العواطف. وصورة حفلات الإعمار والممولين والمتحالفين والشركات العملاقة والأموال الضخمة لتكون غزة جزءًا من شرعية إمبراطورية المقاولين وإعلان لسيطرة الذين دمروا المدينة وأعادوا بناءها ويتحكمون في معادلتها السياسية والاقتصادية. ويرسمون صورتها في المستقبل. صورة دون صوت. وبناءً على الأرض يمحى البناء السياسي في مسار "الحل النهائي"

لتعود القضية إلى المربع صفر لتبدأ من المطلب الأول: حق تقرير المصير.
نوع الصوت يغير الجغرافيا، لأن أول المحو هو تحويل "القضية" إلى مجرد "معاناة"، وغزة من مدينة إلى مخيم لاجئين في انتظار حاملات المعونة وخطط المقاولين لإعادة الإعمار استعدادًا لحرب جديدة. وتنفيذًا لعملية مسح منظمة لطبقات الحياة وشبكاتها الجماعية وتأثير البشر علي العمران. في كل مرة يضيع إعادة الإعمار القائم على عزل سكان المدينة عن التخطيط والإدارة والاختيار، لتتكرس صورة المدينة القابلة للمحو والإبادة الدائمين. الحدود محكمة، المجال الجوي مراقَب،

غزة اليوم تمثل نهاية الوعد بالمدينة الحديثة، التي ولدت فيها التكنولوچيا لبناء المدن والآن لمحوها

والبحر محاصر. تُحتل غزة وفق منطق "التحكم عن بعد"، إذ تُقسم الحياة إلى مستويات من السماح والمنع، من الضوء والظلام، من البقاء والانقراض. وهذا ما جعلها مختبرًا لنوع من السيطرة لم يسجله القانون الدولي يمكن تسميتها "السيطرة المعمارية العسكرية" وهو وصف استخدمه باحث إسرائيلي هو إيال وايزمان أستاذ الثقافات المكانية والبصرية في كلية جولدسميث، جامعة لندن، ومدير مركز أبحاث العمارة، ومشروع "وكالة الهندسة المعمارية الجنائية" والمهتم بالعدالة عن طريق إعادة بناء مواقع الجرائم.

هندسة غزة تتطابق مع السجن. كل بيت وممر ومساحة لقاء يمكن أن تصبح جزءًا من آلة الحرب. لا يجري القصف بهدف النصر أو الردع، بل بهدف محو المدينة وإبادة سكانها بالقتل أو بتخريب حياتهم ودفعهم للهجرة والمغادرة وحرمانها من مقاومة المحتل المشروعة باتفاق دولي. وأخيرًا إلغاء "وجودهم" بتحويلهم إلى "موضوع" على طاولة مفاوضات تقسيم السيطرة على الإقليم والعالم.
كل حرب تنتهي بوعود إعادة إعمار مؤقتة، تمهّد لحرب جديدة. وهكذا تصبح المدينة دائرة زمنية يعيش فيها الحاضر كإعادة إنتاج مستمرة للماضي.

الدمار هنا ليس نهاية الحرب، بل وسيلتها لفرض واقع سياسي دائم. المدينة تُمحى، لا لتُنسى، بل لتصبح معرض صور، وأحلام بإنشاء "ريڤيرا" على الأرض الخراب، أو مدينة ملاهي على أنقاض المذابح الكبرى.
سيل من الصور يتكرر ويكبر على الشاشات تستعرض فيها الميديا المسيطر عليها من رؤوس الأموال المتنافسة ما تفعله أحدث الأسلحة المتفرقة التي أنتجتها مصانع في نفس الدول التي تغسل جرائمها بالدموع والعواطف المتألمة من صور الخراب والقتل والجوع. تقوم الصورة هنا بمهمة الهشاشة الوحشية التي تجعل من غزة

أول المحو هو تحويل "القضية" إلى مجرد "معاناة"، وغزة من مدينة إلى مخيم لاجئين في انتظار حاملات المعونة وخطط المقاولين

بروڤة الحقيقة العارية ومرآة مكبرة لجريمة نرى فيها العالم الذي بنى المدن الذكية والعمارة الفائقة والديموقراطيات وقيم المساواة والحقوق، هو نفسه الذي يدمر مدينة كاملة علنًا، ويسمح بقتل عشرات الآلاف بلا خجل ولا عقاب، بينما يتحول الدمار والقتل إلى مشهد عابر أو بث مباشر يتبخر سريعًا بلا ذاكرة فاعلة.
غزة هي فضيحة الخراب الذي لم يعد مؤقتًا بل دائمًا. أصبحت بنية المدينة محتلة تختزل في مشهد بصري كل عدة أعوام لا يوازي الحضور السياسي والإنساني، وذلك يحدث في الذروة الأخيرة من عصر الاستعراض

الذي يلتهم الحياة، ويمنح المدينة أوسمة الصمود والبطولة ودموع الطيبين، لتبقى رمزًا في الخيال السياسي محاصرًا بين الخراب والذاكرة، تتولد منه الهتافات والشعارات بلا نقد ولا خطط فاعلة لإيقاف الخراب. تتحول غزة إلى صورة وسلعة يستهلكها الجميع تعبيرًا عن هوس جلد الذات بينما تسير خطة المحو والخراب والإبادة لنزع إمكانية أن تكون "مكانًا يصلح للحياة".
خطة المحو تبلورت وازدهرت بعد دخول جمهوريات التحرر العربي في المعصرة.

الدمار هنا ليس نهاية الحرب، بل وسيلتها لفرض واقع سياسي دائم

الدمار هنا ليس نهاية الحرب، بل وسيلتها لفرض واقع سياسي دائم

3
كل مجتمع ومدينة في دول التحرر العربي دخل معصرة ضخمة حين قرر حكامها الانتقال من عصر إشتراكي ورأسمالية متأخرة، إلي النيوليبرالية كما رسم بدايتها عصر ريجان (رئيس أمريكا حتى 1989) ومارجريت تاتشر (رئيس حكومة بريطانيا حتى عام 1990) في لحظة حاسمة من تاريخ الاقتصاد والسياسة العالمي.
الانتقال في جمهوريات التحرر تم بالقوة والسلاح. وكعادة دول بنيت على السلطوية المتوحشة وتدور تروسها عبر زر الرجل الواحد ونوادي الحظ الموالية له، ومثلما أصبح تقليد الموديل الاشتراكي

في النظام الناصري أقرب إلى "رأسمالية الدولة"، حولت النيوليبرالية "البلد" إلى سوق كبير، الدولة فيه شركة مسلحة تبتلع السوق كله وتترك الفتات لطبقة ثانية من المحظوظين.
تتحول النيوليبرالية في مراحلها المتأخرة إلى ديانة، السوق فيها هو الإله الكبير، والاستهلاك هو الصلاة التي يروج لها ويرعاها كهنة الإعلان والموضة وصناع محالب الأموال.. والديانة تفرض عقائدها ولا تفكر في جودة الحياة ولا في تحسين شروطها، ولهذا فتحول كل شيء إلى سلعة بما في ذلك حقوق مثل التعليم والصحة والحقوق والحريات والقضايا الكبرى والمدن المدمرة،

هذا التحول ينهي مغامرات الإنسانية الكبرى في الأفكار وينهي تدوير المواهب والعقول الكبيرة وتحويل الناس كلها الى خدم وعبيد عند محتكري السوق المحدود أصلاً رغم وهم اتساعه.. الاستهلاك كديانة نيوليبرالية هو التهام بطىء للإنسانية.
اكتشفت الديكتاتوريات العربية أهمية المقاول مع تكريس النزعة النيوليبرالية في التسعينيات، وأصبح المقاول من أدوات الحكم، وبجانبه بائع الإعلانات، الاول يسيطر على حركة المال، وتحويل الأراضي إلى خزائن ثروات متوالدة، والسكن الى نادي الحظ، حيث تختار موقعك ضمن النخبة الملحقة بالسلطة،

هندسة غزة تتطابق مع السجن؛كل بيت وممر ومساحة لقاء يمكن أن تصبح جزءًا من آلة الحرب

يرتبط مصيرك بمصيرها، لتكون هذه المنتجعات/ المدن هي مزارع تربية واقتناء "المواطن الصالح" و"الابن البار"، الذي تلعب عليه الإعلانات لتثبيت ما قد يهرب هنا وهناك بفعل الجدل السياسي، أو التأثر بمزاجات التمرد والتغيير، لتكتمل منظومة تستبدل مفاهيم "الدولة" (التي تعني كيانًا محايدًا يدير المؤسسات لتحقيق أفضل حياة للمواطنين) أو "الوطن" (مكان العيش المشترك مع مجموعة متجانسة لا تمييز بينها حسب العائلة أو الدين أو الحساب في البنك..). مفهوم الشركة منقول من مفاهيم النيوليبرالية (يمكن أن نقول ذلك) لكنها تضع السلطة في موقع المحتكر الوحيد،

المهيمن على السلطة والثروة والسلاح، شركة تملكها السلطة، وتقسيم الناس فيها حسب تمييز الثروات، أو الولاء، وهنا يخلق المقاول ملاعب لسباق حياتي من أجل الدخول في الشركة، ويوزع بائع الإعلانات كريمات الترطيب ومراهم التحفيز للدخول في السباق، وقبل هذا وذاك يتحكم في مصفاة الذوق والفنون عبر اختيار النجوم وتكريس أنماط من الخيال تحول التليفزيونات الى ما وصلت إليه: مستودع نفايات، والصحف إلى مدافن المواهب وأصحاب الخيال، ومنح للمتوسطين والشطار في نسج وغزل العلاقات مع نخب المال والسلطة ليلعب دور الخادم وكشاف الإضاءة.

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

المشاريع الأسمنتية أداة لإدارة السياسة، في غياب المعنى الإنساني الذي يستبدل بمعرض صور تلح عليها وسائل الإعلام للهيمنة على المستهلكين/المشاهدين،

4
تدريجًّيا حلَّ المقاول محل السياسي والمفكر في آنٍ واحد: هو من ينفذ الإنجاز وينتجه كصورة ويمتلك أدوات المادة (الخرسانة) والرمز (الإبهار) معًا. وبذلك أصبح المقاول مُنتجًا للشرعية الرمزية عبر ما يسميه جي ديبور "الاستعراض المحسوس للانتصار الدائم". القرار في هذه الحالة يُتخذ وفق معيار الإنجاز السريع والمرئي. ويصبح المشروع الاقتصادي هو ذاته خطاب سياسي. وتتغول الصورة على الواقع ليصبح المهم ليس كيف يعيش الناس، بل كيف يرون الدولة. المقاول هنا هو الفاعل الذي يربط منطق السوق بـمنطق السيطرة

الرمزية، ليُعيد تشكيل المجال العام كمسرح مستمر إنجازات السلطة. تنتج وسائل الإعلام صورًا متكررة للمشروعات، وتعيد تدوير خطاب "الإنجاز الوطني"، بحيث يصبح المشهد ذاته هو السياسة. التجسيد المادي للهيمنة العمران الضخم، المدن الجديدة، الكباري، الأبراج، تعمل كرموز مادية للسلطة: فهي تعلن عن قدرة السيطرة أكثر مما توفر حياة أفضل.
يُخضع حيز المدينة لمنطق السوق والعرض والطلب؛ تتحول المدينة إلى واجهة استهلاكية، والمواطن إلى مستهلك لمشاهدها. وامتلاك العقار والأراضي إلى مخازن للثروة وعلامة الثراء والالتحاق

بالطبقة التي تقدم استعراضًا مفتوحًا لقدرتها على الاستهلاك يوازي في تأثيره الاستعراضات العسكرية على فرض هيمنة طبقية تحت مظلة السلطة المسيطرة.
يحل خطاب استعراض الإنجازات محل النقاش الاجتماعي والاقتصادي، وتُهمَّش الأسئلة الجوهرية حول العدالة وإعادة التوزيع. ويستدعى المواطن ليتفرج لا ليشارك. وتتحول المدينة إلى ديكور للسلطة. وينكمش الزمن السياسي إذ كل لحظة يجب أن"إنجازا"، فتصبح الدولة في سباق دائم مع الفراغ. بهذا المعنى، لم تعد السلطة تُخفي الواقع، بل تُنتجه كعرض، ولم تعد التنمية وعدًا بالمستقبل، بل مشهدًا يوميًّا للقدرة.

تتحول غزة إلى صورة وسلعة يستهلكها الجميع تعبيراً عن هوس جلد الذات بينما تسير خطة المحو لنزع إمكانية أن تكون "مكاناً يصلح للحياة"

وفي النسخة العربية انتقلت الدولة بالكامل من "رأسمالية الدولة" إلى "الدولة- المقاول" وبمعنى أكثر دقة، يعرض الزعيم أو الدولة كـ"مقاول وطني". مشاريعها الأسمنتية أداة لإدارة السياسة، في غياب المعنى الإنساني الذي يستبدل بمعرض صور تلح عليها وسائل الإعلام للهيمنة على المستهلكين/المشاهدين، ويختفى المجتمع تحت ركام ضخم من عقود ومشروعات وصفقات.
5
غزة ليست أول مدينة تنتظر المقاول. غزة عاصمة ومركز قطاع يمثل "قطعة أرض معذبة يبلغ طولها نحو 40 كم وعرضها 11 كم. يتكدس نحو 2.3

مليون روح في مساحة تبلغ نحو 360 كيلو متر مربع" كما يصفها چون توكاي أستاذ إدارة البناء، جامعة أوكلاند للتكنولوچيا في مقال بمجلة إلكترونية غير هادفة للربح اسمها THE CONVERSATION، تنشر مقالات وأبحاث تجمع بين "دقة الأكاديمية والذوق الصحفي" ويرى فيها أستاذ إدارة البناء أن "غزة منطقة كوارث والضرر مشابه من حيث الحجم والنطاق لإعصار من الفئة 4 أو 5" وأنه مع "83٪ من بناياتها، يحتاج إعادة بناء غزة ما هو أكثر من المال فقط" مقارنًا حجم مهمة إعادة البناء: إذ استغرقت ستالينجراد أكثر من 20 عامًا لإعادة تشكيلها بعد الحرب العالمية الثانية

سيأتي المقاول إلى غزة بلا وعود..ويجعل المستقبل فكرة مؤلمة بالنسبة لساكن غزة العالق بين الخراب والذاكرة.

سيأتي المقاول إلى غزة بلا وعود..ويجعل المستقبل فكرة مؤلمة بالنسبة لساكن غزة العالق بين الخراب والذاكرة.

ولم تنته وارسو من إعادة الإعمار بعد الحرب حتى الثمانينيات…".
سيأتي المقاول إلى غزة بلا وعود سوى استراحة ما بين جولات الدمار. ومع ظهوره المتكرر يحدث تدوير للخراب يقتل الخيال ويصادر الزمن. وتتداعى دفقات لا تنقطع بين الموت والنجاة. إيقاع للعذاب يجعل الجحيم شيئًا عاديًّا. والمستقبل فكرة مؤلمة بالنسبة لساكن غزة العالق بين الخراب والذاكرة. لا مكان يهرب إليه ولا إمكانية لتخيل ماذا سيحدث بعد دقائق من وقف إطلاق النار. ولا كيف يمكن الشعور بالأمان في المدينة البديلة تحت الأرض، وأنفاق بطول 500 كيلومتر تخزن فيها الحياة بكل تعقيدها.

كانت المدن تُحتل، لا تُمحى. أما في القرن العشرين، فقد أصبح تدمير المدينة شرطًا للنصر.

كانت المدن تُحتل، لا تُمحى. أما في القرن العشرين، فقد أصبح تدمير المدينة شرطًا للنصر.

غزة هي بروڤة المرحلة المتأخرة التي تحول فيها خراب المدن إلى جزء من السيطرة على العالم. في السابق، كانت المدن تُحتل، لا تُمحى. أما في القرن العشرين، فقد أصبح تدمير المدينة شرطًا للنصر. حدث ذلك في درسدن، برلين، وارسو (45-1944): حُولت إلى رماد بواسطة القصف الجوي المتعمد ثم هيروشيما وناجازاكي (1945) حين قررت أمريكا إعلان دخول العالم في "القرن النووي" الذي يستطيع فيه الإنسان محو مدينة كاملة بضغطة زر. بعد الحرب العالمية، تحول التدمير إلى أداة ضبط سياسي: من ڤيتنام إلى لبنان والعراق والبوسنة وسوريا. كل مدينة تُدمر تصبح مختبرًا لنمط جديد

من السيطرة: يعاد إعمارها وفق نموذج السوق، وعلى مقاس المنتصر. أو تُترك خرابًا كرسالة سياسية تهدد الجميع. وغزة ما زال بين ركامها خيال وأسئلة، تقاوم المحو وتصبح رمزًا يتجمع حوله المتمردين على"إمبراطورية المقاول المسلح".
كيف سيكون إعمار غزة وفق عدم توازن القوى وفي مرحلة تعلن فيها إمبراطورية المقاول عن سيطرتها الكاملة على العالم؟ في التجارب السابقة تحولت كل كارثة (حرب، زلزال، أزمة اقتصادية) إلى فرصة لإعادة تشكيل المدينة وفق منطق الغالب وبقوانين السوق لا وفق حاجات السكان ولا قوانين السلام الاجتماعي. في بيروت بعد الحرب

الأهلية، قادت عملية إعادة البناء شركة سوليدير إحدى شركات رئيس الحكومة رفيق الحريري، اتحاد المال والسياسة في قبضة واحدة؛ أتاح تنفيذ مخطط يعتمد على إخلاء وسط المدينة من سكانها، وتحويله إلى مكان بلا ذاكرة. يصلح للفرجة لا للسكن. مكان تصوير واستعراض براق بلا روح يخدم منطق السوق والعقارات.صيغة عمرانية لمجتمع الاستعراض وسيادة المقاولين.
بعد الغزو الأمريكي (2003)، أعيد إعمار بغداد وفق هندسة أمنية.لا كمدينة حية وأوكلت عمليات إعادة الإعمار لشركات أمريكية مثل Halliburton وKBR. ومرة أخرى الذي دمر المدينة يعيد بناءها على مقاسه

اكتشفت الديكتاتوريات العربية أهمية المقاول مع تكريس النزعة النيوليبرالية في التسعينيات، وأصبح المقاول من أدوات الحكم

و لتأكيد سيطرته. وكان التركيز على البنية التحتية العسكرية والرمزية لا على الخدمات العامة. ومن الطبيعي ومع استمرار الاحتلال عن بعد شهدت بغداد ولادة طبقة مقاولي الإعمار المرتبطة بالاحتلال، وهي الوجه الخشن للنيوليبرالية المسلحة.
بعد سقوط القذافي في 2011، دخلت الشركات التركية والإماراتية بقوة في مشاريع "إعادة الإعمار" الذي صار ساحة لتقاسم النفوذ بين الممولين والميليشيات. والعمارة صارت شارة سياسية. وإعلان عن مناطق النفوذ والسيطرة وعنصر من عناصر التفاوض في وقت الحرب الباردة بين الميليشيات وحتى بعد جولات اشتعالها.

مَّن الذي سيضع على المدينة قناعها الجنائزي لإخفاء المآسي خلف الواجهات الأنيقة؟'سكيتش للصورة الرئيسية-من موقع px

مَّن الذي سيضع على المدينة قناعها الجنائزي لإخفاء المآسي خلف الواجهات الأنيقة؟'سكيتش للصورة الرئيسية-من موقع px

في كل خطاب عن "إعادة الإعمار"، يُقال إن الهدف هو "بناء ما تهدَّم"، لكن واقعيًّا هو إعادة تحديد من يتحكم في المستقبل، ومن الذي يعيد توزيع الوجود الإنساني في المدينة. ومن الذي سيحدد أو يعرف معنى الجمال. أو بتعبير من تعبيرات الفيلسوف الألماني ڤالتر بنيامين مَّن الذي سيضع على المدينة قناعها الجنائزي لإخفاء المآسي خلف الواجهات الأنيقة ممسوحة الذاكرة؟
العمارة أصبحت لغة سلطة. التدمير العسكري يكتمل بوعد بالجمال وإغواء برموز "الحياة الجميلة " كما تلح عليها الصور: الموانئ البراقة، الشوارع الملساء والبيوت الفخمة والمولات العملاقة.

كرنڤال كامل الأوصاف يخفي نظام السيطرة المتوحشة. وصور تقنع الناس بأن الحرب/الكارثة انتهت. والمستقبل مفتوح والإنقاذ قادم مع تحالف الممولين.
هو تصميم لمدينة فوق مذابحها وآلامها التي لم تعالج وحقوقها التي لم تعد، يعلن التصميم عن سيطرة المصمم وقدرته على فرض "المبنى الجميل" بديلاً عن العدالة. وقدرته على تجميل المذابح. وترسيخ انتصاره بصورة "عودة الحياة" أو بالتعبير المصري "اللقطة"، وفي هذا المشهد كل ما هو خارج اللقطة "لا وجود له".

اقرأ أيضاً

القاهرة بين سيدتين

القاهرة بين سيدتين

الصوت والرغبة

الصوت والرغبة

بين كوشنر ولابيد وشب جديد

بين كوشنر ولابيد وشب جديد

 هكذا غيرت عزيزة أمير العالم من حولها

 هكذا غيرت عزيزة أمير العالم من حولها

وقائع معارك منسية في تاريخ النسوية

وقائع معارك منسية في تاريخ النسوية

ما يطلبه الفاشيون!

ما يطلبه الفاشيون!