وقائع معارك منسية في تاريخ النسوية

إنچي أفلاطون ومنيرة ثابت ودرية شفيق

وقائع معارك منسية في تاريخ النسوية

  • أسبوعي
  • نص
  • كتابة

معارك شرسة دارت بين إنچي أفلاطون، منيرة ثابت ودرية شفيق.. ثلاث رائدات نسويات، لماذا اختلفن والهدف واحد؟

كان التمرد هو السمة الأساسية التي وسمت حياة إنچي أفلاطون (1924- 1989)، وأصبح لصيقا بها. تمردت على العائلة الأرستقراطية، والتعليم الجامد في مدارس الطبقة العليا، وعلى مراسم الفنانين الأجانب التي التحقت بها لتعلم الرسم، بل ربما ترجع رحلة تمردها إلى ما قبل مولدها كما تقول ساخرة. تحكى إنچي في مذكراتها، عن سنوات الطفولة: «أصر أبي على إدخالنا أنا وأختي مدرسة القلب المقدس.. لماذا؟ لأنه كما أعلن يخاف أن ننشأ مثل أمنا ونسير على دربها في الاستقلال والعناد، وأن نتعود الترف والدلال مثل باقي بنات الذوات(....) كرهت تلك المدرسة بكل شعوري ووجداني؛ شعرت أنها

أقرب إلى السجن... كرهت القيود على حريتي.. والعيون التي ترصد حركاتي وسكناتي وتدين كل ما أفعله.. لم أكن قد تجاوزت الثانية عشر ربيعًا، وكنت على وشك أن يصدر قرار بفصلي نهائيًّا من المدرسة ـ فأخرجتني أمي منها بعد أن اختلت بها رئيسة الراهبات «الأم بارتلو» وأسرَّت في أذنها مشيرة إليَّ بحذر: إني أحذرك؛ ابنتك هذه قد تصبح عنصرًا خطرًا في المجتمع… وانتقلت من كابوس الراهبات إلى مدرسة الليسيه الفرنسية!».
ظل وصف إنچي بأنها عنصر خطر في المجتمع ملاصقًا لها حتى عندما أصبحت شابة وشاركت في أول مؤتمر عالمي للطلبة عام 1946 في براغ.

كان التمرد هو السمة الأساسية التي وسمت حياة إنچي أفلاطون وأصبح لصيقا بها

وهو المؤتمر الذي اشترك فيه مندوبون من 40 دولة، من بينها عدد كبير من الدول الواقعة تحت نير الاستعمار وتناضل للتحرر والاستقلال. وفي هذا المؤتمر اختير يوم 21 فبراير من كل عام ليصبح يومًا عالميًّا للطلبة.

أول الكتب بمقدمة طه حسين
أسهمت إنچي في تأسيس الجمعية النسائية الوطنية المؤقتة عام 1947. وأصبحت عضوًا في الاتحاد النسائي الدولي، وشاركت في المؤتمر النسائي بباريس عام 1947. وعند عودتها أنجزت كتابها الأول «80 مليون امرأة معنا» الذي هدف أساسًا إلى تعريف الناس بنضال المرأة في مقاومة

الاستعمار، وأبرز أهمية الوحدة بين نساء العالم لنيل حقوقهن العادلة.
وحين فكرت في شخصية لها وزنها تكتب مقدمة الكتاب وتقدمه وتقدمها للقراء، كان الدكتور طه حسين بالنسبة لها، ولسائر المثقفين، المفكر الحر الجرئ وداعية التجديد والتحديث ونصير للمرأة في كفاحها.
كتبت إنچي أفلاطون «استجمعت شجاعتي وأنا أرتعد خجلاً وخوفًا وذهبت إليه في يوم من أيام الأحد، الذي كان يخصصه لاستقبال زواره.. قدمني سكرتيره: الآنسة إنچي أفلاطون… قال الدكتور طه حسين مبتسمًا: أهلاً بالآنسة الشيوعية.. واحمر وجهي وازداد خجلي، لكن رقته ولطفه

أدركاني. انتحى بي جانبًا وسألني عما أريده، فشرحت له رغبتي. طلب أن أترك الكتاب ليقرأه ووعدني بكتابة المقدمة إذا راق له الكتاب. وما هي إلا أيام مرت حتى اتصل بي سكرتيره وأخبرني أن الدكتور طه حسين كتب المقدمة، وكانت لحظات من أسعد أوقاتي»!
منيرة ثابت تهاجم الكتاب بعنف
نُشر الكتاب في مطلع عام 1948، وكان نشره إيذانًا بحملة شعواء ضده، وإن كان ليس غريبًا أن كتابًا يدعو إلى أن تنال المرأة حقوقها يقابل بالحرب، فالغريب أن من بدأ هذه الحرب سيدة من أبرز مناضلات الحركة النسائية سابقًا، وهي منيرة ثابت؛ أول صحفية

كان نشر الكتاب إيذانًا بحملة شعواء ضده بدأتها منيرة ثابت..

نقابية مصرية، وأول محامية عربية، وصاحبة الفضل في إصدار قانون المساواة في العمل السياسي بين المرأة والرجل؛ ففي عام 1924 حين أجريت أول انتخابات برلمانية مصرية تحت ظل دستور 1923، في ظل وجود تناقض غريب بين مواد دستور 23 وقانون الانتخاب؛ فالدستور ينص في المادة الثالثة على أن المصريين لدى القانون سواء؛ وأنهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم في ذلك. بينما ينص قانون الانتخاب وقتها على أن التصويت في الانتخابات حق لكل (ذكر) مصري، وبذلك مُنعت النساء من التصويت في

الانتخابات، فأرسلت منيرة ثابت لسعد زغلول تقول له هل النساء غير مصريين؟ ألم ينص الدستور على المساواة؟ وطالبت سعد زغلول بتوفير شرفات للنساء لحضور جلسات البرلمان طوال دورة الانعقاد، وكان لها ما أرادت، وانتصرت في معركتها، وعبرت عن ذلك «قضي الأمر، اقتحمت المرأة المصرية دار مجلسي الشيوخ والنواب رغم أنوف السادة الغاضبين».
لكن يبدو أن الأمور كانت قد تغيَّرت وتبدلت لدى منيرة ثابت بين عامي 1924 و1948. فكتبت إلى مجلة «آخر ساعة» في عددها 704 الصادر يوم 21 أبريل 1948 رسالة غاضبة بشأن كتاب إنچي أفلاطون، جعلت عنوانها

منيرة ثابت تهاجم إنچي أفلاطون على صفحات مجلة آخر ساعة

منيرة ثابت تهاجم إنچي أفلاطون على صفحات مجلة آخر ساعة

«الشيوعية وحقوق المرأة»، جاء فيها: «حمل إلىَّ البريد مؤلفَا نسويًّا مُصدَّرًا بقلم صاحب العزة الدكتور طه حسين، ولعله كتبها دون أن يطلع على محتويات الكتاب. في وقت كان فيه اسم إنچي أفلاطون يثير الشبهات وهي صاحبة هذا المؤلف النسوي الخطير، وقد لفت نظري هذا الاسم بمناسبة قضية الخلايا الشيوعية التي هاجمها البوليس في الأيام الأخيرة. فبادرت بإلقاء نظرة سريعة على هذا المؤلف. وقد فزعت من هول الآراء التي احتواها، ومما زاد في ألمي أن صاحبته تذيعه في الناس تحت ستار تحرير المرأة والمطالبة بحقوقها. ومن خلف هذا الستار البرئ تدعو النساء إلى الثورة على مبادئ

الدين الإسلامي، فيما يختص بعلاقة الزوجة بزوجها وكيان الأسرة. وهي بعد تدعوهن إلى الإقتداء بنساء روسيا ويوغسلافيا ورومانيا إلى آخر هذه البلدان المتبلشفة التي حازت وحدها رضاء وإعجاب الكاتبة المذكورة، التي تدعو أيضًا نساء مصر إلى الانخراط في اتحاد دولي تزعم أنه يضم ثمانين مليون امرأة. وبما أني أطالب بحقوق المرأة السياسية على أساس احترام مبادئ الدين الإسلامي والمحافظة على كيان الأسرة واحترام الدستور والأنظمة القائمة في بلادنا،  فقد رأيت أن أكتب إليكم هذه الكلمة للفت نظر السلطات إلى خطورة تداول مثل هذا المؤلف الشيوعي في أوساط الطالبات

والتلميذات الناشئات، ومن ثم فإن الآراء التي يحتويها تشوه سمعة حركة تحرير المرأة وتسئ إلى قضية المطالبة بحقوقها التي أعني بها.. منيرة ثابت».
حوار مفبرك بعنوان: شيوعية أرستقراطية أم وطنية

كانت «دار أخبار اليوم» التي تصدر عنها مجلة «آخر ساعة» آنذاك، معروفة بعدائها الشديد للشيوعية ولكل فكر يساري، فنشرت في العدد التالي لمقال منيرة ثابت حوارًا مع إنچي أفلاطون على نصف صفحة بعنوان بارز «شيوعية أرستقراطية أم وطنية»، كما نشرت في نفس العدد تعقيبًا من شيخ أزهري يدافع عن إنچي أفلاطون، وهذا الشيخ الشاب هو خالد محمد خالد،

كانت «أخبار اليوم» التي تصدر عنها مجلة آخر ساعة آنذاك، معروفة بعدائها الشديد للشيوعية ولكل فكر يساري

الذي كان وقتها في الثامنة والعشرين!
بدأ الحوار مع إنچي بمقدمة ساخرة منها ومن فكرها، إذ كتب المحرر:
«إنچي فتاة رشيقة، فيها أناقة الفتاة الأرستقراطية، وأزياؤها تتمشى مع آخر الموضات، عيب الآنسة إنچي أفلاطون أنها حديثة السن لم تقرأ كثيرًا، وبرغم إصرارها على أنها قد قرأت فإن طريقة تناولها للموضوعات تكشف عن هذا النقص! أفكارها مشوهة تهتم بالقشور قبل اللباب، عنيدة لا تقتنع برأي، والأفكار التي تعتنقها تؤمن بها في قوة وعناد، تتشبث بالخيال أكثر مما تتشبث بالحقيقة».
هكذا بدأ المحرر: إن نفسية إنچي أفلاطون مثل نفسية الشيوعي الذي

قيل له:
- إذا كان لديك ألف فدان فهل توزعها؟
- نعم.
- وإذا كانت لديك بقرتان فهل تشرك الآخرين فيهما؟
- نعم
-وإذا كان لديك قميصان فهل توزعهما؟
- لا.. لا لأن عندي قميصين! هكذا إنچي، فتاة أنيقة ذات مال وذات وحسب، بينما الأخريات لا حسب لهن ولا مال ولا ثوب، فتاة رقيقة تركب الطائرة وتسافر إلى فرنسا وتشيكوسلوفاكيا بينما تتضور الأخريات جوعًا..
قلنا لها:
- سمعنا أنك تملكين أربعين فستانًا،

عالم أزهري يدافع عن إنچي أفلاطون.. هكذا عنونت آخر ساعة ما كتبه خالد محمد خالد

عالم أزهري يدافع عن إنچي أفلاطون.. هكذا عنونت آخر ساعة ما كتبه خالد محمد خالد

فلماذا لم تحاولي أن توزعي بعضها على زميلاتك، وأنت تعرفين أن هناك فتيات لا يملكن أكثر من فستان واحد؟
- إن المسألة ليست في أن أوزع فساتيني ولكن في حل المشكلات السياسية والاجتماعية.
يتابع المحرر:
- هل توافقين على قوانين الزواج كما تنص عليها الشريعة الإسلامية؟
- "صمت"!
- إن تركيا تعترف بالزواج المدني؛ بمعنى أن للمسلمة أن تتزوج من غير مسلم، فهل تقرين هذا المبدأ؟
- الدين الإسلامي أباح للمسلم الجمع بين أربع زوجات..
- أنا لا أوافق على ذلك، وإني أفضل

الطلاق على أن تكون للمرأة ضرة، كما يجب أن يحكم للمرأة المطلقة بتعويض ثابت ونفقة دائمة، فإن المرأة تقوم الآن بدور هام في المجتمع.
 أما ما كتبه خالد محمد خالد فقد نشر بعنوان «عالم أزهري يدافع عن إنچي أفلاطون» كان من بين ما جاء فيه: «طالعت ما كتبته أخيرًا السيدة منيرة ثابت عن كتاب 80 مليون امرأة معنا، ورأيتها تُقحم الدين في تفنيدها هذا الكتاب، وتعتبر آراء الآنسة إنچي أفلاطون ثورة على الدين الإسلامي. وإذا كنت عالمًا مسلمًا، وأعرف مدى تقديس ديننا لحرية التفكير والتعبير، ومن الذين قرأوا هذا الكتاب الصغير في الساعات الأولى لظهوره فلم أجد فيه

أية ثورة على الإسلام»..
تكذِّب إنچي حوار آخر ساعة الذي من الواضح وضوح الشمس من خلال الأسئلة والأجوبة والمقدمة الساخرة، أن الحوار المنشور مع إنچي مفبرك، أو أن جزءًا كبيرًا منه مفبرك، وهو ما أكدته إنچي في بيان شديد اللهجة نشرته في مجلة «السوادي» حيث كتبت: «نشرت مجلة آخر ساعة في أحد أعدادها حديثًا دار بيني وبين أحد محرريها، نَسبت إليَّ فيه أقوالاً لم تصدر عني، وحذفت أقوالاً أخرى؛ حتى بدا حديثي أنني أهاجم بعض تعاليم الدين الإسلامي وهو الأمر الذي لا يخطر لي على بال.. وقد دأبت المجلة المذكورة على سرد وقائع وهمية عما أسمته نشاطي

تقول إنچي: أفضل الطلاق على أن تكون للمرأة ضرة

الشيوعي وقد فكرت في مقاضاتها فعرض على أحد محرريها حلاً وسطًا هو نشر حديث يوضح فيه آرائي، فكانت النتيجة هذا الحديث المشوه، وفيما يتعلق بحقوق المرأة المصرية أبرزت بوضوح أن الدين لا يتعارض مع ما ناديت به من حق المرأة في الاشتغال بالمسائل السياسية والاجتماعية، وهو الأمر الذي وافقني عليه إلى حد كبير عالم أزهري فاضل في مقال نشرته المجلة الكاذبة الغراء».
الرد على منيرة ثابت
لم تكتفِ إنچي أفلاطون بذلك، بل عادت وكتبت ردًّا مطولاً على مقال منيرة ثابت؛ جاء فيه: «نشرت مجلة آخر ساعة في عددها الأخير رسالة

منيرة ثابت؛ جاء فيه: «نشرت مجلة آخر ساعة في عددها الأخير رسالة باسم السيدة منيرة ثابت تحمل فيها حملة شعواء على كتابي «80 مليون امرأة معنا». وأول ما جاء في هذه الرسالة أن الدكتور طه حسين "لعله لم يطلع على محتويات الكتاب حينما كتب مقدمته القيمة". لكن كاتبة الرسالة تعبر بذلك عن أمل خائب بلا شك. ثم تكلمت عن تردد اسمي في خضم قضية الخلايا الشيوعية الأخيرة، وهي في هذا تساير البوليس السياسي في أمل إلصاق تهمة الشيوعية بكل مكافح ضد الاستعمار. ذلك أن النيابة حققت معي لا من أجل حادث الخلايا الشيوعية، بل من أجل اشتراكي في المؤتمر النسائي الدولي الذي

منيرة ثابت - 1954

منيرة ثابت - 1954

يضم 80 مليون امرأة، الذي هاجمت فيه الاستعمار البريطاني على نطاق دولي، وهي حقيقة لا تستطيع منيرة ثابت أن تتمنى عدم صحتها.. فهل في هذا عيب؟!
أما اتهامي بالدعوة إلى الثورة على مبادئ الدين الإسلامي تحت ستار تحرير المرأة، فهو اتهام باطل لا يستند إلى أساس سليم، وليس يكفي أن تلقي منيرة ثابت هذا الاتهام جزافًا فيصدقه القراء دون تحليل مواد هذه الدعوة وبيان ما يتعارض منها وتعاليم الإسلام، وأنا أتحداها أن تفعل هذا لتوضح للقراء أن فزعها من هول الآراء التي احتواها هو فزع من المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق السياسية والاجتماعية».

ولتثبت صدق حديثها أوردت نبذة من مقدمة طه حسين للكتاب:«ويكفي أن أعيد هنا نبذة من مقدمة طه حسين بك. حين كتب: والمرأة المصرية حين تطالب بما تطالب به من الحرية لا تخالف سنة موروثة، ولا شيئًا من آدابنا التقليدية المحفوظة، وإنما تطالب بإحياء هذه السنة ورعاية هذه الآداب».
ثم تسخر من مطالبة منيرة ثابت للبوليس السياسي بمصادرة الكتاب «وتعبر كاتبة الرسالة عن أمل خائب سبقها إليه البوليس السياسي الذي يرى رأيها في مصادرة حرية الرأي. فقالت إنها تريد تنبيه السلطات إلى خطورة تداول مثل هذا المؤلف في أوساط الطالبات والتلميذات الناشئات.

ذلك أن البوليس السياسي طلب من النيابة مصادرة كتابي فرفضت النيابة هذا الطلب لأنها لم تجد فيه شيئًا معيبًا». وتختتم إنچي مقالها: «وأريد في النهاية أن أطمئن كاتبة الرسالة إلى أن حركة تحرير المرأة التي كانت تعني بها في الماضي لن ينالها التشويه، وأنها ستمضي قدمًا، لأنها لا تحب الرجوع إلى الوراء ولا تحب الوقوف الذي لا حركة فيه».
منيرة ثابت تزحف إلى الوراء
التقط خالد محمد خالد العبارة الأخيرة التي كتبتها إنچي أفلاطون في ردها على منيرة ثابت، وهي «حركة تحرير المرأة لا تحب الرجوع إلى الوراء» ليدخل المعركة مرةً ثانية، وكتب مقالاً حادًا مدافعًا فيه

سخرت إنچي أفلاطون من مطالبة منيرة ثابت للبوليس السياسي بمصادرة كتابها

عنها ضد منيرة ثابت، معتبرًا موقف الأخيرة رجوعًا إلى الوراء.
اختار خالد لمقاله عنوان «منيرة ثابت تزحف ولكن إلى الوراء» نشرته مجلة «السوادي» جاء فيه: «حرام أن يذهب الإنتاج الفكري أيًّا كان لونه وقدره ضحية عاطفة خاصة تستغل الدين في إعلاء كلمتها استغلالاً مغلوطًا. وإذ قد خلا دفاع الآنسة إنچي أفلاطون من الدعامات الدينية التي تؤازرها وتقذف باتهام السيدة منيرة ثابت إلى مكان بعيد، فقد وجب على رجل الدين أن يتقدم للفصل في نزاع أُقحم الدين فيه إقحامًا مريبًا، الأمر الذي دعاني إلى نشر هذا الرأي على صفحات مجلتنا الحرة الشجاعة «السوادي». تقول السيدة

منيرة إنها فزعت من هول الآراء التي احتواها الكتاب، التي تعتبر ثورة على الدين الإسلامي، ومن العجب أن تزلزل هذه النشرة الوديعة الصغيرة سكينة السيدة الوقورة وتعصف بهدوئها. لقد قرأت الكتاب في الساعات الأولى لظهوره. وأحب أن أبشر السيدة منيرة بأنها أول من ثار على الإسلام، إذا كانت تعتبر الآراء التي احتواها الكتاب ثورة؛ ذلك أن ممارسة المرأة حقوقها السياسية والاجتماعية على الصورة التي تدعو إليها السيدة من زمن بعيد لن تجد لها نصًّا واحدًا من نصوص الدين الصريحه يقرها وإنما هناك اجتهاد لهذه النصوص».
ويختتم خالد محمد خالد مقاله «شيء

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

إنچي أفلاطون المتهمة بالشيوعية.. ترد على منيرة ثابت

آخر يدفعني للكتابة، وهو أن أرصد للسيدة منيرة هذه النكسة العاطفية التي جعلتها تنتقد الكتاب، وتحرص على مصادرته بصورة مريبة لا تليق. وأسجل لها هذا الزحف السريع إلى الوراء ممن كانت تحسب نفسها فارسة الطليعة التي تقتحم الحواجز والأسلاك. ثم لأفسد عليها غرضها الذي هو جزء من خطة مرسومة يحاول واضعوها دائمًا أن يزجو الدين في قضايا خاسرة. أليست مهزلة عجيبة؟ لكن أعجب منها أن يسكت عنها رجال العلم والدين..
[لم يكن خالد محمد خالد يعلم أن أزمة كتاب «80 مليون امرأة معنا» ستتكرر مرة أخرى بعد عامين مع كتابه «من هنا نبدأ» الذي واجه بسببه هجومًا

كاسحًا وصل لأروقة المحاكم].
عالم أزهري يهاجم إنچي أفلاطون
عادت مجلة آخر ساعة للرد على إنچي أفلاطون وخالد محمد خالد، هذه المرة عن طريق الشيخ أزهري آخر هو أحمد الشرباصي، عرَّفته المجلة بالمدرس بمعهد القاهرة الثانوي. المدهش أن الشرباصي استخدم عبارات بالنص من تلك العبارات التي هاجم فيها محرر «آخر ساعة» إنچي أفلاطون في مقدمة الحوار معها، إذ كتبت المجلة تحت عنوان «عالم أزهري يهاجم إنچي أفلاطون»: «فزعت حينما رأيت ذلك العنوان عالم أزهري يدافع عن إنچي أفلاطون، وذاد فزعي حينما قرأت اسم ذلك العالم في ذيل كلمته، فعرفت أنه زميل كريم

على صفحات آخر ساعة؛ الشيخ أحمد الشرباصي يهاجم إنچي أفلاطون وخالد محمد خالد معًا..

على صفحات آخر ساعة؛ الشيخ أحمد الشرباصي يهاجم إنچي أفلاطون وخالد محمد خالد معًا..

أعرف له صفاء النية وسمو المقصد، لكن هكذا يعثر الجواد الكريم الأصيل في بعض الأحيان..»، ثم يتابع الشرباصي هجومه: «أو عرفت أيها الصديق العزيز من هي إنچي أفلاطون هذه؟ إنني لم أرها ولم أتعرف إليها، وأني بذلك لسعيد، فأنا رجل مسلم مصري مخلص لبلادي، أكسب قوتي بدمي وعرقي، ولكني قرأت وسمعت عن هذه المخلوقة أنها شابة رشيقة غنية مترفة أجنبية الثقافة والوظيفة مشوهة التفكير خيالية عنيدة تهتم بالقشور دون اللباب متهمة بالشيوعية. وكيف تدافع أيها الزميل عن امرأة تحاول أن تجعل النساء كالرجال في كافة الحقوق مع أن ذلك لن يستقيم في شرعة الحق؟ وكيف

تدافع عن كتاب لها أثيم، من الخير أن تتورع عن مسه لا أن نقرأه وندافع عنه فما غزينا في بلادنا إلا بمثل هذه السموم البراقة تسعى إلى شبيبتنا ولها جلد الضأن من اللين ولكن لها أيضا ناب الأفعى الرقطاء.
بهذه العبارات يختتم الشرباصي هجومه على خالد محمد خالد وإنچي أفلاطون، كأن التاريخ يكرر نفسه ويعيد أحداثه فنحن هنا أمام رجل يعترف بعدم رؤيته للكتاب، بل ويحرم مجرد مسه، ومع ذلك يملك من الشجاعة من أن يكتب محاربًا الكتاب وكاتبته ومن يدافع عنها كذلك! بعد سنوات طويلة من تلك المعركة تتذكر إنچي أفلاطون في مذكراتها الوقائع بشكل عابر (وهي

المذكرات التي سجلتها على أشرطة كاسيت وفرغتها بنفسها ثم تولى صياغتها وضبطها سعيد خيال وصدرت عام 1993 عن دار سعاد الصباح)، وفي هذا السياق تذكر موقف خالد محمد خالد بتقدير وعرفان «وكانت المفاجأة الجميلة أن كاتبًا عظيمًا تصدى لمقال الست منيرة. فكتب في الأسبوع التالي فكتب في الأسبوع التالي مقالاً وقد هاجمها بحدة من منطلق أنها وهي زعيمة نسائية مخضرمة تهاجم شابة شجاعة متحمسة تدافع عن تحرير المرأة.وكان المفروض أن تشجعها بدل الهجوم عليها. كانت دهشتى وفرحتى كبيرة، فها هو عالم أزهري محترم يدافع عني بحماس ولم تكن بيني وبينه

إنچي أفلاطون وسيزا نبراوي تهاجمان درية شفيق لحضورها المؤتمر النسائي الدولي

معرفة. ذلك الرجل الكبير هو الأستاذ خالد محمد خالد»!
الحرب ضد درية شفيق
إنچي أفلاطون أيضًا زحفت إلى الخلف مثلما زحف منيرة ثابت، وذلك بعد سنوات من أزمة كتابها، وبعد ثورة يوليو 1952، حين تصدت لسيدة أخرى تطالب بحقوق المرأة، وهى درية شفيق (14 ديسمبر 1908 - 20 سبتمبر 1975)، هنا تبدلت الأدوار فذهبت إنچي أفلاطون مذهب منيرة ثابت في التصدي لدرية شفيق، وهي واحدة من أهم رائدات العمل النسائي في مصر وأسست عام 1945 مجلة «بنت النيل» التي استمرت في الصدور حتى عام 1957، وحاولت تأسيس مجلة سياسية

بعد ثورة يوليو ولم تفلح، فاكتفيت بملحق سياسي داخل مجلة بنت النيل حمل عنوان «بنت النيل السياسية»، كما أسست «اتحاد بنت النيل». عندما أسست درية شفيق مجلة «بنت النيل» استقبلتها الصحف بالهمز واللمز، ونشرت آخر ساعة: «تمتلك صاحبة السمو الأميرة شويكار ثروة تقدر بثلاثة ملايين من الجنيهات، وقد كانت أفقر أميرات الأسرة المالكة لبذخها وكرمها، ثم ورثت شقيقها الأمير أحمد سيف الدين فأصبحت أغنى سيدة في مصر، تعيش كما يعيش هارون الرشيد، وكما كان هارون الرشيد يملأ فم الشعراء والأدباء ذهبًا، فقد رأت سموها أن تملأ فم الدكتورة درية شفيق (31 سنة

 هذا النص هو مثال لنص يمكن أن يستبدل في نفس المساحة،

إنچي أفلاطون.. 1952

وخريجة السوربون) ذهبًا، ولما كان فم الدكتورة درية لا يسع أكثر من 10 جنيهات ذهبية لذلك فإن سموها وضعت تحت تصرف الدكتورة خمسة آلاف جنيه لإصدار مجلة للمرأة المصرية»!
في 19 فبراير عام 1951 قادت درية شفيق تظاهرة صاخبة استمرت لأربع ساعات، تحركت من قاعة «إيوارت» بالجامعة الأمريكية، وضمت ألفًا وخمسمئة امرأة نجحن في اقتحام البرلمان للمطالبة بالسماح للنساء بالاشتراك في الكفاح الوطني والسياسي، حتى اضطر نائب رئيس النواب إلى استقبالها، بعد أن انتزعت من رئيس مجلس الشيوخ زكى العرابى باشا وعدًا

بأن ينظر البرلمان فورًا فى مطالب المرأة، وفي هذه التظاهرة قالت درية شفيق قولتها الشهيرة «نحن نصف الأمة.. نصف القوة.. نصف الحياة.. ولقد بلغنا من الوعي القومي ما يجعلنا نعتبر إقصائنا عن الاشتراك في السلطات الثلاث حرمانًا لبلادنا من نصف طاقتها الحيوية الإنتاجية». كانت هذه التظاهرة تحمل قدرًا كبيرًا من التناقضات فقد شاركت فيها سيزا نبراوي؛ وهي على خلاف كبير مع درية شفيق، وذلك حتى تظهر المتظاهرات بشكل يمثل كل نساء مصر بغض النظر عن الخلافات الآيديولوجية بينهن، مما دعا الصحفي أحمد الصاوي محمد إلى أن يكتب في صحيفة الأهرام:
«لم يكن من المتصور أن يأتي يوم نرى

درية شفيق مع سيزا نبراوي، التي شاركت في التظاهرة إلى قاعة إيوارت، للمطالبة بالحقوق السياسية للمرأة المصرية، على الرغم من خلافها مع درية شفيق

درية شفيق مع سيزا نبراوي، التي شاركت في التظاهرة إلى قاعة إيوارت، للمطالبة بالحقوق السياسية للمرأة المصرية، على الرغم من خلافها مع درية شفيق

فيه سيزا نبراوي ودرية شفيق تتبادلان القبلات في الشارع، لكن هذا ما حدث أمس بالفعل»!
كما ضمت أيضًا إنچي أفلاطون، التي سيكون لها وقفات عدة مع درية شفيق فيما بعد.
لكن وعد رئيس مجلس الشيوح صار سرابًا، ولم تكتف الحكومة بذلك فقد استدعيت درية شفيق رسميًّا أمام النيابة للتحقيق معها فيما حدث من تظاهرات، وومثلت بالفعل يوم 6 مارس 1951 وتطوع للدفاع عن درية شفيق محامون، ومحاميات على رأسهن مفيدة عبد الرحمن؛ التي استنكرت وجود جريمة من الأساس في الذهاب إلى البرلمان لتقديم التماس، كما أن البرلمان

غير محظور على الجمهور، فتهمة الاقتحام إذن لا وجود لها، حتى عندما طالبت النيابة بتأجيل القضية إلى أجل غير مسمى أصرت مفيدة عبد الرحمن على أن يكون الحكم بالبراءة، لأن التأجيل وإن كان لأجل غير مسمى يعني وجود تهمة، وصدر الحكم بالتأجيل يوم 10 أبريل1951، واستمرت القضية منظورة حتى حصلت على البراءة عام 1955.
الصدام الأول بين درية شفيق وإنچي أفلاطون
في أثناء النظر في قضية درية شفيق، سافرت لتحضر المؤتمر النسائي الدولي بأثينا ممثلة لاتحاد بنت النيل، وقيل وقتها إنها تبنت مواقف مغايرة

للسياسات الرسمية المصرية، وبخاصة قرارت التسليح، مما دعا إنچي أفلاطون وسيزا نبراوي إلى أن تكتبا نقدًا شديدًا لدرية، وقد كانتا بالأمس حليفتيها عند اقتحام البرلمان. فكتبت إنچي مقالاً في صحيفة المصري بتاريخ 9 أبريل بعنوان «المرأة نصف المجتمع» جاء فيه: «العجيب أن مجلس النساء الذي يفترض فيه العمل على تحقيق مطالب المرأة من أجل سعادتها وسعادة الأسرة وهناء الشعوب بالتالي، قد اتخذ قرارًا في سبيل إقرار السلام والوئام بين الدول، ويتضمن الموافقة على سياسة التسلح الدفاعي القائم اليوم، ولا يسعنا إلا أن ننقد هذا القرار الذي يشجع التسابق الجنوني إلى التسلح، لأن التسلح هو

يبدو أن إنچي أيضًا زحفت إلى الخلف مثلما زحفت منيرة ثابت!

حشد أدوات الدمار والفناء مهما قيل أنه تسلح دفاعي أو هجومي، ولعل المندوبة المصرية قد أدركت خطورة هذا القرار على مطالبنا الوطنية، أن الاحتلال البريطاني يتذرع بهذه الحجة للبقاء في أرض الوطن ورفض الجلاء الذي نناضل من أجله». في نفس الصفحة كتبت سيزا نبراوي أيضًا مقالاً تهاجم فيه درية، وتتبرأ بصفتها وكيلة الاتحاد النسائي المصري من كل القرارات التي وافقت عليها بنت النيل. لم تنتظر درية شفيق كثيرًا حتى ردت.. وفي العدد التالي لصحيفة المصري كتبت مقالاً بعنوان «بيان لا بد منه» توضح فيه وجه نظرها للموافقة على قرار التسلح وأنه ما دام التسلح قائمًا على قدم وساق

في بعض الدول، فإن خير وسيلة لحفظ السلام العالمي أن تقوم كل دولة بإعداد جيش قوي إلى درجة تجعل المعتدي يفكر طويلاً قبل الإقدام على الاعتداء.
كتائب بنت النيل المسلحة
يبدو أن عام 1951 كان من أكثر السنوات في تاريخ درية شفيق فاعلية وإثارة للجدل، فقد أنشأت بالتزامن مع أحداث القنال عام 1951 أول فرقة عسكرية نسائية لإعداد الشابات للنضال جنبًا إلى جنب مع الرجال، ولتدريب ممرضات ميدان، بتمرين أكثر من ألفي فتاة على الإسعافات الأولية، كما افتتحت حملة تبرعات لتقديم المساعدات المالية للعمال الذين فقدوا عملهم في منطقة القنال. وكالعادة

أثيرت حملة ضدها، فردت على تلك الحملات بمقال في صحيفة «المصري» في 12 ديسمبر 1951 بعنوان «كتائب بنت النيل» جاء فيه: «أثار البعض حملة على اتحاد «بنت النيل» ورتب هذه الحملة بحيث تنشر في فترات غريبة، وكل شئ في الحياة يخضع للنقد ولكن النقد البرئ يلزم أن يذكر صاحبه الحسنة بجانب السيئة التي يتوهمها، وإلا كان نقدًا مغرضًا تدفع إليه الخصوصيات، وما أصغر النقد أن جاء بدافع خاص، سئلت ما الدافع إلى إنشاء كتائب بنت النيل فذكرت للناس في أكثر مقال وبيان أن المرأة المصرية تطالب بالمساواة المطلقة في جميع الميادين، وأن هذه المطالبة تستوجب منها أداء الالتزامات

أنشأت درية تزامنًا مع أحداث القنال 1951 أول فرقة عسكرية نسائية لإعداد الشابات للنضال

كاملة، وليس هناك في ظروفنا الحالية واجب أكبر وأعظم من الدفاع عن الوطن وبذل النفس والدم، وأنه يجب ألا يحول بين المرأة وبين شرف الجهاد حين يطالبها الوطن بأداء الواجب أي حائل». سارعت درية شفيق بمباركة حركة الجيش في 23 يوليو 1952، وكتبت في افتتاحية مجلة بنت النيل مقالاً بعنوان «نهضة مباركة»، ولم تكن تعلم أن شهر العسل بينها وبين قيادات تلك النهضة لن يدوم كثيرًا ..كتبت في المقال: «لم يشهد الناس قبل اليوم إجماعًا على تأييد حركة من الحركات مثل إجماع أهل مصر على اختلاف طبقاتهم وهيئاتهم على تأييد النهضة المباركة التي قام بها جيش مصر الباسل،

وعلى رأسه منقذ الدستور والمنافح عن حرية الفرد المقدسة سعادة اللواء محمد بك نجيب، وأن المرأة المصرية لتعلن تأييدها الكامل لهذه النهضة المباركة وتعلن استعدادها وجدارتها لتتبوأ المركز اللائق بها في صفوف الأمة خلف الجيش إلى ما فيه عزة الوطن وحريته».
الاعتصام دفاعًا عن حقوق المرأة
وفي 13 يناير سنة 1953 صدر مرسوم بتأليف لجنة لوضع مشروع دستور جديد وانتخبت اللجنة علي ماهر رئيسًا، استمرت تباشر عملها على مدى عام وثمانية أشهر، انقسمت خلالها إلى لجان الفرعية ظلت تجتمع أسبوعيًّا، حتى انتهت في أغسطس 1954 من

عملها وقدمت مشروعها، وهو المشروع الذي لم ير النور.
خلال عمل تلك اللجنة احتجت درية شفيق لعدم وجود امرأة واحدة بين أعضائها، وفي الساعة الثانية عشرة من ظهر الجمعة 12 مارس 1954 وقفت أمام مجلة «بنت النيل» تودع أسرة المجلة، وترد على تساؤل الجميع أنها تعتزم السفر لمدة لم تحدد بعد، اقتنع البعض من أن درية شفيق بالفعل تنوي السفر خارج القاهرة، لكن من يتتبع خطاها وقتها كان يدرك تمامًا أنها لن تترك المعركة وتهرب، فقد كانت تعيش في معركة لا تهدأ أو تستقر، وبالفعل انطلقت سيارة درية شفيق بمفردها إلى حيث اعتزمت حسم المعركة التي نزلت

في يناير 53 صدر مرسوم لجنة الدستور واشتعل الوضع لعدم وجود امرأة واحدة بين أعضائها

إليها تدافع عن حقوق نساء مصر، واستقرت في مقر نقابة الصحفيين، وفي اليوم التالي كانت مانشيتات الصحف «الدكتورة درية شفيق تعتزم الإضراب عن الطعام حتى الموت في سبيل الدفاع عن حقوق نساء مصر في الاشتراك في الجمعية التأسيسية».
احتلت بنت النيل حجرة نقيب الصحفيين وبجوارها حقيبة ملابسها والتليفون الذي ظل جرسه يلاحقها حاملاً عشرات الأسئلة وعبارات التأييد. وفي خلال ساعات امتلأت الحجرة بجموع الزوار وفي مقدمتهم مجلس نقابة الصحفيين الذين جاءوا ناصحين بضرورة العدول عن هذا الإضراب، وفي المساء انفض جمع الزوار، وتخلفت ثمان

سيدات تولت كل منهن إعداد فراش لمبيتها، فقد حضرن بمجرد سماع خبر اعتصام الدكتورة درية شفيق للمشاركة والاعتصام؛ وهن السيدات: راجية حمزة ومنيرة ثابت وفتحية الفلكي وبهيجة البكري ومنيرة حسن وسعاد فهمي وأماني فريد وهيام عبد العزيز.
في اليوم الثاني للإضراب جاء وفد إلى دار النقابة برئاسة على ماهر باشا يصحبه الأستاذ زكي العرابي رئيس لجنة الحقوق المتفرعة من لجنة الدستور، وبعد أن تبادلا التحية مع المضربات نصحهن علي ماهر بتأجيل الإضراب، مؤكدًا أن لجنة الدستور قد قامت بواجبها نحو تقرير حقوقهن في مشروع الدستور الجديد، فردت الدكتور درية: «إن المرأة يجب

درية شفيق، الزعيمة، وسط النساء والفتيات- 1953

درية شفيق، الزعيمة، وسط النساء والفتيات- 1953

أن تكون محامية عن نفسها داخل الجمعية التأسيسية التي ستقر حقوقها. ليخرج علي ماهر ومن معه دون أن يسفر اللقاء عن جديد.
وبعد لقاء علي ماهر أصدرت المضربات بيانًا أرسلن به برقية إلى المسؤولين جاء فيه: «قررنا نحن المضربات عن الطعام المعتصمات بدار نقابة الصحفيين الاستمرار في موقفنا بعزم وتضامن حتى الموت أو تجاب مطالبنا في تمثيل المرأة في الجمعية التأسيسية وفي جميع الهيئات التشريعية». كان لهذا البيان صدى واسعًا، فقد أدى إلى إضراب آخر في الإسكندرية بنادي نقابة الصحفيين في الثغر بقيادة أمينة شكري، ليعود علي ماهر مجددًا إلى دار النقابة في القاهرة

حاملاً بيانًا فياضًا عن تأييده لحقوق المرأة السياسية وثقته من تأييد الجمعية التأسيسية لها كاملة غير منقوصة، واختتم بيانه برجاء فض الإضراب بناءً على توكيدات رئيس لجنة الدستور، لكن بيانه استُقبل بالرفض أيضًا، وفي صباح اليوم التالي حضر فكري أباظة محاولاً إقناعهن بالعدول عن الإضراب، وانتهت زيارته دون جدوى، ويحضر سليمان حافظ في محاولة أخيرة قوبلت بالرفض كذلك.
وفي اليوم السادس من الإضراب صرح محمد نجيب أن المُضربات لم يتقدمن بمطالبهن بشكل رسمي، فأعدت درية شفيق مذكرة رسمية لتسليمها للرئاسة جاء فيها «إن المضربات يطالبن بحقوق

المرأة الدستورية كاملة غير منقوصة، وبضرورة تمثيلها في الجمعية التأسيسية حتى تتاح لها الفرصة في مناقشة الدستور الذي سيحكم به المصريون جميعًا نساءً ورجالاً». ولم ينته الاعتصام إلا بعد أن تلقين وعودًا بأن الدستور الجديد سيحقق للمرأة كل مطالبها وحقوقها السياسية. في ذلك الوقت كانت الصحف قد بدأت هجومها على درية شفيق، ووصفت الاعتصام بأنه أكبر مسرحية هزلية شهدتها نقابة الصحفيين في مصر، كما التقطت المجلات بعض الصور للمضربات وهن يشربن العصائر والسجائر، وعلقت على ذلك «من العبث أن نطلق على هؤلاء السيدات معنى المضربات، فإنهن

الصحف ووصفت الاعتصام بأنه أكبر مسرحية هزلية شهدتها نقابة الصحفيين في مصر

يتحدثن بسرعة 100 كلمة في الدقيقة، والجوع يجرد المرء من كل قوى فما بالك بالكلام»!
ووصل الأمر بأن كتب الصحفي محمد الليثي: «إن واجب الأزواج أن يهددوا المضربات بالطلاق». وكتب موسى صبري مقالاً في 22 مارس 1954 تحت عنوان «لن نخسر شيئًا إذا شيعنا جثث المضربات عن الطعام في موكب جنائزي رهيب»، ونشره في افتتاحية مجلة «الجيل» التي يرأس تحريرها.. كتب: «طلعت علينا هذا الأسبوع زعيمة اتحاد بنت النيل ذات العطر القاتل بتقليعة جديدة فاقت فيها السابقات واللاحقات، عندما تركت بيتها وزوجها وفلذات أكبادها، لتعود إليهم أما جثة

هامدة تقام لها حفل تأبين، أو بطلة منتصرة تقام لها صلوات الشكر والعرفان لأنها أتت بالسبع من ذيله وحصلت للمرأة على حق الترشيح في البرلمان». ويواصل موسى صبري هجومه على درية شفيق «أنني أكتب هذه الكلمات والزعيمة المبجلة في مستشفى قصر العيني، ولا أعلم إن كانت قد عدلت عن بدعة الطعام أو لم تعدل، لكنني أرجو الله ألا تعدل، وعندئذ سأكون أول المتقدمين لتأبينها في حفلة كبرى، داعيًا الله أن تلحق بها زميلاتها المضربات إلى الدار الأخرى، حيث لا برلمان ولا تصويت ولا ترشيح، وإنما نار حامية تكتوي فيها أجسادهن الرقيقة النحيلة الفاتنة». وهكذا وصل الأمر

درية شفيق ومنيرة ثابت في اعتصام النقابات - 1954

درية شفيق ومنيرة ثابت في اعتصام النقابات - 1954

بتمني الموت بل وبدخول جهنم أيضًا، نعم موسى صبري وليس أحد رجال الدين ممن يصفون بأنهم دعاة الجنة والنار، ولم يكتف بذلك بل كتب رجاءً ودعاءً وتحريضًا للدولة بأن تغفل عن هذه الفئة الضالة وتفترض عدم وجودها من الأساس. وفي افتتاحية «بنت النيل» كتبت درية شفيق ردًا على حملات الهجوم «لم يكن إضرابي عن الطعام تظاهرة نسوية خاصة بحقوق المرأة وحدها، وإذا كان بعض الأميين والسخفاء قد حاولوا أن ينالوه بسخريات سمجة أو حملات ماجنة فقد استقبلته الصحافة العالمية كلها بما كان ينطوي عليه من معان أضخم وأعمق حتى من حقوق المرأة نفسها»

طه حسين يرجع للخلف أيضًا
"والمرأة المصرية حين تطالب بما والمرأة المصرية حين تطالب بما تطالب به من الحرية لا تخالف سنة موروثة ولا شيئًا من آدابنا التقليدية المحفوظة، وإنما تطالب بإحياء هذه السنة ورعاية هذه الآداب»
هذه الفقرة من المقدمة التي كتبها الدكتور طه حسين لإنچي أفلاطون عام 1948، واستشهدت بها في أثناء معركتها مع منيرة ثابت، والآن نعود لنذكرها، لأن ما اتخذه طه حسين من موقف ضد اعتصام درية شفيق ينسف كلامه السابق نسفًا، فلم تكن درية شفيق تطالب بأكثر من إحياء السنة التي دعا إليها طه حسين من قبل، لكنه اتخذ

من المضربات ومن قضية المرأة والحرية موقفًا غريًبا تسبب في حالة من السخط والغضب الشديد، لأنه صدر عن إنسان عُرف دومًا بمناصرته للحرية وللمرأة، فقد خرج طه حسين بمقال في صحيفة الجمهورية يوم 16 مارس 1954 بعنوان «العابثات»، وصف فيه إضراب النساء بأنه نوع من الفكاهة والمزاح والدعاية، وصوره بأنه تمثيلية رديئة: «وقد كنت أشكو منذ يومين اثنين في الجمهورية من ضعف التمثيل في مصر، فقد سمع هؤلاء النساء والأوانس مشكورات مأجورات لهذه الشكوى، وكنت أدعو منذ يومين في الجمهورية إلى ترقية التمثيل، فقد استجاب هؤلاء السيدات والأوانس مشكورات مأجورات أيضًا

ناشد موسى صبري الدولة أن تغفل عن هذه الفئة الضالة وتفترض عدم وجودها من الأساس

لهذا الدعاء، وويل للأدباء والكتاب إذا لم يسمعوا لهن ولم يفهموا عنهن، ولم يصوروا هذه الدراما في ألوان من القصص البارعة تعرض على النظارة ما في هذه المأساة المضحكة وما بها من فكاهة حلوة ودعابة مرة وسخف يستخف أعظم وأشدهم حرصًا على الوقار وحزن يفطر القلوب ويغرق النفوس ويفري الأكباد».
ولم يكتفِ الدكتور طه حسين بذلك، بل ذهب ساخرًا من الوصف الذي وُصفت به المضربات وقتها وهو «الصائمات» في إشارة إلى إضرابهن عن الطعام: «والله لا يحب صومًا يتصل في الليل والنهار، والله لا يحب صومًا يقطعه شراب الليمون، والله لا يحب صومًا يراد به

وجه غير وجهه وإن كان وجه الغانيات الحسان».
ثم يتابع طه حسين موقفه الغريب، مستمرًا في التقهقر: «بين هؤلاء السيدات أمهات لهن أبناء وبنات، وعليهن لهؤلاء البنات والأبناء حقوق لا ينبغي أن تضاع، ولهن أزواج وعليهن لهؤلاء الأزواج حقوق لا ينبغي أن تضاع وبينهن أوانس لهن آباء وأمهات وعليهن حقوق لهؤلاء الآباء والأمهات، وعليهن لهذا الوطن حقوق لا ينبغي أن تكون موضوعًا للعبث، وأول هذه الحقوق أن يؤدي الأمهات ما يجب عليهن للأبناء والبنات والأزواج»! الغريب في موقف الدكتور طه حسين هنا أنه تذكر فقط واجب النساء تجاه الأزواج والأبناء

والآباء، ولم يذكر شيئًا عن الحق في التمثيل السياسي والمشاركة في الحياة السياسية للبلد، وهذا ما يتناقض مع مواقفه السابقة وكفاحه الطويل من أجل تعليم البنات وحريتهن، بل إنه لم يتعرض في المقال للأزمة الحقيقية التي من أجلها اعتصمت النساء، بل تعاطى مع الإضراب بسخرية وتهكم.
إحسان يكتب عن الجمعية السرية ودرية شفيق ترد على طه حسين
في يوم 22 مارس 1954 كتب إحسان عبد القدوس بمجلة روزاليوسف واحدًا من أهم مقالاته وهو «الجمعية السرية التي تحكم مصر»، جاء المقال متسقًا مع الحالة السياسية المشتعلة في مصر وقتها والرؤية الضبابية التي عمَّت في

طه حسين تذكر واجب النساء تجاه الأزواج والأبناء والآباء، ولم يذكر شيئًا عن الحق في التمثيل السياسي

البلاد: «من يحكم مصر منذ قيام حركة الجيش؟ إنه مجلس الثورة؟ ماذا تعلم أنت عن مجلس الثورة وما يدور فيه، وماذا يعلم عنه أي مصري سواء كان مقربًا من أعضاء هذا المجلس أو مبعدًا عنهم؟ لا شئ... لا شئ البتة!
إنها جمعية سرية لا تزال كما كانت قبل الحركة تعمل تحت الأرض»!
كان هذا المقال نهاية لشهر العسل بين إحسان عبد القدوس ومجلس قيادة الثورة، أو بالأحرى بينه وبين جمال عبدالناصر، فقد اعتُقل بعده بأيام وظل في السجن ثلاث شهور، وفي نفس العدد الذي كتب فيه إحسان هذا المقال العنيف كان القراء على موعد مع مقالين أعنف؛ يردان على مقال

«العابثات» لطه حسين؛ الأول كتبته درية، والثاني لأحمد بهاء الدين بعنوان «الصائمات».
عنونت درية شفيق مقالها «طه حسين وعجائز الفرح» وبدأته: «كنت وما زلت من أشد الناس إعجابًا بالأديب الكبير الدكتور طه حسين، ومن أكثر الناس اعترافًا بفضله على الأدب العربي وعلى كثير من قضايا الحرية، وعلى الخصوص قضية المرأة المصرية. بل لقد كان إعجابي بالأديب الكبير يحملني في كثير من الأحيان على تلمس الأعذار له بالنسبة لما يصدر عنه في بعض الأحيان من تصرفات يتعذر على الناس تفسيرها في ضوء ما يدعو إليه الكاتب الكبير من مبادئ وما ينادي به من آراء وأفكار،

سأحاول اليوم رغم ما أنا فيه وزميلاتي من محنة كنت أتمنى لو انتظر الأستاذ الدكتور أن تنجلي ليهاجمنا كيفما شاء، سأحاول أن أناقش في هدوء كل ما كتب الأستاذ الأديب عنا مهملة- إذا أذن لي سيادته أن استعمل هذا  التعبير- ما جاء في كتاباته من جارح اللفظ».
ثم تبدأ درية شفيق في الرد على جميع النقاط التي تحدث عنها طه حسين، وتبدأ باتهامه للنساء المعتصمات بالبحث عن شهرة رخيصة وأن موقفهن عبارة عن تمثيل في تمثيل: «أعتقد أنه لو أمعن الدكتور النظر في موقفنا لاتضح له أن عملنا لا يمكن أن يوصف بالعبث في موضع الجد، بل إنه جاء في ميعاده ما دام الأستاذ نفسه يعترف أن مصير

كان المقال نهاية لشهر العسل بين إحسان عبد القدوس ومجلس قيادة الثورة

الشعب موضوع الأخذ والرد هذه الأيام، فزميلاتي لم يقررن معي وقوف هذا الموقف لا دفاعًا عن حرية المرأة كجزء من حرية الشعب بل قررنا أن نقف موقفنا في هذه الأيام بالذات لعلمنا بأن حريات الشعب كلها محل الأخذ والرد، فرأينا أن أنسب الأوقات لإبداء رأينا وسماع صوتنا عاليًا مدويًا هو بالذات أيام الأخذ والرد في حريات الشعب وحقوقه، فكيف يمكن أن يفسر موقفنا بأنه عبث في موضع الجد؟ وكيف فات الدكتور الأديب أن من يدافع عن حرية المرأة وحقها في تقرير مصيرها إنما يدافع عن حرية الشعب بأكمله وحقه في تقرير مصيره».

عجائز الفرح
واصلت درية الرد على طه حسين واصفة موقفه بالصمت غير المبرر، وأنه يحاول تثبيط عزيمة المجاهدين: «إنه ليؤلمني أن أقرر أن الجليل يريد منا أن نلجأ إلى التظاهر والعنف في هذه الظروف الدقيقة التي تجتازها البلاد؟ أما عن البحث عن الشهرة الرخيصة فهذه تهمة رخيصة لا أعني بالرد عليها إذ لست وزميلاتي في حاجة إلى مزيد من الشهرة غلت أو رخصت حتى يتصور أن نتهم بمثل هذا الاتهام، وليسمح لي الأستاذ الدكتور أن أقرر أنني إذ كنت قد اعتدت أن أتغاضى عن كل من سبق أن اتهمني بمثل هذه الاتهامات فأنني لا أستطيع السكوت عنها إذا صدرت عن

عجائز الفرح.. هكذا عنونت درية شفيق مقالها التي ردت فيه على هجوم طه حسين على المضربات!

عجائز الفرح.. هكذا عنونت درية شفيق مقالها التي ردت فيه على هجوم طه حسين على المضربات!

سيادته، ولتفسير قولي أرجو أن يأذن لي بالرجوع إلى الوراء قليلاً، فإذا سمح الدكتور نفسه أن يسمي موقفنا تمثيلاً فكيف يسمي إذن موقف الشخص الذي عندما كان بعيدًا عن مقعد الحكم والسلطان تكلم عن المعذبين في الأرض وأسهب في الكلام حتى ما إذا قفز به كلامه إلى مقعد الحكم والسلطان اندفع يمدح الطاغية والطغيان ويرفعه في العبث الحقيقي في ألا يكتفي الدكتور الجليل بالسكوت والتزام الصمت، وألا يقنع بمقعده في مؤخرة صفوف المتفرجين بل يحاول أن يثبط عزيمة المجاهدين في سبيل تمتع الشعب رجالاً ونساءً بحرياته كاملة غير منقوصة، فموقف الدكتور منا أقرب ما

يكون إلى ما نسميه نحن معشر النساء موقف عجائز الفرح.. أما عن اعتراض الدكتور على الطريقة التي اخترتها وزميلاتي، فإنه يكفي أن أسأل الدكتور ماذا كان يريد منا أن نفعل حتى يحس القوم أننا جادات في دعوتنا؟ لقد كتبنا حتى كلت أقلامنا وتكلمنا حتى بحت أصواتنا وما من سميع أو مجيب، فهل كان الأستاذ أيامه إلى مصاف الآلهة والقديسين، فهل يذكر الدكتور تمثيلاً أبدع من هذا التمثيل؟خصوصًا إذا صدر عن شخص يجعله مركزه الرسمي المرموق القدوة الصالحة والمثل الذي يحتذى لشباب هذا البلد وصدر عنه من منبر أعلى منارة للعلم والخلق في مصر، ألا يعتقد أستاذنا الجليل أن مثل

هذا الشخص يستحق عن جدارة لا ينازعه فيها لقب الممثل الأول في مصر؟».
ثم تختتم مقالتها بالتلميح إلى أن طه حسين يكتب بناءً على أوامر من سلطات حاكمة أو إرضاء لها «إنني اعترف للأستاذ الدكتور بأنني وأن كنت قد تعودت تلمس الأعذار له في كثير من الأحيان أجد نفسي اليوم عاجزة تمام العجز  عن تفهم الأسباب التي حملته على كتابة ما كتب عن زميلاتي وعني، اللهم إلا إذا صح التفسير الذي تطوع به بعض الناس من أن ما كتبه الدكتور كان استجابة لرجاء أو طلب بعض من أصبح لا يرفض له رجاء أو يرد له طلبًا».

تختتم درية ملمحة إلى أن طه حسين يكتب بناءً على أوامر من سلطات حاكمة أو إرضاء لها..

أحمد بهاء الدين يكتب عن الصائمات
في نفس العدد الذي كتبت فيه درية شفيق مقالها، كتب أحمد بهاء الدين في نافذة «حاول أن تفهم»، مقالاً بعنوان «الصائمات» معاتبًا الدكتور طه حسين وصفه إضراب النساء بالعبث: «حتى طه حسين صاحب الدفاع القديم عن حق الفتاة في دخول الجامعة وصف صيام السيدات بأنه عبث! ووجد الكثيرون في هذا الإضراب فرصة للفكاهة وإطلاق النكات، وهاجم آخرون الصائمات لأنهن يضعن التواليت وقال غيرهم إن الصائمات أكثرهن من بنات الذوات لا يمثلن المرأة المصرية، ولكني أعتقد أن الأغلبية الساحقة من المواطنين قد هز ضمائرهم أن يعرض

لسيدات أنفسهن لتجربة أقسى شعور عرفه البشر وخافوه وعملوا منذ بدء الخليقة على تجنبه وهو: الجوع… ولا أظن أن درية شفيق وصاحباتها قصدن بالصيام إلى إرغام الحكومة إرغاما مباشرًا على إعطاء المرأة حقوقها، ولكنهن قصدن إلى إثارة الاهتمام الجدي بهذه القضية في هذا الوقت بالذات وفي حدود هذا الهدف نجح الصيام، ومن يدري؟ لعلهن محتاجات  إلى معاودة الصيام مرة أخرى ومرات وإلى أن يكون الصائمات في المرات المقبلة بضعة مئات».

طه حسين يتجاهل درية ويرد على إحسان
في العدد التالي من مجلة «روزاليوسف»، الصادر يوم 29 مارس 1954 أكمل إحسان عبد القدوس الكتابة عما هو أخطر من الجمعية السرية؛ فقد كتب مقالاً بعنوان «مصير الثورة ومصير رجال الثورة» وجاء فيه أن جمال عبد الناصر أو أي ضابط من مجلس قيادة الثورة لو ترشح الآن في انتخابات نيابية أمام حزب الوفد سيخسر، وأنه أخبر عبد الناصر أن عليه أن يخرج من الحكم ومن الجيش إلى صفوف المعارضة والأقلية ثم يكوِّن شعبية ليفوز من خلالها بالأغلبية. كان هذا آخر ما كتب إحسان قبل الاعتقال

وجد الكثيرون في الإضراب فرصة للفكاهة وإطلاق النكات

الذي دام ثلاث أشهر، وفي نفس العدد نشر الدكتور طه حسين ردًا عنيفًا على صفحتين كاملتين، عبارة عن رسالة موجهة إلى رئيس التحرير، متجاهلاً تمامًا ذكر اسم درية شفيق وأحمد بهاء الدين: «سيدي الأستاذ رئيس التحرير، قرأت في العدد الأخير من صحيفتكم الغراء كلامًا طويلاً أضيف إلى من لم تكتبه وما أرى أنها فهمته حق الفهم، زعم كاتبه أنه يرد على ما كتبت عن الصائمات بغير موجب للصيام والمفطرات بغير مقتض للإفطار وما أحب أن أقف عند كثير مما جاء في ذلك الكلام، فقد أمرنا أن نمر باللغو كرامًا،  كما أمرنا إذا خاطبنا الجاهلون أن نقول سلامًا.. وإنما أقف عند شيئين

اثنين أحب أن أجلو فيهما وجه الحق ليعلم الجاهل ويتنبه الغافل ويفهم المستبصرون، وأحد هذين الشيئين ما زعم الكاتب ما أني لم أكتب ما كتبت عن العابثات إلا استجابة لرجاء من تعودت ألا أرد لهم رجاءً ولا طلبًا فى هذه الأيام، وأحب أن أعرف من عسى أن يكون هؤلاء الذين لا أرد لهم رجاءً ولا طلبًا؟ فلست أعرفهم وما أرى أنك تعرفهم أيضًا، وأن الذين يعرفوني من قرب أو من بعد ليعلمون حق العلم أن الله لم يخلق بعد إنسانًا يستطيع أن يفرض على ما لا أحب، وأن يضطرني إلى ما لا أريد، فالحياة كلها أهون من هذا وأيسر خطرًا، وما عرفت أني استجبت قط في أمر من الأمور لغير ما أردته

متعمدًا له قاصدًا إليه مقدمًا عليه عن رأي واضح في نفسي وبصيرة صادقة في ضميري غير حافل بعواقبه مهما تكن. وما أظن أن الذين يشير إليهم من رجال الحكم والسلطان فارغون لمثل هذا السخف، وما أرى إلا أنهم مشغولون عن صوم الصائمات وإفطار المفطرات ونقيق الضفادع وطنين الذباب بما هو أعظم من هذا كله خطرًا وأنفع منه لهم وللناس، وأما الشيء الثاني فالناس جميعًا يعلمون أني كنت وزيرًا للمعارف في يوم من الأيام وأني خطبت أمام فاروق في مواطن لم يكن بد من أن أخطب فيها، والناس جميعًا يعلمون أن الوزراء ما كانوا  ليخطبوا أمام فاروق فيعيبوه ويذموه ويدلو الناس ويدلوه

طه حسين: ما أظن أن الذين يشير إليهم من رجال الحكم والسلطان فارغون لمثل هذا السخف

على ما كان يتورط فيه من طغيان وما كان يقترف من آثام. وأنا لم أكسب لنفسي من فاورق مالاً ولا جاهًا، يتورط فيه من طغيان وما كان يقترف من آثام. وأنا لم أكسب لنفسي من فاورق مالاً ولا جاهًا، فقد كنت غنيًّا عن ماله وجاهه، وإنما كسبت لمصر ما نفع أهلها في حياتهم الداخلية فأباح لهم التعليم ويسر لهم أمورهم».. يختتم طه حسين مقالته بتوجيه نصيحة طالبًا من إحسان أن يوصلها إلى السيدة كاتبة المقال دون ذكر اسمها: «والزملاء الصادقون الذاكرون يشهدون أني لم أقبل يد فاروق والله يشهد ما قبلت يد فاروق ولا يد أبيه ولا يد عمه ولا يد ابن عمه حين كان أميرًا لمصر ولا يد ملك من الملوك

الذين لقيتهم قط، والله يشهد ما قبلت يد أحد من الناس إلا أن تكون يد أبوي أو يد بعض شيوخنا في الأزهر رحمهم الله.. لا أستثنى يد سيدة أجنبية كانت ترفع يدها إذا لقتني في بعض المحافل فتلصقها بشفتي إلصاقًا.. وأضحك من ذلك إن شئت وأعبث به إن أحببت فليس عليك في الضحك والعبث جناح.. أما بعد فإني أشكر لكاتب ذلك الكلام الطويل أن أتاح لي فرصة قلت فيها ما قلت وأرجو أن تتضح للسيدة التي أمضت ذلك الكلام أن تحسن اختيار الذين يكتبون عنها.. وتقبَّل أصدق تحياتي»..
هكذا ختم طه حسين مقاله!

بريد التابعي يشارك في حملة الهجوم!
انتهت رسالة طه حسين الغاضبة ولم ينته موسم الهجوم على درية شفيق، لنجد أن الأستاذ محمد التابعي لم يختر للنشر في نافذته الأسبوعية «بريدي» بمجلة آخر ساعة سوى رسالة موجهة ضد الاعتصام، تنضح بأفكار أقل ما يقال عنها إنها رجعية. والمفارقة أن أفكارها تشابهت كثيرًا مع مقال «العابثات»؛ فقد قرر القارئ الفاضل الذي أرسل رسالته للتابعي أن المرأة ليس لها إلا زوجها وبيتها وأولادها. نشر التابعي الرسالة، التي وقعها شخص يدعى محمد عبد السميع ولم يعلق عليها بكلمة واحدة، كأنه مُقر بما فيها وهو التالي: «خرجت الصحف بنبأ عجيب

اختتم طه حسين مقالته بنصيحة طالبًا من إحسان أن يوصلها للسيدة كاتبة المقال دون ذكر اسمها!

من اعتصام رئيسة إحدى الجمعيات النسائية المحلية وبعض السيدات أعضاء الجمعية وإضرابهن عن الطعام حتى تمنح المرأة حقوقها السياسية وإلا… فالإضراب عن الطعام حتى الموت الزؤام، ومثار العجب هنا هذا الإصرار العجيب من جانب المرأة على المطالبة بمساواتها بالرجل في الحقوق السياسية برغم إجماع آراء كثير من الهيئات والمفكرين على عدم صلاحية المرأة، والمصرية بالذات، للمجال السياسي، ولقد أثيرت هذه المطالب في عهود سابقة وكانت تثير العجب والحسرة والأسف في نفس العاقلين المدركين من الجنسين ونشرت الصحف مقالات لسيدات فاضلات يعارضن فيها

مطالب المرأة السياسية وينصحن بنات جنسهن بأن مكانهن الطبيعي أولاً وأخيرًا هو البيت، وأنه لا يمكن أن تجمع المرأة بين البيت والعمل، فلا بد أن تفشل في أحدهما إن لم يكن في كليهما"!
وعندما أعلن جمال عبد الناصر في بداية عام 1956 الانتهاء من الدستور الذي يعطي للمرأة حقوقها السياسية كاملة للمرة الأولى في التاريخ زادت موجة الهجوم على درية، ولم تكن الصحف في حاجة لاسم وهمي للهجوم عليها كما حدث سابقًا مع إنچي أفلاطون، فتصدى لها هذه المرة الكاتب المعروف أحمد رجب، الذي كان وقتها شابًا يشق طريقه في الصحافة..

وفي مجلة الجيل كتب مقالاً تحت عنوان «الزعيمات العاطلات.. البحث عن عمل للزعيمات بعد الدستور» جاء فيه: «الزعيمة الأنيقة درية شفيق حزينة جدًا هذه الأيام بعد إعطاء المرأة حقوقها السياسية، فلقد أصبحت الزعيمة عاطلة تعاني البطالة بعد أن أصبح صراخها غير ذي موضوع، فدرية شفيق كانت تحترف الصراخ والصوات على حقوق المرأة الضائعة لا غيرة على حقوق المرأة، ولكن لاستعراض الأوضاع أمام عدسات الصحف وترديد اسمها على الناس في الليل والنهار، فالزعيمة كان هدفها الوحيد في الحياة أن تكون في شهرة الكوكاكولا، ولم يكن هدفها أبدًا إعطاء المرأة حقوقها السياسية»،

إنچي أفلاطون:لصالح من تصف درية شفيق الحكم الحالي في مصر بأنه ديكتاتورية ستقود البلاد حتما إلى الفساد والإفلاس؟

ويتابع أحمد رجب وصلة الهجوم «ولسوف يعز جدًا على الزعيمة العاطلة ألا تتحدث عنها الصحف بعد اليوم، وأغلب الظن أنها ستأتي بحركات مسرحية جديدة من حركاتها التي تثير الضحك والأعصاب في وقت واحد حتى توهم الناس بأنها لم تصبح عاطلة.. ومع ذلك وصدقوني سوف تستمر الزعيمة العاطلة في صراخها في الفاضي والمليان حتى تثبت وجودها على صفحات الصحف فقط طبعًا، وهو صراخ لن يجدي، لأن الزعيمة سوف تحال إلى المعاش شاءت أم أبت، لأن التطور التشريعي الجديد في مصر أكثر وعيًا من الدكتورة الأنيقة التي تنحصر أهدافها الرئيسية في أن تكون في شهرة

مارلين مونرو... أنا أرشح الزعيمة العاطلة – بعد إعطاء المرأة حقوقها السياسية – لكي تعمل مانيكان فلقد رأيت درية شفيق مرات عديدة تستعرض الأوضاع أمام زملائي المصورين وأقسم بالله العظيم أن حركاتها ولفتاتها الرشيقة لا تقل جمالاً عن حركات ولفتات بنات كريستيان ديور وماجي روف».
إنچي أفلاطون تصدر بيانًا ضد درية
في يوم 7 فبراير 1957 أصدرت درية شفيق بيانًا حرصت على توزيعه على وكالات الأنباء العالمية، وتركت بيتها متوجهة إلى سفارة الهند طالبة منها الحماية، وقررت الإضراب عن الطعام حتى الموت، وقد قسمت مطالبها إلى

قسمين؛ قسم موجه للعالم الخارجي، والآخر إلى النظام المصري. فطالبت السلطات الدولية أولاً العمل على انسحاب القوات الإسرائيلية فورًا من الأراضي المصرية، وثانيًا الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية. أما مطالبها من النظام المصري فكان رد الحرية التامة لجميع المصريين، ووصفت حكم جمال عبد الناصر بالدكتاتور، وطالبت بإنهاء الحكم الديكتاتوري الذي يسير بالبلاد إلى الإفلاس والفوضى. أوردت في بيانها ما نصه: «إنني إذ أقدم على التضحية بحياتي لتحرير بلادي أتحمل وحدي مسؤولية هذا العمل». وفى ذلك كتبت أمينة السعيد «دخلت درية شفيق السفارة فجأة ودون إنذار

الصحيفة الألمانية «دي فيلت» خرجت بعنوان: «امرأة من وادي النيل ترفع راية المقاومة ضد عبد الناصر»

مسبق، وأعلنت عزمها الإضراب عن الطعام حتى الموت إذا لم يتنح الرئيس عن الحكم.. ولحظة وصولها، كان بهو السفارة يعج بالصحفيين الأجانب الذين اتصلت بهم قبل وصولها». وصرَّح السفير الهندي «جاءت إلى السفارة وهي تحمل في يدها مصحفًا كبيرًا». وبناءً على نصيحة زوجها نور الدين رجائي والتماسات ابنتيها عزيزة وجيهان واطمئنانها إلى تدخل نهرو نقلوها إلى مستشفى عبد الوهاب مورو في سيارة تابعة للسفارة الهندية، واستمرت في الإضراب لمدة 11 يومًا. وفي 17 فبراير حملوها إلى بيتها وتحت ضغط الأسرة أنهت إضرابها». أشعل ما فعلته درية شفيق الإذاعات الأجنبية ضد

جمال عبد الناصر، وأفردت الصحافة الأجنبية مساحات واسعة لتغطية إضرابها ومطالبتها بإنهاء الدكتاتورية في مصر، وخرجت «لندن تايمز» بعنوان «المدافعة المصرية عن حقوق المرأة تضرب عن الطعام في السفارة الهندية».
أما الصحيفة الألمانية «دي فيلت» فخرجت بعنوان «امرأة من وادي النيل ترفع راية المقاومة ضد عبد الناصر». ووصفت إذاعة مونت كارلو درية شفيق بأنها «الرجل الوحيد في مصر»! كانت الظروف الداخلية والخارجية مختلفة هذه المرة عن اعتصام مارس 1954؛ داخليًّا الأمور غير محسومة والرؤية لا تزال ضبابية، والمطالب واضحة وضوح الشمس ويؤيدها

درية شفيق ورفيقاتها المضربات عن الطعام، مطالبات بمطالب داخلية وخارجية في فبراير 1957

درية شفيق ورفيقاتها المضربات عن الطعام، مطالبات بمطالب داخلية وخارجية في فبراير 1957

قطاع كبير من الناس، فتناولت الصحف المصرية اعتصام المضربات ما بين مؤيد ومعارض وما بين داعم وساخر، وكانت صور النساء المضربات تملأ الصحف والمجلات. لكن عام 1957 كانت الأمور مختلفة والغريبة أن درية شفيق لم تفطن إلى الاختلاف في الظروف الداخلية والخارجية، فقد استتب الأمر لجمال عبد الناصر وأصبحت سلطته مطلقة وشعبيته جارفة بعد تأميم القناة وانسحاب العدوان الثلاثي، فلم تكتب الصحف المصرية حرفًا، ولم يصل إلى درية صحفي مصري واحد، وما ساعد على التكتم أن الاعتصام هذه المرة كان فرديًّا؛ فلم يكن معها أحد، حتى عندما خرجت من السفارة

وذهبت للمستشفى لم يزرها سوى السيدة راجية رجب؛ زميلتها في اتحاد بنت النيل.
مجددًا تظهر إنچي أفلاطون في مواجهة درية شفيق، لتكتب عن موقف درية: «أعطت للعالم انطباعًا بأن كل النساء المصريات يعارضن عبدالناصر، وسمعت سفارات أجنبية عديدة تقول إن المرأة المصرية عظيمة وأنها تقف في وجه عبد الناصر، وبما أن الأوروبيين والفرنسيين والإنجليز والأمريكان كانوا جميعًا يقفون ضده لم يكن ثمة داع لفتح جبهة جديدة ضده، إسرائيل ما زالت تحتلنا، فاستجبنا فورًا وقدمنا عريضة نشرح فيها أن درية شفيق لا تحظى بتأييد كل النساء المصريات وأرسلناها إلى وكالات

الأنباء بالخارج».. وبعد مشاورات تمت بين سيزا نبراوي وچاكلين خوري وإنچي أفلاطون بادرن بكتابة عريضة بعنوان: «نساء مصر يستنكرن بيان درية شفيق» ووقَّع على البيان عدد كبير من قيادات الجمعيات النسائية والشخصيات المستقلة في مصر وصل عددهن إلى سبعة وعشرين امرأة يمثلن أكثر من عشر تنظيمات نسائية ونقابية، وجاء فيه: «في يوم 7 فبراير أعلنت السيدة درية شفيق إضرابها عن الطعام حتى الموت: في هذه الظروف الصعبة التي تعيشها مصر تناشد السلطات الدولية التدخل بغية ضمان الانسحاب الإسرائيلي من كافة الأراضي العربية والتوصل إلى حل عادل ونهائي لمشكلة

توسلت السيدة درية شفيق إلى السلطات الداخلية أن تعيد لكل المصريين حريتهم

اللاجئين الفلسطينيين".. ثم توسلت السيدة درية شفيق إلى السلطات الداخلية أن تعيد لكل المصريين حريتهم وأن تضع حدًا للحكم الديكتاتوري الذي سوف يؤدي ببلادنا إلى الإفلاس والفساد، وأخيرًا تؤكد أن إضرابها مبادرة شخصية محضة، وأنها على استعداد للتضحية بحياتها من أجل حرية بلادها. ونحن نساء مصر نعرب عن دهشتنا لما أعلنته السيدة درية شفيق كما ندين بشدة هذا التصرف الذي يضير بسمعة الحركة النسائية في الخارج، ونسارع بالقول إن حركتنا النسائية دخلت مرحلة جديدة منذ ثورتنا القومية عام 1952 ومنذ نالت المرأة المصرية حقوقها السياسية كاملة بمقتضى الدستور الجديد،

وحركتنا النسائية حركة شعبية بعيدة كل البعد عن الاتجاهات الفردية القائمة على الدعاية الشخصية والتي اتسمت بها الحركات النسائية قبل الثورة، وثمة ما يشير إلى أن السيدة درية شفيق عزلت نفسها عن الحركة النسائية الحديثة وعن سائر النساء المصريات، وأنها تعترف بعزلتها هذه من خلال بيانها الذي قالت فيه :"أنا وحدي أتحمل مسؤولية هذا العمل، وأنا وحدي أتحمل مسؤولية هذا التصرف" ونحن نسأل السيدة درية شفيق عما دعاها إلى الإدلاء بمثل هذا البيان في هذا التوقيت بالتحديد، ومصر وبلاد عربية عديدة تواجه خطر التفكك بسبب القوى الأجنبية وبينما مصر

والبلدان العربية تواجه مخططات الاحتلال، تلك المخططات التي تهدد تضامن شعب مصر والشعوب العربية حتى تيسر للمحتل أن يستعبدنا ويخدعنا. ونحن نسأل السيدة درية شفيق ما تقصده عندما تشير إلى "السلطات الدولية" عندما تتحدث عن مطلبها بالانسحاب الفوري للقوات الإسرائيلية من الأراضي المصرية، هل هى تتوجه إلى الأمم المتحدة؟ وفي هذه الحالة ألا تعرف أن الأمم المتحدة أدانت العدوان الإسرائيلي بالإجماع وطلبت من إسرائيل الانسحاب ولم يخرج على الإجماع سوى إسرائيل وفرنسا؟ هل تؤمن السيدة درية شفيق حقًّا بأن إضرابها عن الطعام سيكون

ألم يرفض العرب بل واللاجئون أنفسهم أن تقتصر القضية الفلسطينية على كونها مشكلة لاجئين؟

أكثر فعالية من الأمم المتحدة في إجباره إسرائيل على الانسحاب؟ ونسأل درية شفيق أيضًا، على أي أساس تطالب بحل نهائي وعادل لمشكلة اللاجئين العرب؟ ألم يرفض العرب بل واللاجئون أنفسهم أن تقتصر القضية الفلسطينية على كونها مشكلة لاجئين؟ ولمصلحة من تفعل السيدة درية شفيق ما تفعل؟"
والسيدة درية شفيق التي لا تمثل سوى نفسها لصالح من تصف الحكم الحالي في مصر بأنه ديكتاتورية ستقود البلاد حتما إلى الفساد والإفلاس؟ هل تعتبر السيدة درية شفيق أن سياسة حكومة مستقلة سياسة حكومة حررت اقتصادها من السيطرة الأجنبية هى سياسة تقود البلاد نحو الإفلاس

درية شفيق- نقلا عن  مجلة الجيل 1954

درية شفيق- نقلا عن مجلة الجيل 1954

والفساد؟ هل تدرك السيدة درية شفيق أن محطات الإذاعة الأجنبية في إسرائيل وفي الدول الاستعمارية استخدمت نفس العبارات فاستثارت غضب الأمة المصرية رجالا ونساءً فدعمت تضامنهم مع حكومة جمال عبد الناصر المستقلة؟ ألم يكن من الأفضل لو أن السيدة درية شفيق أعربت عن اهتمامها بحرية بلادها بالانضمام إلى اللجان النسائية التي تقاوم الغزو الأجنبي في بورسعيد؟ ولكنها فضلت أن تنعزل. فماذا فعلت السيدة درية شفيق من الناحية العملية كي تضحي بحياتها كلها من أجل حرية بلادها؟ أين التضحية؟ أين قلقها على الديموقراطية الضائعة التي تدعي غيابها؟ أليست هى نفس النغمة التي

ترددها إسرائيل ومعها القوى الأخرى؟ الموضوع مجرد لعبة تلعبها القوى الاستعمارية لتصرف الأمة عن نضالها الحقيقي. هل سمحت لنا القوى الاستعمارية بفرصة نعالج فيها مشاكلنا الداخلية؟ نريد للسيدة درية شفيق أن تطمئن على مصير الديمقراطية في مصر ونؤكد لها أن الأمة المصرية حريصة على تأمين الديمقراطية في ظل الدستور الجديد. وثمة فارق محسوس بين الديمقراطية التي تطالب بها محطات الإذاعة الأجنبية وبين الديمقراطية التي تؤيدها أمة موحدة ومستقلة ومعها ومعها حكومتها، وأخيرًا فإن العالم أجمع شاهد إضراب السيدة درية شفيق عن الطعام حتى الموت كما قالت، ورآه وهو

طردها زملاؤها من اتحاد بنت النيل، وحددت الشرطة إقامتها في بيتها، لتدخل درية شفيق في عزلة طويلة انتهت بانتحارها

ينتهي بعد 48 ساعة بإرسالها إلى مستشفى مورو لتعالج بالجلوكوز، لقد عادت إلى بيتها مواطنة حرة، رغم أن تصرفها أضر بمصالح بلادها وبالمرأة المصرية، ما هو إذن نوع الحرية التي تبحث عنه؟».
انتهى البيان هنا..
وفي يوم 28 فبراير طردها زملاؤها من اتحاد بنت النيل، وحددت الشرطة إقامتها في بيتها، وفي يوليو 1957 صادرت الشرطة أعداد مجلة بنت النيل وأغلقت المجلة إلى الأبد، لتدخل درية شفيق في عزلة طويلة بعد حياة ثرية ونشاط كبير؛ ونشاط اجتماعي وسياسي دام نحو ثلاثين عامًا؛ منذ عام 1928 عندما وقفت للمرة الأولى إلى جانب

هدى شعراوي على مسرح الأزبكية وألقت كلمة في تأبين قاسم أمين، حتى مأساة انتحارها في 20 سبتمبر 1975.

اقرأ أيضاً

البحث عن كمال الشاذلي موديل ٢٠٢٥

البحث عن كمال الشاذلي موديل ٢٠٢٥

زهران ممداني في القاهرة ٢٠١٣

زهران ممداني في القاهرة ٢٠١٣

رئيس مسجون وصحفي مات في حفلة تعذيب

رئيس مسجون وصحفي مات في حفلة تعذيب

زهران… فاصل بين هزائم يومية

زهران… فاصل بين هزائم يومية

الحب والطبقة في زمن تحرير المرأة 

الحب والطبقة في زمن تحرير المرأة 

القاهرة بين سيدتين

القاهرة بين سيدتين