كيف حاولت تحية كاريوكا تحقيق حلمها المفقود بالأمومة عبر محاولات عديدة لتبني طفلين من أطفال مستشفى أبو الريش؟
ولماذا وقفت الدولة ضدها ومنعتها بكل الطرق من الوصول إلى هدفها، بدعوى أنه لا يليق أن تربي راقصة الأطفال؟ وماذا كانت ردة الفعل على ذلك شعبيًّا وفي داخل الوسط الفني؟
في السابع من نوفمبر عام 1953 نشرت الصحف على صفحاتها الأولى أخبار القبض على الفنانة تحية كاريوكا، جاء مانشيت صحيفة أخبار اليوم على سبيل المثال: "العثور على أوراق خطيرة ومنشورات في شقة تحية كاريوكا"! صارت القضية وقتها حديث الناس، وظلت تحية كاريوكا في السجن 101 يومًا..
وكانت معها في السجن زوجة الكاتب الصحفي صلاح حافظ، التي كانت حاملاً ولاحقًا أطلقت على مولودتها اسم تحية، وكانت معها أيضًا ماجدة زوجة الشاعر كمال عبدالحليم، وماري زوجة سعد كامل، وسميرة زوجة النائب البرلماني أحمد طه؛ شقيق الشهيد عبد القادر طه الذي قتله الملك فاروق، وكتب عنه يوسف إدريس قصته الشهيرة "5 ساعات".
أشيع بعد ذلك أن تحية كاريوكا كانت قد وصفت مجموعة الضباط الأحرار بــ"الفواريق"، حين قالت: "ذهب فاروق وجاء بعده فواريق"..
لكن هذه العبارة لا تخص كاريوكا وحدها، فقد كانت تتردد بين بعض من معارضي حركة الجيش آنذاك، وعلى الأرجح شاعت بين العامة في حينها، ثم نسبت إلى تحية كاريوكا أو رددتها مثلهم وألصقت بها، فقد حدث ووقع بين يدي خطابًا كتبه طالب إلى والده في بداية عام 1954 يصف به حال البلد فكتب:
"أحدثك عن أخبارنا الداخلية والخارجية لترى أعمال الفواريق الذين يحكمونا هذه الآونة بدل فاروق السابق..".
وفي فترة سجنها، نفذت تحية كاريوكا أول تجربة إضراب عن الطعام من أجل منع التعذيب في السجون.
خطاب أحد العامة إلي والده
بعد تجربة السجن بعام بالتمام؛ وتحديدًا في 22 ديسمبر 1954 كانت انتخابات نقابة ممثلي المسرح والسينما حدثًا في تاريخ الفن كله، وعلامة من علامات الوعي بحق المرأة في المساواة، فللمرة الأولى تحصل امرأة على أكثرية نتائج انتخابات أجريت في حرية، وأشرف عليها مدير مكتب العمل وثلاثة من زملائه ولجنة من أربعة ممثلين، لتفوز تحية كاريوكا على 25 رجلاً، بأغلبية الأصوات، وجاءت أسماء الفائزين حسب ترتيب الأصوات كما يلي: تحية كاريوكا، أحمد علام، يوسف وهبي، كمال الشناوي، حسين عيسى، محمود المليجي، سراج منير..
حسين رياض، سليمان نجيب، سعد أردش، محمود إسماعيل.
وعندما تبيَّن أن اسم تحية كاريوكا لا تخلو منه ورقة انتخابية هتفوا لها، فبكت وهي ترد تحيتهم.
وفي أول اجتماع للجمعية العمومية اقترحت إنشاء صندوق لليتامى من أولاد أهل الفن، واستقبل الأعضاء اقتراحها بترحاب، وبالفعل بدأت في جمع تبرعات، وكان الفنان كمال الشناوي أول المتبرعين بخمسين جنيها.
في شهر مارس 1956 كانت مصر تحتفل للمرة الأولى بعيد الأم، الذي اختير له يوم 21 مارس، وهو بداية فصل الربيع، لذلك كانت الاحتفالات بطقوس مختلفة تليق بأول عيد أم يحتفل به المصريون، وعلى سبيل المثال فقد واجهت "دار تربية الشابات بالجيزة" هذا الاحتفال بطريقة جميلة، وهي أن تبحث الدار عن أمهات ليوم واحد، تبدأ أمومتهن في الصباح وتنتهي مع قدوم الليل، ليشعر اليتيم ليوم واحد بقلب يعطف عليه، وبالفعل نجحت التجربة..
حتى إن إحدى الأمهات قالت:" أنني لم أكن أمثل أمامهن دور الحنان، بل أحببتهن من كل قلبي، ولا مانع عندي في أن أتبادل معن الخطابات والصور والهدايا، بل لن أتردد في أن أخذ إحداهن معي لتمكث يومًا أو يومين إذا سمحت بذلك إدارة الدار بذلك".
لكن يبدو أن الدولة تسمح بالتبني ليوم واحد، ولا تسمح للتبني طوال العمر، وهو ما حدث مع تحية!
في شهر مارس 1956، وتزامنًا مع احتفالات عيد الأم، وبعد أقل من عامين من انتخاب تحية كاريوكا عضوًا في مجلس إدارة نقابة الممثلين، واقتراحها بإنشاء صندوق ليتامى أولاد الفنانين، ذهبت بدافع عاطفة الأمومة إلى مستوصف أبو الريش كي تتبنى طفلاً، واستقبلت في المستشفى استقبالاً حسنًا، وراحت تتفقد الأطفال اللقطاء، وعند الطفل رقم 1120 وقفت وأطالت الوقوف، كان الطفل في الشهر السابع اسمه محمود، جاءت أمه إلى المستوصف لتلده، وبعد ولادته بستة أيام اختفت، بحثوا عنها في كل مكان فلم يعثروا لها على أثر..
فأعطى رقمًا وأصبح بلا أهل. قررت تحية أن تكون أمًا له، ثم توقفت أيضًا عند طفلة صغيرة في الشهر الخامس، اسمها زينب وتحمل رقم 11228، ثم انتهت تحية كاريوكا من الاختيار: محمود و زينب.
وحين سألت عن الإجراءات المطلوبة لينتقل الطفلان إلى بيتها، أخبروها أن المطلوب شهادة حُسن سير وسلوك، موقعًا عليها من اثنين من الموظفين العموم، لا تقل مرتباتهم عن عشرين جنيهًا، وشهادة من قلم السوابق تثبت خلوها من السوابق!
تغطية مجلة صباح الخير لرغبة تحية في تبنى طفل
قالت تحية إنها تستطيع تقديم الشهادة الأولى، أما الشهادة الثانية فثابتة في ملفها في نقابة المهن التمثيلية، فلا يمكن أن تقبل عضوة في النقابة ما لم تكن خالية من السوابق، وأصرت إدارة المستشفى على الطلب، وفي اليوم التالي ذهبت تحية لتقف في صف طويل أمام قلم الرُخَص وبصمت بأصابعها العشرة وحصلت على صحيفة السوابق وشهادة حسن السير والسلوك، ثم ذهبت إلى المستشفى، فأخبروها إنهم يريدون شهادة أخرى تثبت أنها تملك عقارًا يقدر ثمنه بثلاثمئة جنيه، تكتبينه باسم الطفل والطفلة، لكن تحية لم تكن تمتلك شيئًا غير شقتها التي تعيش فيها
ويقدر ثمنها بأكثر من المبلغ المطلوب، فقالت إنها سوف تنقل ملكيتها للطفلين.
عند هذا الحد كان كل شئ مستوفيًا وفقًا للشروط التي وضعها القانون، ولم يبق إلا إجراء واحد؛ أن تجتمع اللجنة التي تقدم لها الأوراق وتفحصها وتقرر ما تراه.
ذهبت تحية وهى سعيدة لتبحث عن شقة أكثر اتساعًا وأكثر ملائمة من الناحية الصحية لولديها الجديدين، واتفقت مع مرضعتين، ثم ذهبت لتسأل اللجنة عما تم في طلبها، فأخبروها أن الطلب قيد البحث. ثم تكرر ذهاب تحية، وكانت في كل مرة تسمع نفس الإجابة: الطلب لا يزال قيد البحث!
فذهبت مرة أخيرة غاضبة لتسأل، وفي هذه المرة صارحوها بأن اللجنة لم توافق على الطلب. كانت تحية قد استشعرت هذه النتيجة من قبل، فانطلقت غاضبة، وفي تصريحات لمجلة صباح الخير قالت: "هل تظنون أن الفن عار؟ ألا تفهمون من الفن إلا أنه عبث مناف للأخلاق.. إن عشرات الأمهات يتمتعن بأطفالهن، وكثيرات منهن أقل جدارة بهذه الأمومة، حياتهن مليئة بالخيانة أو القسوة"، وتابعت تصريحاتها الغاضبة: "هل كُتب عليَّ أن أعيش إلى الأبد في حرمان ثقيل لا لشيء إلا أنني نشأت في مجتمع يضع الفن في مكان خاص..
إن چوزفين بيكر الراقصة الزنجية سمحت لها أمريكا بأن تتبنى أربعة أطفال، اثنان من السود وإثنان من البيض، ويعيش الأطفال الأربعة في قصر كبير خصصته لهم چوزفين، وكذلك جوان كرافورد لديها من الأطفال عدد كبير ولم يعترض عليها أحد.."! ظلت قضية تحية كاريوكا الراقصة والممثلة معلقة، ومن المفارقات أن يحدث ذلك في نفس الوقت الذي وافقت فيه الدولة على إرسال فيلم "شباب امرأة" لتمثيل السينما المصرية في مهرجان كان السينمائي.
مقال انتقاد الراعي علي صباح الخير
لم يكن رفض اللجنة لطلب تحية كاريوكا نهاية للقصة؛ بل بداية لإثارة قضية رأي عام كبرى، ويحسب للكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين أنه أخذ على عاتقه مسؤولية هذه القضية، وكانت مجلة صباح الخير لا تزال وليدة وفي أعدادها الأولى، فأرسل مندوبًا من المجلة إلى المستشفى لتقصي الحقائق على أرض الواقع، ليكتشف مفاجآت لم تكن تحية نفسها على عِلم بها.
ذهبت صباح الخير إلى مستوصف الأطفال اللقطاء بأبي الريش تستطلع الحقيقة، وتواجه الإدارة التي أحاطت حياة تحية كاريوكا بسياج من الحزن والانكسار، لتجد رجال المستشفى في جو آخر، سألتهم صباح الخير فلم يجيبوا بكلمة، وبعد إلحاح قالوا إنهم لا يستطيعون التحدث إلا إذا أمرهم مدير المستشفى بالكلام كتابيًّا، ذهب المحرر إلى المدير فلم يظفر بمقابلته، إذ ظل يتهرب بحجج مدروسة، فذهب إلى عنبر الأطفال، فكان رد إحدى الممرضات: "لا أدري لماذا رفضوا السماح لتحية كاريوكا بتبني الأطفال"..
لكن ممرضة أخرى أخبرتهم بالمفاجأة؛ وهى أن تحية ليست الأولى التي يُرفض لها مثل هذا الطلب؛ فقد سبق أن رُفض طلب فنانتين هما أمينة رزق وفردوس محمد، وتابعت الممرضة: "أذكر اليوم الذي عرفت فيه أمينة رزق أن طلبها رُفض، لقد دمعت عيناها وهرولت هاربة"! رجعت المجلة إلى أمينة رزق وفردوس محمد فأكدت كل منهما الكلام.
بعد أن أصبحت مقابلة مدير المستشفى أمرًا مستحيلاً، ذهبت المجلة إلى عيادته الخاصة فاستقبلهم الدكتور خليل عبد الخالق في شيء من الضيق قائلاً إن تحية لم تتقدم رسميًّا بطلب إلى المستوصف، لترد عليه تحية في تصريحات صحفية "أنا لا أفهم لماذا ينكر مدير المستوصف كل شيء، إن سجلات المستوصف الرسمية تشهد بأنني ذهبت لاستخراج صحيفة سوابق لأتقدم بها.. إن المدير يحاول أن يتخلص بلباقة بعد كل ما فعله وتحملته أنا في استسلام يحز في نفسي..
لقد كان المدير يرفض مقابلتي بعد أن قدمت له كل الأوراق، وكنت أريد أن أعرف منه الرد فليس لي معه أي مصلحة" تسكت ثم تستطرد: "ومع ذلك إذا كان مدير المستوصف يصر على ادعاء الإنكار فإنني على استعداد لأن أتقدم بطلب رسمي مرة ثانية ومعه كل الأوراق المطلوبة".
تغطية مجلة صباح الخير لقضية تحية كاريوكا
مرة أخرى عادت مجلة صباح الخير إلى المستوصف لتتأكد من كلام تحية، فوجدت أن المستوصف، على الرغم من إنكار المدير، قد رفض بالفعل حق الأمومة على ثلاث فنانات هن تحية كاريوكا وأمينة رزق وفردوس محمد، والفنانات الثلاث عضوات في نقابة رسمية تعترف بها الدولة، فما رأي النقابة؟
جاء الدور على نقابة الممثلين، ذهبت المجلة إلى أحمد علام؛ نقيب الممثلين، الذي قال: "أعارض رأي المستوصف بشدة، فأنا أعرف، كما يعرف غيري، أن تحية إنسانة بكل معنى الكلمة، وهي حساسة وقلبها مليء بالعطف والحب.. لقد تطوعت تحية لتكافح الكوليرا التي هاجمت شعبنا جنبًا إلى جنب مع الرجال من الأطباء، حيث كان المرء يهرب من أخوته وأخواته، وإذا أحست تحية بحاجتها إلى عاطفة الأمومة يجب أن تجاب رغباتها، وأنا على ثقة من أن الطفل الذي يعيش في كنفها سيلقى منها كل رعاية".
استرسل أحمد علام وقد ارتسم على وجهه الألم والضيق: "لماذا لا يعاملون الفنان كما يُعامل سائر الناس، هذا شيء مؤلم حقًّا، بل ومثير للاشمئزاز".
ولم تنته القضية عند هذا الحد؛ بل وصلت إلى أروقة الجامعة، فعندما قرأ الدكتور علي الراعي التحقيقات التي نُشرت عن قضية تحية كاريوكا، قرر أن تكون عنوان محاضرته في كلية الآداب هي: "هل سلطات المستوصف مُحقة حينما أنكرت على إحدى الفنانات حق تبني الأطفال"، وأرسل رسالة إلى أحمد بهاء الدين رئيس تحرير صباح الخير لينشره بهاء على صفحة كاملة، وجاء فيها: "تتبعت باهتمام شديد ما نشرته صباح الخير عن قصة الأمومة التي أنكرها أحد مستوصفات مصر القاهرة على الفنانة السيدة تحية كاريوكا
ويظهر أن اهتمامي الشديد صحبني إلى كلية الآداب فوجدتني ذات صباح أعطي طالباتي وطلبتي مناظرة عن هذه القضية، وكنت أتمنى لو كنت معي لتفرح بالعناية الكبيرة التي أظهرتها فتيات الكلية وشبابها بهذه القضية الاجتماعية الكبيرة، لقد وقفت إحدى الطالبات تدافع بحرارة عن حق الفنانة في إسباغ حنانها وانسانيتها على كائن بشري صغير، وكنت أتمنى لو كنت حاضرًا لتسمع رأي الطالب الذي اندفع بحماس الشباب يحتج على التفرقة بين إحدى الفنانات وبين سائر المواطنات،
وكنت أود لو أنك شاهدت نتيجة التصويت على الموضوع، فقد قرر 52 من الطالبات والطلبة ضد 13، أنهم يقفون في صف الفنانة في رغبتها الشريفة في أن تجعل لحياتها معنى بأن تربطها بحياة طفلين... كل هذا ولم نكن نعلم أن الفنانتين فردوس محمد وأمينة رزق؛ قد أنكر عليهما هما الأخريان حق الأمومة، وحق خدمة المجتمع عن طريق العطف على بعض أفراده فهل معنى هذا أن سلطات المستوصف تعتقد أن الفنانات والفنانين في مصر ينتمون إلى طبقة من المنبوذين؟".
تابع علي الراعي في رسالته طرح أمثلة من بلاد العالم المختلفة، وكيف أن تلك الدول تقدر الفنانين بالغ التقدير، وختم خطابه: "أنني لا أدافع عن حق الأمومة للفنانات كإنسان فحسب ولكن كمواطن مهمته في الوقت الحالي هي تدريس الفنون التي يقدمها تحية كاريوكا وأمينة رزق وفردوس محمد وعشرات غيرهن في شكلها الوحيد القادر على تغذية الجماهير ألا وهى خشبة المسرح أو شاشة السينما".
وقد ظلت هذه الرسالة العظيمة عالقة في ذاكرة الدكتور علي الراعي، حتى إنه عاد بعد أربعين عامًا وتذكرها، وتذكر موقف بهاء من تحية كاريوكا، حين كتب مقالاً في رثاء أحمد بهاء الدين في العدد التذكاري الذي أصدرته مجلة المصور بعد وفاة بهاء عام 1996، وقد أشار في المقال إلى قضية تحية ورسالته لبهاء وقتها وموقف طلبة الجامعة.
كان تسرَّب الموضوع إلى الجامعة وإلى الرأي العام في كل مكان، سببًا لأن تمضي المجلة في الموضوع إلى النهاية، ومناقشته من الزاوية الأهم في الواقع هي ماذا يحدث في الحياة لأمهات يعملن في الفن، وما مصير بنات وأبناء هؤلاء الفنانات.
وفي تحقيق كبير تحت عنوان "الفنان الذي رباني" أجريت عدة لقاءات مع بنات وأبناء الفنانين والفنانات، وكانت البداية مع الآنسة بهيرة مختار حسين ابنة نبوية مصطفى الراقصة التي كانت معروفة وقتها، وقد تعلمت بهيرة في مدرسة الأميرة فوزية ولم ترسب قط، ودخلت قسم الصحافة بكلية الآداب،
وقد منحتها والدتها حرية كاملة مبنية على الثقة والتقدير.
تقول بهيرة إنها تفخر بأن أمها فنانة، وأن نجاحها كان بفضل تشجيع والدتها لها. والآنسة فاطمة حسين رياض ابنة الفنان الكبير حسين رياض طالبة بقسم الصحافة.
والأستاذ جمال فارس ابن الفنان عباس فارس درس حتى التوجيهية بمصر ثم سافر إلى لندن لإتمام تعليمه ثم عاد واشتغل بالإذاعة. وتقول ماري منيب: "أنا أم لأربعة أولاد وفنانة مشغولة في الاستديوهات والتياتيرات..
ومع ذلك مربية 3 جدعان ومجوزة واحدة وبربي عيالها دلوقتي"، وجميع أبناء ماري منيب حاصلون على تعليم عالٍ، وتتابع ماري منيب: "إذا كنت أنا ماشية كويس ويتحروا عني ويعرفوا كدا وبعدين يمنعوني.. فدا غلط، ولكن لو لقوني لا أنفع كمربية فلهم الحق وحق الحق في أنهم ما يدونيش أولاد فمش كل فنان زي التاني، وتحية بنت حلال، وربت قبل كدا، وأنا عارفة إزاي ربتهم وهي ست صالحة ولا مانع أبدًا أنهم يدوها عيال".
القراء يدعمون تحية
الآنسة سامية عسكر بنت الفنانة زوزو حمدي الحكيم، فتاة في التاسعة عشرة
من عمرها في السنة النهائية بالليسيه وترفض الزواج لاستكمال دراستها.
وغيرها من الأمثلة التي نشرتها المجلة لأبناء وبنات الفنانين. أما القراء فقد كانت لهم تعليقات مؤيدة، بعضها ظريف، فقد أرسل مدرس يعمل في إحدى مدارس الصعيد، أشار إلى اسمه بالحروف "ب. ع. ب" وكتب: "أنه ليس لديه طفل ليقدمه لتحية وهو يعرض عليها أن تتبناه هو ومستعد للحضور فورًا".
قارئ آخر أرسل قصيدة بعنوان "إلى كاريوكا" جاء فيها:
أنينك مولاتي أسال دموعي وباعد عن طيب المنام ضلوعي
لقد ألحقوا بالفن أبشع تهمة
إذا اتهموه في انتشال رضيع
ولو حملوا قلبًا كقلبك طاهرًا
لما كان في مصر ضحية جوع
قبل أن تسافر تحية كاريوكا إلى مهرجان "كان" لحضور عرض فيلمها "شباب امرأة" كانت تعلم أن مدير المستوصف لم يغير موقفه، مع أن القضية أصبحت قضية رأي عام، ومع أن فئات عديدة من المجتمع تقف في صفها، وذهبت إلى مهرجان كان لتستمر في مواقفها المناصرة للعرب والإنسانية، لكنها أيضا تقابل بهجوم البعض؛ ففي صحيفة الجمهورية كتب الصحفي سامي داود فقرة بعنوان "شريفة مقدسة وجادة"، جاء فيها: "ليست وسيلتنا في القضاء على الصهيونيين أن تبصق تحية كاريوكا على داني كاي.
وتفرش الملاية اللف لسوزان هيوارد... إن معركتنا مع الصهيونيين شريفة وجادة ومقدسة، وليست بالشتائم ولا بالبصق بل بالدماء والرجال، فعندما تلبس تحية كاريوكا الملاية اللف وتبصق في وجه داني كاي في مدينة كان فاسمحوا لي أن هذه البصقة ترتد إلى جبين مصر، لأنها عمل غير مهذب ولا يدل على حكم ولا على اتزان ولا على منطق، وأن يأتي هذا العمل من فنانة تمثل مصر ضمن وفد فني يرأسه مصري ضمن مؤتمر دولي من مؤتمرات الفن والدعاية فهذا شيء كثير!".
عادت تحية من كان، وعاد معها شعورها الحميمي للأطفال، وحلمها الدائم بتبني طفل، وهو الحلم الذي انتظرته طويلاً، ولم تحققه سوى مصادفة، أو قدرًا، في آخر سنواتها، قبل وفاتها بثلاث سنوات فقط، حين وجدت رضيعة على باب شقتها، فأخذتها وتبنتها حتى وفاتها بعد ذلك لتتركها وقد أوصت بها راقصة أخرى هي فيفي عبده!
في 1990، قدم المخرج سمير سيف، فيلم "الراقصة والسياسي"، بطولة نبيلة عبيد وصلاح قابيل، بعد أن اشترت نبيلة من إحسان عبد القدوس حقوق تحويل القصة التي جاءت ضمن كتاب قصصي
بعنوان "الراقصة والسياسي، ويحوي ست قصص، إلى فيلم سينمائي تقوم فيه بدور راقصة تتعنت مؤسسات الدولة الرسمية في منحها ترخيص لإنشاء ملجأ للأطفال الأيتام، لأنها ليست بالقدوة الحسنة التي يمكن ائتمانها على مهمة كتلك!
ولأن الثقافة الشعبية في واد والتوجهات الرسمية للدولة في وادٍ آخر، ولأن الثقافة المحافظة متعددة الطبقات الخفي منها أكثر من المعلن، فغالبًا لا يمكن التنبؤ بما تنتهي إليه الانزياحات الاجتماعية البطيئة الكاشفة، فقد ترفض الدولة عبر مؤسساتها الاجتماعية رفض منح الراقصة تصريحًا كهذا..
فغالبًا لا يمكن التنبؤ بما تنتهي إليه الانزياحات الاجتماعية البطيئة الكاشفة، فقد ترفض الدولة عبر مؤسساتها الاجتماعية رفض منح الراقصة تصريحًا كهذا، ورفضت بالفعل منح ممثلات حق التبني، لكن المصريون يطلقون على مسجد عبد الرحمن الكواكبي في المهندسين اسم جامع فريد شوقي، لأنه يقع بالقرب من بيت ملك الترسو!