من اليسار إلى أقصى اليمين وصولاً إلى صاحب دعوات متطرفة مخيفة مؤثرة على الجماهير المتعطشة للعنف.. هكذا عاش محمد عمارة.. وعلى هذا رحل!
محارب قديم؛ هذا ليس الوصف الأدق لكنه الأكثر رقة، وقد يساعدنا في تكوين صورة عن الدكتور محمد عمارة الذي رحل بينما عالمه يتآكل وتنسحب زهوته بعد أن أصبح نجمًا راسخًا. محاور محترف؛ يقولون عنه في التيار الإسلامي إنه يكتسح خصومه، وبالفعل يمكن أن تجده في الفضائيات يتحدث بمنطق مخيف، ويصدر الأحكام ويوزع الاتهامات ويمنح صكوك الغفران. بلغة أهل السياسة هو “زعيم”، وبلغة الشارع “فتوة”.. لكنه يستخدم في كل ذلك خطابًا وأفكارًا تسحق منافسيه على طريقة مصارعة الثيران. كما كان تقريبًا وهو في تنظيمات الماركسيين السرية..
ذات مرة حكى الأديب إبراهيم أصلان بطريقته الساخرة عن الليلة التي أراد بها أصدقاء من عتاة الماركسيين أن يقدموا له هدية، فوعدوه بلقاء “شخص خطير” في التنظيم.. وإبراهيم أعجبته الإثارة وتحرك فضوله للمقابلة فقالوا له: “سنطلب موعدًا”، وفي الموعد اكتشف أن الأمر ليس بسيطًا، فشعر بالرعب والأصدقاء يحكون له عن تأمين منطقة التوفيقية التي سيتم فيها اللقاء، وشعر وهو يتحرك في الشوارع الضيقة بأنه تحت المراقبة، واختلط الرعب بالإثارة، وانتظر بشغف ليعرف من هو “الخطير” الذي لم يكن سوى محمد عمارة! “زعيم مهم” كل ملامحه تشي بالخطورة والجدية الفاخرة؛ يتكلم قليلاً
وينظر بعيدًا، وفي كلامه تعليمات، حتى وهو يعرض أفكاره.. لم يضحك إبراهيم أصلان وقتها (في الستينيات)، بل ضحك بعدها بسنوات وهو يحكي لي الواقعة، بينما أصبح “الزعيم الخطير” يحمل لقب “دكتور” في الفلسفة الإسلامية، ويرتدي عباءة ريفية على بدلة موديل السبعينيات، ويظهر في الفضائيات باعتباره مرجعًا إسلاميًّا وشيخًا لا ترد له فتوى. والشيء الأساسي الذي لم يتغير هو لغته الخطابية وطريقته في تقسيم العالم إلى قسمين “معنا” و”علينا”، أو بالمصطلحات الجديدة “معسكر الخير” و”معسكر الشر”، وهي مصطلحات كان يحبها ويتحرك بها كل من بوش وبن لادن..