لساعات طويلة، وقف رفيقي في التدريب مُظهرًا لي يده كي أحاول اقتناصها. ولأوقات طويلة أمسكت رفيقتي في التدريب بقلم في يدها، مشيحة به كلما حاولتُ التقاطه من بين أصابعها. أحيانًا ـ بل كثيرًاـ كان القلم يطير من قبضتها في عنف الخطفة السريعة ليدي، ويصطدم بوجه واحد من المتدربين بجانبنا، فنتأسف بخشونة وبلا مراعاة؛ على اعتبار أنهم تلقوا ضربات أعنف من هذه من قبل ولم يصبهم شيء، ثم نعاود الكرَّة. بعدها بدقائق يطير القلم في عيونهم من جديد.. كنا نتدرب على الـ “تشين نا” Chin Na..أو فن الإمساك والإطباق على المفاصل كجزء من التدريب على
مهارات الشاولين والتاي تشي تشان، وهما من الأساليب القتالية الشمالية تاريخيًّا في الصين. الأسماء الناعمة لحركات التشين ـ نا كطائر الكركي الأبيض يومئ برأسه؛ ارفع الكوع كي تكسر الجناح، الكركي الأبيض يغطى جناحيه، الدوران حول الجنة والأرض، واليدان ترفعان الجيتار، هي مجرد إشارة لما يحدث بين المتدربين فالأمر ليس مقتصرًا على اقتناص يد مهاجمك، بل هذه فقط الخطوة الأولى للتحكم سريعًا في مفاصل ذراعه؛ بحيث تصبح أدنى حركة يقوم بها مؤلمة، إن قرر أن يتحرك.. بقبضتك تلوي وتضغط مفاصله، فالتركيبة العظمية للجسد البشرى لا تسمح بالدوران الكامل
للـ 360 درجة حتى مع أكثر الأجساد مرونة. احتجت إلى كثير من التدريب حتى استطعتُ ـ أحياناـ إيجاد الزاوية الصحيحة للي، وملء الفراغات في المفاصل حيث تعطيني أصابع أخوتي في التدريب المعصم، ويعطيني المعصم الكتف، وهكذا… أحيانًا، وبطريقة غير واعية أصبحتُ أرى الأجساد فجوات وأوعية ومناطق للضرب، ومناطق لحمايتها. لذلك عندما مد الشاب على الرصيف يده ناحيتي، لم يكن، فعلاً، مدركًا لما يمكن أن يصيبه. ولا أنا في الحقيقة كنت مُدركة. للجسد حياة خاصة به. لا يأخذ جسدي، أو جسد أي أحد أعرفه، رأي صاحبته أو صاحبه في
أكثر من 99٪ مما يفعله. وقد سلمتُ بحقيقة أن العين والعقل واليدين ينتمون إلى الجسد أكثر مما ينتمون إلى صاحب الجسد.
كل ما حدث أن عيني رأتا يدًا تمتد تجاهي، وفي لحظة بدا أن جسدي دخل مود تلقائي مُدمج، كبرنامج جرى تفعيله، فساعات وشهور من التدريب لم تقف عن اقتناصي ليده؛ بل اللي السريع، ودفع مفاصل ذراعه إلى زاوية مؤلمة؛ زاوية تدربت على إيجادها كثيرًا. كانت عسيرة جدًا، ومستحيلة الإيجاد في البداية، ولكنها الآن ـأحياناـ طبيعة ثانية، شبه مهارة تمتلكها يداي. حتى دون التكنيك الصحيح لا شك أن قبضي لحظيًّا على أوتار مفاصله قد أصابته
بقدر لا بأس به من الألم، زد عليه ألم المفاجأة… فالمعتدى مهما كان من خيلائه داخل نفسه، هو في النهاية جسد، والأجساد تذعر من المفاجأة.
أراد أن يفاجئني فكنت مباغتة صغيرة له. أدركتُ ما أفعله، فتركتُ يده بدفعة خشنة، أخذها ومضى. ثانية على الرصيف حدثت فيها أشياء كثيرة، ولكن لمراقب بعيد لم يحدث شيء فعلاً.وبغض النظر عن الابتسامة البلهاء التي اعتلت وجهي طوال مشيتي الليلية بعدها، عدتُ إلى المنزل ببعض الأسئلة… لماذا توقفتُ فور أن أدركتُ ما أفعله؟ الإدراك أتى سريعًا، ولكن ردة فعل جسدي أتت أسرع؛ أسرع حتى من ملاحظتي، لأن هناك يدًا تمتد
لا يأخذ جسدي، أو جسد أي أحد أعرفه، رأي صاحبته أو صاحبه في أكثر من 99٪ مما يفعله!
بالسوء ناحيتي.
وماذا كان ليحدث لو كان تدريبي مكثفًا عن هذا؟ متى كنتُ سأتوقف؟ كنت أقل رفاقي تمرينًا، ومع هذا يأتي استعراض أجوف للمهارات.
ولكنى أدركت أن تكرار التمرين فعل شيئًا ما، زرع شيئًا تلقائيًّا داخلي.. شيء ما جرى “تسكينه” بجسدي، بحيثُ لم أعد أفكر كثيرًا، أو تعترضني المشاعر عندما تمتد يدا مباغتة تجاهي، وهي تنوي الأذى.. لم أعد أغضب أو أشهق أو أتفاجأ، أو تتلعثم قدماي متراجعتين، تبحثان عن مكان لهما، مزيحتين نفسيهما، مفسحتين المكان للجسد المتحرش كي يأخذ ما أراده من المزيد من المجال العام.
كموجة منطلقة من المياه الضاربة، لا يمكن إيقافها..
لا تردد، التردد يعوق العقل. من قبل كانت الأجساد مخيفة لي، لم تعد كذلك، وما أسوأ ما قد يحدث فعلاً؟“ أخذها ومشى” هكذا كانت دومًا تنهى هذه التفاعلات الصغيرة معي على الرصيف. كنت أحكى لصديقة أمي عندما سألتني عن جدوى تعلمي كونج فو ، عن هذه التفاعلات الصغيرة على الرصيف، فكان رأيها أن الشاب أحيانًا ـ أو دومًاـ يمشى بعدها دون كلمة لأنه يعلم أنه مخطئ. لكن مع تكرار الإعطاء للأخذ والمضي على الرصيف، كان لي رأي آخر. ليس لأنه يعلم أنه مخطئ، بل لأن جسده فوجئ.
ليس شعورًا جيدًا أن يطبق أحدهم على يدك ويجذبك، وهذا ما يحدث فعلاً، هذا ما أراده من مدة يده نحوي بتلك النظرة المعتدية العابثة، أن أن يفاجئني أكثر من أي شيء آخر، أن يصيبني بشيء من الذعر. قلت لنفسي: حسنًا.. على الأقل هذا جسد لا يذعر، بل يدخل في مود فِعل. من قبل كنت أعتذر عندما يخبطني أحدهم في الشارع. كنت آخذ الخبطة في كتفي، أو أي ما يكن، وفورًا كنت أجدني أعتذر: أوه آسفة! ربما لهذا علاقة بكوني فتاة، وبالهياكل الضمنية التي نمشي فيها في الفضاء العام بين حارات السيارات والطرق والأرصفة والبنايات، ربما لأني أتوقع ألا يصطدم بي أحد!
ليس شعورًا جيدًا أن يطبق أحدهم على يدك ويجذبك..
أحيانًا ـ كثيرًاـ لم تكن الدفعة أو الخبطة غير المقصودة، بل كان التحرش هو المقصود، حينها كنت ألوم نفسي، وأدفن طينة صغيرة من الغضب داخلي. “آخذها وأمضى”، لأنني لم أكن منتبهة، أو لأنني لم أقلص الفراغ الذي أشغله، أو أراعي تضخم الفراغ الذي يشغله المتحرش، ولم آخذ على كاهلي الابتعاد عنه (ففي هذه المعركة الجسدية على الأقل فلأكن الطرف النبيه). أو ببساطة لسوء البيئة أو المدينة أو الثقافة التي أعيش بها. أحيانًا ـ طول الوقت ـ ألقي باللوم على تغاضى الدولة عن التخطيط المعماري الجيد للمدن، وتناسي الأرصفة، وترك المواطنين يتخبطون في بعضهم هنا وهناك.
فكنت “آخذ وأمضى”، حتى خبطات السيارات.أصبحت بشكل ما غير متفاجئة من أن المدن الجديدة تقام أساسًا للسيارات، لا للأجساد. فيكون الوقت الوحيد الذي تصبح فيه جسدًا، عميقًا داخل بيتك، بين الجدران الأربعة، أو الخمسة، حسب براعة التصميم والتسويق. تقليص النفس موهبة (فطرية؟ أم ضرورة تأقلم؟) تعرفها الفتيات. كتف يتلوه الآخر في المرور بين الفراغات الممتلئة بالأجساد المشرعنة، والتي تملك عقود ملكية لأي ما كان الفراغ التي تشغله. التلوي يمينًا ويسارًا، والمشي على
طراطيف الأصابع؛ عدم اتزان فظيع يلقي بدلالاته على العقل والروح مع مرور الوقت، هذه هي الرقة الأنثوية كيفما ابتدعها “المود” الرجولي، حسبما أفكر. كان هذا يحدث عندما كنت مراهقة، وعندما كبرتُ في العمر قليلاً، أردتُ أن آخذ مساحتي لفظيًّا؛ بأن أقول شيئًا ما حينما يدفعني، أو يسيء لي أحدهم جسديًّا. وكنت أخبر نفسي أن هذا ضروري. لم أكن واعية، إلا بمقدار ضئيل، للديناميكية غير الواعية بين الأجساد. كل المفاوضات والمساومات والدفعات الصغيرة ما بين جسدين متقابلين، أو متجاورين.. جسدان يتقاطع طريقهما في منتصف
طول الوقت ألقي باللوم على تغاضى الدولة عن التخطيط المعماري الجيد للمدن، وتناسي الأرصفة!
الطريق كسفينتي حرب في مجرى المياه.. تفاهمية صغيرة تحدث بين الأعين، بينما يتقابل جسدان على الرصيف، عادة تمر بإطراق أحد العينين وأخذ الأخرى للفراغ الذي كان يُتساوم عليه. ما الذي يجعل فتى في الأساس، يمد يده ناحية فتاة تمشي في مواجهته على الرصيف؟ هل كانت مدة يده تلقائية كذلك وغير واعية؟ شيئًا تدرب عليه كثيرًا (هي والابتسامة السمجة على وجهه)؟ طبيعة ثانية؟ أم شبة مهارة امتلكتها يداه؟ كان فيها شيء من التلقائية، نعم والتكرار. كونج فو ، بحسب التعريف العام الذي نعرفه هو فنون القتال..
عندما تمتد يد نحوي..
ولكن الكلمة في معناها اللغوي تشير إلى بذل الكثير من الوقت لتعلم وصقل مهارة بحيث تصبح لا إرادية في الجسد. تتعلم ثم تتدرب ثم تنسى. جعل غير الطبيعي، طبيعيًّا. لاكتساب هيئة غير واعية وجعلها تتأصل في الجسد كطبيعة أولى. فالجسد بعد التدريب يعود بأسلحته وبمهارته كي يصبح جسدًا من جديد. يقول الحكيم: في البداية كنت أرى الجبل جبلاً، بعدما زادت معرفتي، حتى وصلتُ إلى نقطة أصبحتُ لا أرى الجبل جبلاً، الآن وبعدما فهمتُ جوهره، أصبحتُ أرى الجبل جبلاً، الآن وبعدما فهمتُ جوهره، أصبحتُ أرى الجبل جبلاً من جديد”.