من بهو عزلتها تحكي هدى بركات في هذا الحوار كيف أنها رحلت عن بيروت ولم تأخذ الوطن معها، وعندما كتبت كانت هذه المسافة سورًا يحمي الفن من شرك الفاجعة!
وصلت متأخرًا، وليس هذا جديدًا تمامًا؛ الجديد أنني لم أكن السبب، ولا ترددي الدائم في الخروج ومقابلة العالم، هذا التردد يأكل نصف الوقت أو أغلبه، لكن هذه المرة كان الطريق شبه مغلق بسبب خطة تطوير القاهرة، وإعادة هندستها بمحاور تجعلها ممرًا إلى العاصمة الجديدة..
استغرق الطريق ثلاث ساعات كاملة بدلاً من نصف ساعة تأخرت فيها على لقاء هدى بركات في حفل تقديم الطبعة المصرية من كتابها “رسائل الغريبة”، (فبراير 2022).
ابتسمت أمام الميكرفون وأنا اعتذر لهدى باسم”خطة التطوير” التي
عطلتني عن واحدة من مرات نادرة أشارك فيها في لقاءات عامة.. وأنا الكسول الذي لا يرى في كل حركة بركة، وردت هي ردت على الاعتذار بابتسامة: لكنني عزيزة عليك!
محبتي لهدى بركات بدأت بالكتابة منذ قرأت “أهل الهوى”، وبعدها أكملت “حجر الضحك” و”حارث المياه” حتى “بريد الليل”، وتراكم عندي كتالوج من الشفرات التي عملت عليها جيدًا؛ تسللت بعيدًا عن الدراما، مع أنها قريبة من الدراما.. أصابعها في لب الدراما.. متأثرة بها.. تعيش داخلها.. لكنها خلقت مسافة بعيدًا عنها، وهذه المسافة هي سر كتابة هدى بركات،
وغالبًا سر حياتها؛ فهي إمرأة تبدو هادئة جدًا.. لكنها بالغة الصخب من الداخل، قد تبدو متحفظة وأنيقة في اختيار تعليقاتها، لكنها لا شك تملك حسًّا ساخرًا وغاضبًا للغاية من العالم.. راقبت هذه المسافة في قرائتي الأخيرة لـ”رسائل الغريبة” واكتشفت اللهاث الذي بين السطور.. بينما تبتعد هي وتكتفي بالفرجة؛ هذا اللهاث يجعل القارئ في حال من الترقب والفرجة والتردد إزاء اتخاذ قرار بشأن ما يقرأ.. وقد يزعج هذا عشاق الأحداث وتطورها، ومنتظري الفوران، لكنها تجيد أن تأخذك بهدوء إلى أعماق الذين يصنعون أحداث الرواية.