تعلمت شيئًا على الأقل، شيئًا يضع لي جذورًا في هذه الشوارع المالحة، التي كان يمكنك أن تتنبأ بالغنج وراء مصاريع نوافذها الرطبة، بالضحكات!
يتوقف الترام عند كامب شيزار، تظهر كلمة “المعسكر” مكتوبة بخط النسخ. الترجمة المجتزأة باهتة. وتشير إلى الحقبة التي كنا نعيشها، أكثر مما تسمي الحي الذي نسكنه. اسم محطتي “كامب شيزار“. لم أشعر قط أنه اسم أجنبي. ولم يكن وقعه عربيًّا بالتأكيد. لقد بدا لي في طفولتي خاليًا من المعنى، وجميلاً بسبب ذلك. تنادي امرأة من آخر العربة “والنبي يا أخويا دي محطة كومبا شيزري؟“.. هنا أيضًا تظل الهُجنة جميلة. الهجنة التي أحببت لأجلها هذا المكان باعتباره ليس لأحد.. تُشعرني “كامب شيزار” كلها بالخوف، مع أنني لا أمر بشارع فيها إلا وألتقي بوجه أعرفه أو يعرفني.
تعلمت شيئا على الأقل، شيئا يضع لي جذورًا في هذه الشوارع المالحة، التي كان يمكنك أن تتنبأ بالغنج وراء مصاريع نوافذها الرطبة، بالضحكات، بالخبط والرزع المفاجئ الذي تعقبه صرخات وخناقات شوارع. إبراهيم عيسى المونولوجست الذي يغني في الكباريهات القريبة يسكن في غرفة فوق سطوح بيتنا. يقف ساعة العصر أمام باب المنزل بفانلة داخلية. يشخط فيه عم علي العجلاتي الذي تربى على يد الأجانب: اختشي على دمك.. إنت فاكر نفسك فين؟ المونولوجست خفيف الظل ذو الفروة الكنيش والوجه المتهكم. انتهت حياته هنا أيضًا متنقلاً في نومه بين الأرصفة. شعره الكنيش طال جدًا
وبدا ملبدًا خشنًا ومعقودًا كالمجاذيب. بيتنا كان قريبًا من قسم الشرطة، ولا يفصلنا عنه إلا أرض فضاء خربة أقيم فوقها فيما بعد مسجد لا يكتمل بناؤه أبدًا. في ليالي الشتاء كان السكارى المنسحبون من بارات الكورنيش يتوقفون دون سبب واضح في شارعنا، أصواتهم العالية المتكسرة كانت تصمت فجأة أو تعقبها صفعة قوية. نقطن الطابق الأول. هكذا كانت ظلالهم الممطوطة تمر عبر خصاص الشيش في الليل، متعرجة وطويلة جدًا تنقض عليَّ من السقف. عرفنا مبكرًا جدًا كيف نميِّز المخبرين. وصارت لي حاسة خاصة بالتيار العميق للخناقات، لبداياتها الغامضة، المسرح اللامعقول، اليأس من