عبده داغر، ليس اسمًا يمكن للمدينة أن تنساه، فهو الذي منح لحزنها لحنًا وترك بصمة أصابعه لا على كمانجته الصغيرة بل على صخب الشوارع!
في طريقي إلى مسجد الحصري بـ 6 أكتوبر، مع صديقي الموسيقار علي خطاب حيث صلاة الجنازة على العازف المصري الكبير عبده داغر، همس كلانا بالفجيعة والخسارة الموسيقية التي سيتلوى بها تلاميذه؛ فعبده داغر ليس مجرد عازف فطري مهم في تاريخ الموسيقى المصرية، بل مدرسة مستقلة بذاتها، من أول تصنيع الآلة الموسيقية، ومرورًا بالمقامات الموسيقية والتأليف والعزف..
لم يخل بيته ليلة من العازفين، وبراد شايه لم يكف عن الغليان فرحًا بهم، وسيظل علامة فارقة في وجدان جيلنا وأجيال قبلنا وبعدنا، كلها استمعت إلى كمانه في صولوهات مطولة، مع عدوية
وروح الفؤاد ومداحين شعبيين، ومطربين كبار كأم كلثوم، ومشايخ في قمة مجدهم الروحي والموسيقي كالشيخ محمد عمران..
لقد عاش الفنان الكبير ومات عازفًا مصريًّا مستقلاً، لا يتبع مؤسسة ولم يكن يومًا رجل دولة، مع أنه لو في بلد أخرى لمنحته الدولة مقرًا أثريًّا ليستكمل مدرسته العريقة، وتوثق له نغمه وعلمه، وتشير إليه بنصف الفخر والاعتزاز الذي يحظى به في البلاد الأوروبية.. لقد خالطت موسيقيين من كل العالم كلهم يعرفونه وسمعوا موسيقاه، وهو صاحب مقطوعة إخناتون ودولاب حجاز، والنيل، فنان مصري فطري لا يقرأ ولا يكتب، لكن
مدرسته مفتوح بابها على مصراعيه في منزله، منذ جاء من طنطا في ليلة شتوية في الخمسينيات..
وكان أكثر ما أدهشني في الفنان عبده داغر هو ذلك الحرص اليومي على إملاء كل ما تعلمه لتلاميذه؛ يجرب أعوادهم بأنامله، ويعزف على كمنجات أصغر واحد فيهم، ويضبط المفاتيح بدأب وصبر.. خسارة فادحة خسرتها الموسيقى المصرية لا يعرف حجمها إلا نحن الفنانين المستقلين، لن يكون هناك ليال في منزل عم عبده في الحدائق، تلك الرحلة التي كلما قطعها أي تلميذ من تلاميذه ارتسمت على وجهه ابتسامة لا تختفي ما دام يستمع إلى حكايات عم عبده الأسطورية، حيث أسماء النجوم