لحظة الحداثة لم تكن بالطبع هي لحظة اكتشاف المدينة لقدرتها على الإماتة، بل هي لحظة تفجر هذه القدرة إلى أبعاد غير مسبوقة!
سياسات المدينة وعلاقة نمط حضورها بالرحم
تناولنا بالتحليل علاقة فضاءات الرحم/المعمار، وكيف أدى ذلك إلى تدشين ظاهرة الخلود، وهو ما جعل المدينة، حتى قبل ظهورها، في غير حاجة إلى إبداء أي اهتمام خاص بمقاومة ظاهرة الموت، فبرغم أن المدينة ظهرت بينما لم يكن فضاء ما هو إنساني يحتفي إلا بالحياة، فإنها بالمقابل أسست تنظيمها الداخلي لمجال حضورها اعتمادًا على الموت بوصفه ما يتيح لها أن تعيد إنتاج ذاتها، ومن ثَم فهو ما يمنحها الفرصة لتجديد قواها ونشاطها، ومن هذه الزاوية سيبدو الموت (موتنا!) وكأنه يعزز فرص المدينة في الحياة..
فلولاه لاستيقظت المدينة ذات صباح وقد أصبح كل أفرادها غير قادرين على الاستجابة لما تطلبه منهم من حركة تملأ فضاءها وتحافظ على توازنه، وعلى هذا النحو ستستخدم المدينة الموت كأحد وسائلها في تنظيم ذاتها، ولقد عرضنا من قبل لإحصائية تقريبية عن الملايين الذين قتلتهم مدينة الحداثة من مواطنيها، وكما نعلم، فمدينة الحداثة هي أعلى مراحل التنظيم الذاتي للمدينة على وجه الإطلاق، غير أن لحظة الحداثة لم تكن بالطبع هي لحظة اكتشاف المدينة لقدرتها على الإماتة، بل هي لحظة تفجر هذه القدرة إلى أبعاد غير مسبوقة، فقبل المدينة كان قتل إنسان لآخر حادثا محدودا سواء وقع
بشكل فردي أم قامت به الجماعة على سبيل العقاب، أما المدينة فقد اخترعت حدث “الإعدام”، والذي لا تعد عملية القتل سوى جزء بسيط للغاية منه، مقابل تلك العمليات الطقسية التي توالي نشره داخل ترابطات الفضاء المعرفي لأفراد المدينة، بحيث تقدمه بوصفه حدثًا يمكن أن يطال أيا منا، وتحرص على إقحامه دائما في مجال حضورنا على نحو لا يمكن تجنبه أو تجاهله، بحيث تدشنه كأفق مشهر يؤطر أفعالنا ويحكمها. ولكن لم يكن للمدينة أن تحتفي بالموت على هذا النحو لولا علاقتها المستقرة بالرحم بوصفه ما يعيد إنتاج الحياة لأجلها،