عكس سرديات تاريخية شائعة تكاد تقطع بهمينة الرجال على تاريخ المدينة، توجد سردية موازية تشي بحضور طاغٍ للمرأة، تمارس سلطاتها الروحية وإن وراء حجاب!
عطر المدينة بين سيدتين
استيقظت على صوت جارتنا تنادي باسمي، كنت وقتها في سنة الليسانس، انتظر ظهور نتيجة الفصل الدراسي الأخير، "هتنجح بس ستنا زينب قالت لي في المنام لازم تزورها الأول" هكذا قالت، فما كان مني إلا الذهاب إلى جامع السيدة زينب لكي يتحقق المراد. كانت هذه المرة الأولى التي أدخل فيها العالم السحري لمدينة القاهرة، عالم تسيطر عليه النساء وتشكل أبعاده الروحية، لم تكن زيارة السيدة إلا تجربة كشفت لي عن عوالم القاهرة المدهشة التي لا تظهر على السطح، مع الوقت اكتشفت تفاصيل مدهشة عن الحضور
النسائي الطاغي الذي يشكل روح المدينة، حيث تلعب المرأة الدور الرئيسي في تشكيل طبقة لا ترى بالعين المجردة بل تمارس فعاليتها من وراء حجاب، وتنسج شبكة علاقاتها بخيوط سحرية لا تُرى.
تتحول نساء القاهرة إلى مجندات في جيش سري غير منظور، ينشر الديانة الشعبية التي تحمل جينات مصر الحضارية، وتتراكم فيها تجارب التدين التي لا تعترف بحدود الدين الرسمي، يتحول التدين هنا إلى تجربة معاشة، تنقل شفراتها المصريات إلى الأبناء والبنات، يحرصن على توريثها وبقاء طقوسها حية في النفوس، وتلعب المرأة
المصرية هنا الدور المهيمن على الفضاء الاجتماعي، بصورة عادة ما نتكاسل عن دراستها، إذ احتكرن هذا الحيز وهيمن عليه في الوجدان الشعبي.
سيدة الدار
تتحول السيدة زينب في الميراث الشعبي ذلك إلى نموذج يرث ما قبله من نماذج نسائية تلخص معاني التحمل والإباء ورمزية الصمود، بداية من إيزيس التي لم تنكسر بعد مقتل زوجها أوزوريس، مرورًا بالسيدة مريم البتول التي صبرت على ما نال ابنها من اضطهاد. هنا يتجلى التواصل الحضاري المصري الذي ينبني على أن الأصل هو المرأة، سيدة الدار حجر الزاوية في أسر المجتمعات النهرية.